تجليات البعد النفسي في رواية «جرائم الغراب السبع» لخالد أمين
عرار:
هازار محمد الدبايبة إنَّ تمرُّدَ الروايةِ الجديدة على القوالبِ الكلاسيكية والمسارِ الخطي، واعتمادها التنوعَ الأيديولوجي وتعدديةَ الأصوات حرَّرَها من قيودِ التصنيفِ القديمة، لا سيما أنَّها تتخلى -في معظمها- عن النظرةِ الشموليةِ للمجتمع، لتعتنقَ نظرةً خاصةً متمحِّصة في ثنايا الفرد؛ فتغوص في أعماقِ النفسِ بصراعاتِها وتناقضاتِها وهواجسِها. ولمجاراةِ هذه الفوضى الشعورية فإنَّها تنسلخُ عن مفهومِ الوحدةِ والترابطِ السردي إلى رؤيةٍ تفكيكية تسعى إلى كسرِ روتينية البناءِ السردي واستقرارِه. وتُعدُّ رواية «جرائم الغراب السبع» لخالد أمين، الصادرة عام 2024 عن دار دوِّن إحدى هذه السرديات التي تنطلقُ من التجربةِ النفسيةِ الغرائبية، لتنزاحَ إلى فضاءاتٍ حُرَّة تستخدمُ تيارَ الوعي، وتتوغلُ في عالم اللاشعور الذي لا يعترفُ بالحدودِ والأُطر. يبدأُ الكاتبُ أحداثَ روايتِه باستشرافٍ يقدِّمُه لمصيرِ أولى شخصياتِ المَحكية ظهورًا، ويستمرُّ في تجهيزِ وتهيئةِ القارئ للحظةِ مقتلِها «لم يكن يعلم أنَّه لن يعيشَ ليُكملَ الثانية والعشرين من العمر»، «لم يرَ اليد التي ارتمتْ على زجاجِ نافذة غرفة المعيشة، ربما لو رآها قبل أنْ تسقطَ تاركةً أثرًا من الدماء خلفها لظلَّ حيًّا»... فيظنُّ الأخيرُ أنَّه على أعتابِ حكايةٍ من النوعِ البوليسي، قبلَ أنْ يقودَه الساردُ ببطءٍ وخفة إلى منطقةٍ نفسية عميقة، فيدخله إلى أغوارِ شخصياتِه الإشكالية المركَّبة، ويشركه في تحليلها سيكولوجيًّا. ولا تعتمدُ الرواية البناء الدرامي التقليدي، بل ترسمُ حالةً شعورية تستندُ إلى تدفقِ الوعي المستمر للشخصيات، وتحتكمُ إلى حبكةٍ مفاجِئةٍ وقوية، ومليئة بالتحولات والانحرافات التي تكسرُ أفقَ التوقع لدى القارئ، فيظلُّ في حالةِ تأهُّبٍ ويقظة، آخذًا على عاتقه مهمةَ إعادةِ ترتيبِ المشهد، ورسم الصورة وفقًا للمعطيات الجديدة كلَّ مرة. ويوظِّفُ الكاتبُ السردَ المتقطِّع (غير الخطي) لتحقيقِ هذه الرؤية الفنية؛ حيث يتخلى الزمن عن منطقيَّته وترتيبه، ويتَّسمُ -معتمدًا على تقنيتي الاستباق والاسترجاع- بالتداخل والدائرية. وكما يستندُ الكاتب إلى هذه المفارقات التي تُخرِجُ الزمن عن مسارِه التقليدي، وتمنحُه حركتَه التردُّدية _فإنَّه يوظفُ كذلك تقنيات سردية أخرى كالخلاصةِ والقطع التي تزيدُ سرعةَ الإيقاع، وتحافظُ على مستوى تصاعدي للأحداث، مبقيةً القارئَ في حالةٍ من الإثارةِ والتشويقِ حتى النهاية. ويقومُ العملُ في أساسِه على سلسلةٍ من الصراعاتِ الداخلية التي