محمد معتصم تتميز لغة الأدب عن غيرها من اللغات المتحدث بها، كونها، لغة المجاز، لغة الإيحاء والإحالة، لغة تجد موطنها في العوالم الدفينة والأراضي البعيد التي لا يدركها إلا القلة النادرة. لا يعني ذلك أنها لغة الرموز والألغاز، أو لغة الكائنات القديمة المنقرضة، إنها لغة تستطيع قول الجوانب غير المرئيَّة لعامة الناس، ومع ذلك، فالمبدع الحق يستطيعُ أن يزرع داخل الخطاب الأدبي علامات يهتدي بها القارئ إلى المعاني الجمالية للعمل الأدبي، وإن لم يستطع الوقوف على مقاصده الفكرية. في رواية «تفاحة العابد» للشاعر والروائي جهاد أبو حشيش، نعثر على لغة شاعرية، وعلى تنويع في كتابة الرواية بالاعتماد على المشاهد القصيرة المختزلة والمكثفة، التي تقتصد في القول بغاية ملئه بالإحالات على قضايا فنية وجمالية تخص كتابة الرواية، وعلى قضايا مصيرية تخص القضية الفلسطينية ومآلها، بعد الاعتراف بالدولة دون السيادة؛ أي دون هوية مميزة (تاريخية، دينية، سياسية، ثقافية)، والدخول في مرحلة الالتباس، مرحلة صراع الأهواء، تماشيا مع الحالة الدولية المائعة، التي تحولت من انفتاح السوق وتوحيد قُدُرات ومُقدَّرات دول العالم في بؤرة واحدة تَستفيد منها الدول العظمى (المُتَحَكِّمَة) ذات السيادة السياسية والعسكرية والاقتصادية، على حساب الدول الصغيرة والضعيفة والمتشرذمة، في مرحلة شعارها «العولمة الاقتصادية» التي تم تجاوزها حديثا إلى الحلم بـِ»العوالم الافتراضية الرقمية»، وتحويل الإنسان وقضاياه ووجوده إلى مجرد هوية استعارية لا حقيقة لها مادية في الواقع، وإنما هي مجرد «ظلال» بلا هوية مميزة. يعتقد بعض المتحكمين أنَّ «رقمنة الحياة المعاصر» هي العصا السحرية التي يمكن بها التخلُّصُ من كل المشكل والقضايا المعضلة العالقة المتناسلة والمُتوارثة، والذي لم يوجد لها حل حتى الآن، وذلك بالانعطاف الجبري نحو العوالم الافتراضية التي تسمح بمزيد من التحكم وبشدة أقوى لتنفيذ المشاريع الأحلام التي تعيق تطبيقها مثل القضايا المتعلقة بالهوية وبالاختلاف والتنوع الفكري والثقافي للشعوب. لا يعني ذلك أن التكنولوجيا شيء شرير، ولكنها مثل كل الأفكار والمعارف والعلوم، والأدوات والأشياء، تجدُ من يقوم بتوظيفها في غير ما أنتجت من أجله. أي أنها ليست شريرة، ولكنها تحرَّفُ أهدافها وغاياتها الإنسانية عندما يتحكم فيها «الأشرار». جهاد أبو حشيش، في روايته «تفاحة العابد»، وهي إصدارٌ جديد عن دار فضاءات الأردنية، لهذا العام 2020م، يأخذ على عاتق السارد، وهو بالمناسبة متعدد، بتعدد المحكيات التي يتكون منها الخطاب الروائي، وكل سارد يقوم بسرد محكياته بلسانه وعلى مسؤوليته الخاصة، أي أن السرد في «تفاحة العابد» سرد شخصيٌّ، «ديمقراطي»، يرفض كاتبه التدخل في شؤون شخصياته المتخيلة، وتعدد السرَّاد والمحكيات، لا يخل بانسجام السرد العام (الإطار)، ومن الشخصيات الفاعلة في الرواية والتي تتميز كل واحدة منها بمحكيها الخاص، نجد: عواد، وسيف، وتاليا، في جهة، وفي الجهة المقابلة المعارضة، نجد: