نايف النوايسة

استقر في وعي المثقفين أينما كانوا وعلى اختلاف مشاربهم ومذاهبهم أهمية البحث في التراث كجانب حي من جوانب الحياة الثقافية المعاصرة، فصدرت لهم الكتب التي تعنى به والمقالات والبحوث في المجلات الثقافية وعُقدت له المؤتمرات والندوات والحوارات، لتيقن الكثيرين من أهمية الجذر الذي لا تنهض الشجرة وتقوم بدونه، والحضارة كالشجرة.

قد مضى الزمن الذي شاعت فيه الدعوات المناهضة للتراث، حتى أن بعض أعدائه يعدونه من فضل الكلام ومثبطات الحضارة، فأعلنوا القطيعة معه، وألقوا بأنفسهم بين العالمين كالشجرة المجتثة من الأرض فأخذتها الريح الى واد سحيق، فلا جذور تشدهم في وطنهم ولا تاريخ يستمسكون به، وهرعوا إلى (المتاح) الذي لا ينادي به إلاّ الطارئون وشذاذ الآفاق، ومن ليس لهم تاريخ يعصمهم من الضياع والذوبان في الزوايا المظلمة.

هؤلاء تشرّبوا خديعة التغريب وتدليس المستشرقين فاندفعوا نحو طِيّتِهم دون روية ولا تدبر، ولم يتركوا وسيلة تحملهم إلى هجنة التغريب إلا سلكوها، وكانوا من الخاسرين.

هذه الأفكار انثالت إلي وانا أقلّب صفحات كتاب (في النول..) للدكتورة نعمات الطراونة، وهو الإصدار الأول لـ(مدونة مؤاب الثقافية) التي تتبع لبلدية مؤاب الجديدة في محافظة الكرك، والكتاب في حقيقته قراءة واعية وعميقة لهذه الصناعة الثقافية الأردنية التي شاعت في مختلف بلادنا الأردنية.

وهذه الصناعات من أكثر ما أبدعته المرأة البدوية والريفية جمالا ورقيا، وقد أفرغت في هذه المنسوجات كامل طاقتها الإبداعية وذائقتها اللونية بحيث يخرج البساط أو المفرش أو الشقة من بين يديها لوحة رائعة متداخلة الجمال ومتناسقة الخيوط والألوان. ومن هذه الصناعات التي تتولد من النول هي العدل، وهو وعاء لحفظ الطحين والقمح ومن ضمن الأثاث الذي يخرج مع العروس حين تغادر بيت والدها، وتنسج العدل من صوف الغنم المخلوط بشعر الماعز (المذيع).

ويتصل الخرج بهذه السلسلة من مجموعة النول ويشبه العدل في خيوطه لكنه مكون من عينين او جانبين ويستقر على ظهر الدابة ويستخدم لأغراض عديدة. ومن قائمة النول صناعات أخرى مثل المزهبة والسفايف والمزودة وغير ذلك، وذكرت الباحثة كافة المراحل التي يمر بها النول من لحظة قصاص الغنم حتى قطع (المنسوج).

وارتبط النول في كافة مظاهر الحياة الاجتماعية، فيتم التعبير من خلال التوقف عن العمل به تعبيرا عن الحداد على الميت، وتتداخل معه الكثير من البكائيات كالنواح والمعبد. تضمن هذا الكتاب تشكيلة من الصور عبرت بصورة دقيقة عن عالم النول، فكانت الصور المنتقاة مع المادة المكتوبة الدقيقة بمنزلة الوثيقة التراثية المهمة قدمتها مدونة مؤاب الثقافية بقلم وتأليف د. نعمات. إن الحديث عن التراث الثقافي يتطلب استقصاء ودقة في القراءة وتسليط الضوء على المنتج التراثي كي نبرز هويتنا الثقافية على نحو يليق بك، ومزيد من التقدير للدكتورة نعمات الطراونة.

وفي كلمته، بين المهندس أحمد الطراونة رئيس بلدية مؤاب الركائز التي انطلقت منها البلدية لترسيخ أساسات العمل الثقافي من خلال منصة ثقافية أسستها البلدية قبل اكثر من سنة وحملت اسم (منصة مؤاب)، ووُضعت لها رسالةٌ وأهداف منها سلسلة إصدارات مدونة مؤاب الثقافية، وكان الإصدار الأول مُتوّجاً بعنوان هذا الكتاب (في النول...).