تتأزَّمُ في بواطنِ الشخصيات، وتقودُها إلى الاختلالِ النفسي، وذلك نتيجة صدماتٍ فاقتْ قدرتَها على الاستيعاب؛ فخرجتْ إما بهُوية مشوهة، أو بهويات متعددة تكافحُ من أجلِ دمجها، بل وانسلخَ بعضُها عن نفسِه تمامًا وصار يمثِّل حالةً من التشيؤ؛ فشخصيات المسرح (شابلن، آزورد، أرابيلا، كاليجورا) لم تعدْ شخصيات ذات وعيٍ مستقلٍّ يعبِّرُ عن كينونتِها وطرائقِ تفكيرِها الخاصة، بل لم يعرفْها القارئُ أبدًا بأسمائِها الحقيقية، وإنَّما صارت امتدادًا لوعيِ الشخصيةِ الرئيسة (د مصطفى) الذي سيطرَ على أذهانِها، وطمسَ هُوياتِها، وأحالَها إلى رموزٍ تعبِّرُ عن مواقفَ وأيديولوجياتٍ اختارها بنفسه؛ فصارتْ في حالةِ اغترابٍ تام عن ذواتِها، دون أنْ تعرفَ حقيقة أنَّها تعيشُ هذه الحالة، باستثناء «عبير» (غادة الكاميليا) التي كانت تمثِّل وجودًا رمزيًّا للأمل في هذا العالمِ العبثي المتشظي، الأمل الذي يوقظ الرغبةَ الكامنةَ في أغوارِ النفس للسعي وراءَ الأنا، وصياغة الواقع من جديد، وإعادته إلى نصابِه المنطقي. «شعرتْ عبير بامتنان مفاجئ لكونها شخصية خيالية داخل عقل مصطفى، ثم انتابتها فكرة عجيبة، أليس من المفترض أن تعتقد شخصيات مَن هو مصاب بتعدد الشخصيات بأنهم حقيقيون ويتصارعون على جسده فحسب؟»، «ورغم عنها تساءلت عن كيفية امتلاكها ذكرى لإسماعيل يس، هل تنساب إليها ذكريات مصطفى؟»، «هناك ذكرى خافتة تلوح في عقلها.. نظرت عبير إليهم مجدَّدًا، ثم للوحة وللأطياف الأربعة.. صراع يدور داخل عقلها، صراع هوية وإدراك للحقيقة». وقد مثَّلتْ شخصياتُ هذه المحكية مذاهبَ مختلفة تعتنقُها النفسُ بعد تعرضِها لصدمةٍ عظيمة مفاجِئة تفوقُ القدرةَ على التحمل، وقد اختلفتْ هذه المذاهب وفقًا للظروف البيئية المحيطة، والتأثيرات الخارجية التي تفرضُ سيطرتَها على الإنسان، فضلًا عن الخلفيةِ المعرفية والأخلاقية لهذا الأخير. إنَّ هذه الشخصيات المأزومة، والتي تعاني قلقًا وجوديًّا، وتتأرجح بين انشطار ذواتها، واغترابها عنها _ظلَّت على طول خطِّ السرد تعتمد على الراوي العليم (كُلي المعرفة) في الكشف عن خباياها، وتسجيل الجو الباطني لها. وقد منحتْ الرؤيةُ من الخلف هذا الراوي معرفةً كانت تفوقُ أحيانًا ما تعرفُه الشخصيةُ عن ذاتها. واستطاع عبر المونولوج الداخلي غير المباشر (الحوار الصامت) أنْ يهيمنَ على الصوت الجواني لهذه الأخيرة؛ فتناولَ أزمات كينونتها، ورصدَ خلجاتِها وانفعالاتها وهلوساتها، بل وغاص في أحلامها؛ ليكشفَ للقارئ عن أعظم حاجات الشخصية وأعمق مخاوفها. وعبر عالم الأحلام استطاع الكاتبُ أن يعزِّزَ الصبغة الفانتازية