عادل وسماح، وعصرية، وأيهم، وتقف الأم (عائشة) في الحياد، بين الزوج (عواد) الغائب عن البيت، وابنيهما (عادل وعصرية). يأخذ على عاتق السراد مسؤولية الكشف عن الجانب المظلم لبعض الثوار سابقا والأثرياء لاحقا. هذه بؤرة الخطاب في رواية «تفاحة العابد»، فلكل شيء ظاهره المبهر الساطع الأخاذ، وفي الوقت ذاته، له جوانبه المظلمة والمخفية بدقة تحت أردية شتى، وخطابات زائفة ودعائية كثيرة. يقوم الخطاب في رواية «تفاحة العابد» ومنذ العتبة العنوان على التعارض، التعارض كقيمة كاشفة، كقياس للكشف عن البنية العميقة للخطاب، وللكشف عن المتناقضات الدالة التي تجعل الخطاب، أي خطابٍ، حتى الأدبي، منشطرًا، إلى قول ظاهرٍ وقول خفي مقصود بالكلام. إن تعارض العنوان يمكن تأويله ورده إلى حقيقته اللاوعية، والأصيلة، فالتفاحة، في الأدب ليست فاكهة حلوة لذيذة يعشق أكلها الإنسان وكائنات حية أخرى، بل هي رديف «الغواية» في حمولتها الثقافية الشائعة والعامة (العالمية)، والغوية قرينة «الإثارة»، والإثارة لا تخاطب العقل بقدر ما تستفز الأهواء النفسية والباطنية (اللاواعية)، والعابد، اسم فاعل، مَنْ يتفرغ للعبادة زاهدا في الحياة الدنيا وملاذها ومفاتنها ومغوِيَّاتها ومغرياتها، تفانيا في خدمة المعبود والقضية الأم، المتعلقة بالوجود والمصير، وجود العابد ذاته، والكائنات المحيطة به، ولأرض التي درج عليها وترعرع في أفيائها. إذن، فالعابد رديف «الزهد»، والجمع بينهما في عتبة العنوان، جمع بين متناقضين: الغواية والزهد. فإذا جمع بينهما العنوان، فهل يراد من ذلك التدليل على أنهما يجتمعان في الواقع (أو في المتخيل السردي)؟ البناء المنسجم والمحكم للخطاب الروائي يظهر العكس، يريد أن يقول بأن الغواية والزهد قيمتان لا تجتمعان في كيان واحدٍ، اجتماعًا متزامنا، فـالفرد (L’individu)، وهو الكائن داخل المجتمع، عكس الذات والأنا، إما أن يكون زاهدا في ملاذ الحياة، أو يكون غارقا فيها. لكن يمكنه التنقل بينهما، بـالتعاقب. كما تصور المحكيات في رواية «تفاحة العابد». عواد وسيف، أخوان مناضلان عتيدان، التزما بالدفاع عن القضية الفلسطينية واهتما بقضية عودة اللاجئين وتحرير الأرض من العدو الغاصب، لكن زمن الثورة والثوار قد ولى بعد التنازلات التي ختمت بختم «اتفاقية أوسلو» حيث تحولت القضية من الشرعية المحلية والعربية والدولية والتاريخية إلى قضية ذات شأن محلي خاص، تحت مسمى «السلطة الوطنية»، سلطة بدون سيادة. وهكذا، تم الالتفاف على الشرعية، كما تم التلاعب بكثير من القيم والحقوق، ومنها حق الحرية والحق في التعبير والتنقل...