وقدم للكتاب الأديب الأستاذ محمد المشايخ مُلمِّحاً إلى أهمية البحث في التراث الثقافي المادي وغير المادي لأن في ذلك تأصيلاً لإرث الأجداد وتوجيهاً للأنظار كي يجري المهتمون مسوحات ميدانية خاصة بالتراث كما فعلت الدكتورة نعمات في جهودها التراثية التي ارتكزت فيها على ما استقر في ذاكرتها من مشاهدات، فضلاً عن نشأتها الريفية التي مكنتها من معايشة مجتمعها القروي عن قرب وتسجيل الكثير من عناصر التراث التي ما فتئت تبحث فيه على صفحتها على الفيسبوك بعنوان (ومضة تراث) أو ما نشرته في المجلات أو تحدثت به عبر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، ويأتي كتابها (في النول...).

وتطرق المشايخ للجهود التراثية في الأردن وذكر عدداً من رواد التراث الذين حملوا رسالة جمعه والبحث فيه وجعل د. نعمات في مصافهم.

ويشبه المشايخ بحث د. نعمات (عن النول..) بالبث الحي والمباشر لهذا الميدان، كما نوه بدور المرأة في هذا المجال وما يكتنفه من أغانٍ وعادات وتقاليد وممارسات شعبية.

وفي مقدمتها قالت د. نعمات (أدّت الحاجة في المجتمعات القديمة إلى الاعتماد على الذات في الكثير من الاحتياجات...) كالسكن وبيت الشعر والطعام والأدوات المنزلية، وعلى رأس ذلك (النول)، وبينت أنها كانت تراقب النسوة اللواتي يقمن بإنجاز عملية النول، وتعلمت من امها الكثير، وهذا ما نطلق خبراء التراث عليه دائماً انتقال العنصر التراثي وتداوله من جيل إلى جيل.

هذه الصناعات النسيجية التي ذكرتا الباحثة هي من أكثر ما أبدعته المرأة البدوية والريفية جمالاً ورُقيّاً، وقد أفرغت في هذه منسوجات كامل طاقتها الإبداعية وذائقتها اللونية بحيث يخرج البساط أو المفرش أو الشقة من بين يديها لوحة رائعة متداخلة الجمال ومتناسقة الخيوط والألوان.

ومثل (نسّاجة) النول الماهرة حبكت د. نعمات خيوط كتابها ليأتي على نحو لافت، إذ أنها وضعت هذا العنصر التراثي بمنزلة الأساس لعدد من الصناعات الثقافية التي تتصل باهتمامات المرأة في البادية والريف، وأول هذه الصناعات بيت الشعر، فهو كما تراه الباحثة الطراونة السكن الآمن السهل، والمكان الذي يُستقبل فيه الجاهات والضيوف وتقديم الولائم وإقامة مناسبات الأفراح والأتراح وحل قضايا الناس ومشاكلهم كجرائم القتل والعرض والذم، وربطت بين ضخامة البيت ومكانة صاحبه الاجتماعية والاقتصادية، وأوردت من الشعر الشعبي ما يتصل بذلك ويدل عليه:

نازل بالشرق يا (بي محم

يا لميع البرق يا دلال بيته

وتمضي بنا الباحثة الى تفصيل دقيق لأدبيات بيت الشَّعر ومكوناته وما قيل فيه من شعر وما اكتنفه من ممارسات وأقوال، وبينت بوضوح تفاصيل كل جزء من اجزاء هذا البيت وأوردت من الشعر الشعبي بعض الشواهد مثل:

أربعين اشقاقه بيت (أبو محمد)

ما يهز رواقه عزم الشراقي

وترسم لوحات بديعة وهي تنتقل من جزء إلى جزء حتى تنتهي بها المطاف لخياطة هذا البيت تمهيداً لبنائه.

وذكرت الباحثة كافة المراحل التي يمر بها النول من لحظة قصاص الغنم حتى قطع (المنسوج)، ولم يكن النول بعيداً عن مظاهر الحياة الاجتماعية المختلفة، إذ يتم التعبير من خلال التوقف عن العمل به عن الحداد على الميت، وتتداخل معه الكثير من البكائيات كالنواح والمعيد.

تضمن الكتاب تشكيلة من الصور التي عبرت بصورة دقيقة عن عالم النول، فجاءت هذه الصور منتقاة ومنسجمة مع المادة المكتوبة، وكانت بمجملها بمنزلة الوثيقة التراثية المهمة، وهذا العمل الكبير نسجله إنجازاً موفقاً لمدونة مؤاب الثقافية.

إن الحديث عن التراث الثقافي يتطلب استقصاء ودقة في القراءة وتسليط الضوء على المنتج التراثي الأصيل كي نبرز هويتنا الثقافية على نحو يليق بها، على نحو ما أبدعت الدكتورة نعمات الطراونة.