للعمل، وأنْ يسترسلَ في خيالاتٍ ميتافيزيقية دون أنْ تحدَّه أطرُ المنطق وقوانينُ الواقع، مستعينًا عليها بمشاهد طويلة ارتكزت على التشخيص والأنسنة. وقد عملت هذه مجتمعة على إعلاءِ الصوتِ الفلسفي للسارد، وزيادة حدة التوتر، وتعميق طالع الرعب النفسي المغلِّف لجو الحكاية. «في زقاق خلفي انهالَ العبث بالركلات على جسد المنطق الذي تكوَّرَ على نفسه»، «وجوار العبث وقفت الفوضى بفستان شرقي يكشفُ جسدها كلَّه». ولا يكتفي السارد بنقلِ الحوارات الداخلية، بل إنَّ مشاهدَ الذاكرة (الفلاش باك) التي يُفترض أنَّ إحدى الشخصيتين الرئيستين «رنا» قد تلفَّظتْ بها، ونقلتْ أحداثَها بنفسها، كانت تخضعُ كذلك لصوتِ الساردِ الأوحد، فظلَّت الشخصية تتحدثُ بلسانه في مساحةٍ أدبية كبيرة شغلتْها هذه المشاهد، فلم يكن يقطعُ هذه الأحادية إلا المقاطع الحوارية الصريحة بين الشخصيات؛ حيث تتحرَّرُ هذه الأخيرة من سلطة الراوي، وتبدأُ في رسمِ ملامحِ الحدثِ القصصي بنفسِها. «واختفت شتى المشاعر في داخل مازن، وهو يعلم هُوية القادمِ مُسبقًا، في حين قامت رنا مسرعةً وفتحت الباب لتُدخلَ عادل.. دخل خطيبُ أخته السمج بابتسامةٍ واثقة وجلس معهم على المنضدة دون حتى أنْ يبادلهم التحية.. هنا تنحنحَ مصطفى وابتسمَ قبل أن يقول: لقد دخل وانضمَّ لكم على العشاء دون حتى أن يبادلكم التحية؟ أليس هذا غريبًا؟» وتذوبُ الحدودُ الفاصلة بين الواقعِ والخيال في عالم الرواية، وتنهارُ الحواجز بين الحقيقةِ والوهم ليصيرا فضاءً واحدًا عبثيًّا وبلا حدود. وعبر هذا التلاشي والتداخل بين العالمين الذي يقومُ عليه ويعزِّزُه السرد الغامض يظلُّ القارئ في منطقة ضبابية، لا يقدِّمُ له السردُ فيها أجوبةً شافية؛ حيث أنَّ قوة العمل لا تكمن في إعطائِه حلولًا تقليدية، أو سعيه لإيجادِ نهايةٍ لأزمات الإنسان المتشظي، وصراع العوالم التي تخلِّفُها الذات المنشطرة، والهُوية غير الثابتة ومتعددة الأوجه، بقدر ما هي قدرة على صياغة هذه الأزمات والاضطرابات، وإقحام القارئ بخفةٍ وحذاقة في تداعيات الذات وتعقيدات اللاوعي؛ فيجد القارئُ نفسَه متورطًا في مساحاتٍ غير محدودة تحكمها صراعات الأنا في بحثها عن الهُوية، لذا تظلُّ كثير من أحداث المحكية متأرجحة بين احتمالات الوقوعِ الفعلي، وكونها مظهرًا من مظاهر الاضطراب النفسي للشخصية. يمكنُ القول إنَّ العمل بمثابة وقفة أمام النفس، وفرصة للتوغُّل في أسرارِ قوتها، وقدرتها على التحكمِ في العقل، وإعادةِ مَنْطَقة الأمور وفقًا لرؤيتها، وما يمكنُ أنْ تصلَ إليه هذه القدرة من تغيير المصائر، وإعادة صياغة الواقع في وعي الإنسان.