، فأنت حر في التعبير والتنقل، لكنك لست حرا في ذاتك، أي عليك أن تحصل على تصريح بالتعبير وتصريح بالتنقل من سلطة تشعرك دائما أنك بلا هوية الحقيقية وبدون إرادة فعلية. هكذا تم الالتفاف على مبادئ «الأنوار»، في الغرب، وتحول مجتمع الحيات إلى مجتمع «المراقبة»، المراقبة السياسية والمراقبة الذاتية. لتنتهي مرحلة وتبدأ مرحلة غيرها، وقد تنبه عدد من الكتاب والمفكرين الغربيين والعرب لهذه الانعطافة التاريخية الخطيرة. لقد وجد سيف «المناضل الصنديد والعنيد والعتيد» نفسه، عاطلا، لا يجد عملا ولا حتى ما يعول به أسرته، بعد تصدير الثورة والثوار (المحظوظون)، إلى بيروت- لبنان، يقول:» كلُّ شيء أصبح يمشي بالمقلوب. وكأننا لم نحمل بنادقنا ونضحي بأرواحنا، وكأن كل ما كان مجرد كذبة، انتهت في رمشة عين. كنا أشبه بطفل يتيم، يتنافس الجميع على رعايته، وقبل أن يتعلم المشي، أوهموه أنه قادر على الطيران.» ص (59). إذن، فالتعامل مع القضايا الوجودية والمصيرية للأسف الشديد، لا يدخل تحت مسمى «السيادة»، بل تحكمه الإملاءات العليا والإرادة النفعية الشرسة المتوحشة. لذلك فحظُّ الموالين عكس حظِّ الشرفاء الملتزمين حتى النخاع بقضايا أوطانهم ومواطنيهم، فسيف منع، في المرحلة الأولى قبل السقوط، مرات من الخروج مع الخارجين باتجاه بيروت، وحكم عليه قبليا، بالبقاء في الداخل محروما من أي دخل أو مساعدة، بينما أبو الأمين الخائن، فخرج وأصبح قياديا ذا حظوة ومكانة وصيتٍ ورفاه. يقول السارد سيف مستفهما:» هل كان يجب أن أكون مثل أبو الأمين، الذي أمسكنا به أكثر من مرة، وهو يسرق من مخصصات الأفراد، وكلما شكوناه تدخل الكثيرون، حرام، لديه أولاد، وبعد خروج الثورة من الأردن، أصبح مسئولا كبيرا. واكتشفنا أن لا أولاد له» ص (59). هنا دليل على أن القيم العليا لا تحرسها النوايا الطيبة، ولكن لا بد لها من «سيادة»، كذلك الدولة، أية دولة في العالم، بل في التاريخ، فإنها معرضة للانقراض ما لم تحقق «سيادتها الذاتية»، لتحمي قيمها ومواطنيها، وتاريخها وجغرافيتها... فهل بقي سيف مكتوف الأيدي، طبع، لا، لأن عوادا سبقه إلى التحول، أي التعارض، بين لفظتي «الثورة» و»الثروة»، هذا التعارض الذي تنهض عليه قواعد التفكيكية، والشغف الكبير عند جاك دريدا، التصادي الصوتي (الجناس الصوتي/اللفظي)، والقلب المكاني للحروف يجعلان اللفظتين متجانستين، بالرغم من التعارض الصارخ بينهما دلاليا. وهو التعارض الذي بيناه في عتبة العنوان، وهو التعارض ذاته في شخصيتي عواد وأخيه سيف. كيف ذلك؟ تبين الرواية أن عوادا اكتسب ثروة كبيرة، من خلال عملين غير نزيهين، الأول بدأه داخل الوطن، والثاني خارج الوطن. بدأ العمل بتهرب الأسلحة في أكياس المؤونة. ليتحول مع «تاليا» إلى مهرب سلاح كبير جدا، وصاحب شركات تنافس الاقتصاد الوطني برؤوس أموال مجهولة وتم تبييضها، ومن ثمة خطورتها على البنية الاقتصادية للبلد، ويسهل التدخل أو هدم البلد واقتصاده. لكن عوادا هذا، يلخص مقاصد الرواية بمختلف محكياتها. أختزلها كخيبات متتالية، وهو ما يدل على أن الالتفاف على الثورة، وخيانة العهود والالتزامات نتائجها «عقيمة»، وخيمة؛ 1. العقم في صورتين، أي انقطاع عقب التجار والمقامرين بمصير الوطن وحريته وثرواته ومصير مواطنيهم. الأول، يتمثل في استرجاع حادث تفجير إرهابي لأحد ثلاثة فنادق مصنفة في العاصمة الأردنية عَمَّان، وهو حادث واقعي سنة 2005م، ومن ضحيا الاعتداء المخرج السوري العالمي مصطفى العقاد مخرج فيلم «الرسالة»، وقد وضع الكاتب الحادث خلفية لصنع حادثة «العقم»، بحيث سيتعرض (عادل) ابن شخصية (عواد)، للأذى إثر الانفجار الإرهابي وعلى إثر ذلك سيفقد الابن قدرته على الإنجاب. هذا الحادث سيفقد عوادا صوابه ويدفعه إلى مغادرة البيت (زوجته عائشة وولدهما، عادل وعصرية)، وسيسلم أخاه سيف زمام تسيير مشاريعه وأعماله وتدبير شؤون أسرته الصغيرة. العقم الثاني، يتمثل في الضربة القاضية، سيرغم «منال» فتاة عادية، على أن تنجب منه ولدا يعوض خسارته في ابنه عادل، يقول لها:» ستلدين لي وادًا، سواءٌ أردتِ أم لم تريدي؟» ص (68). سيحبسها لمدة طويلة ويحبس نفسه معها حتى يظهر الحمل وتلد فعلا ولدا ذكرا يطلق عليه اسم «أنمار»، لكن في الوقت الذي تريد الجماعة التخلص منه ستسلبه حلم الأبوة مرة أخرى، وهو الحادث الختامي الذي يختم به الخطاب والقصة معا:» توجهت لترى من بالباب، ولكنها التفَّت إليه مستدركة وهي تتناول ورقة من شنطتها وتمدها إليه قائلة: - هذا فحص الـ(DNA) الخاص بابنكم أنمار. حرصت تاليا على أن تمرره لي. إياك أن يعرف أحد بالأمر. سحب الورقة من يدها، وفردها أماه، لكنه لم
يفهم شيئا، فسألها: - ما الذي تقوله هذه الورقة. دارت دورة كاملة، حتى لامست شفتاها أذنه، وقالت: - الفحص يقول أن الـ(DNA) الخاص بالفتى، هو غير الـ(DNA) الخاص بك. - ماذا تريدين أن تقولي؟ - في حال صحة الفحص، فهذا يعني أن الفتى ليس ابنك. لم يستوعب ما قالت. أحس بالنار تشتعل في جسده. دارت الغرفة به. أمسك حافة الكنبة. تخيل أنه يرى سيفا وليان يضمان بعضهما، ويبتسمان» ص (225) 2. الخذلان، بهذه الطريقة يخبرنا محكي (عَوَّاد)، بأن مصير من يخون قومه ووطنه، لابد أن يتجرَّعَ من كأس الخيانة. فقد خانته الجماعة الانتهازية المتحكمة في تجارة السلاح وبيع البترول والعبث باستقرار عدد من البلدان من بينها ليبيا، عندما فضلت تسليم زمام المشاريع وقيادة العمليات الوسخة لأخيه سيف، المناضل العتيد الصنديد، سابقا، والتاجر المغامر المقامر، لاحقا. خيانة مضاعفة من جماعته ومن أخيه. وهذه ضربة أخرى كأنها ضريبة الخيانة. في المقابل سيلتقي عادل بالطبيبة المسيحية المثقفة لمناضلة سماح، التي ستتفهم وضعيته الصحية، وترتبط به، لأن رابطة الحب أقوى من أية رابطة أخرى، وستحقق عصرية مسارا تعليمية ونضاليا وسياسيا نقيا وناجحا، بعيدا عن اختيار أبيها عواد وعمها سيف، وستكون مع أيهم بيتا ناجحا مليئا بروح النضال والحب. هذه زاوية واحدة من الزوايا الممكنة لقراءة رواية «تفاحة العابد» للكاتب الشاعر جهاد أبو حشيش، ارتأتُ فتح نافذة عليها لأنها ترتبط بقضية جوهرية وعنصر أساسي في حل المعادلة المعضلة في تاريخنا المعاصر، ومن جهة أخرى، فهي دليل على أن الأدب مهما أبدع في خلق جمالياته الخاصة، وأبرز مواهب ومهارات وقدرات المبدعين، إلا أنه لا يكون ذا قيمة إلا بأدائه وظائفه الاجتماعية والثقافية في الحياة. تفاحة العابد، جهاد أبو حشيش، منشورات دار فضاءات، عَمَّان- الأردن، ط.1، 2020م