إن الناظر إلى كتاب عمَّان بين الغزل والعمل، سيجد عائدة النجار تسرد للقارئ الذاكرة بين التصوير الوصفي والتوصيف؛ حيث تجاوزت وَصف عمَّان المتعارف عليها إلى توصيف معالمها، باستقراء معطيات المكان مروراً بالزمان والشخوص، التي رسمت الذاكرة العَمَّانية لدى المتلقي البالغ من الراوي العليم حد الكفاية عبر التقاط قصصها وحكاياها من هنا، أو هناك، سواء أكانت الرواية رسمية، أم شعبية، فيدركها بالذهن والحدس، فيرويها كما طاب له، ولمن شاء. 
إن عائدة النجار تنطلق، بالصيرورة، من عَرْض معطيات هذا المكان الكلي في وصفه الذي رسمه سكانه على اختلاف أصولهم ومنابتهم، ولكنها تمضي إلى استشفاف ما يَثْوي وراء تلك المعطيات، وما يستخفي في ثنايا تشكيلها، من تصوير ونسج خيوطها في مطرزات، تُمكِنّنا من تمثيل هذا المكان لذاكرة جميلة رائقة شائقة.
تفترض عائدة النجار أن وصف عمَّان المكان المتعارف عليه موجه إلى الإنسان العربي والغربي، وأنها، لذلك، تَدَعُ (التصريح) بقصص خفية، وحكايا ضمنية مُعوِّلة في استدعائها واستعمالها على (الذاكرة الكامنة)، أو (التصورات الذهنية) المركَّبة في ذهن الإنسان الأردني خاصة، والعربي عامة.
فقامت عائدة النجار في خطوات استطلاعية تبصيرية، تتلمّس للمكان ملامح توصيفٍ تُشَخّص (الأحداث) المكانية بزمانها وشخوصها، لَعَلَّها تجلي لنا تلك التصاوير والذاكرة المسكوتِ عنها، في تصوير مشاهد الوصف والتوصيف، والذاكرة الكامنة، والتصورات الذهنية، عندما تحدثت عائدة النجار عن عمَّان المكان، عمَّان القديمة التي كانت قرية، تزرع الخضار والأشجار المثمرة، تسقي عيونها بماء الحياة. 
ثم تصور لنا كيف عاش الناس فيها حياة منسوجة، بعادات وتقاليد خاصة منبثقة من الحياة البدوية والروابط العشائرية والريفية التي لها خصوصية، وخلال ذاكرة المكان الكامنة، والشخوص المتحركة من زمن إلى آخر أخذت عمَّان القديمة بالتغيّر تدريجياً منذ العهد العثماني 1918م، نتيجة عوامل سياسية وبيئية مدينيّة جديدة، لتصبح عمّان اليوم المدينة العصرية (الكوزموبلوتينية)، وإن لم تكتمل العناصر بعد. (ص: 13)، 
أرادت النجار وصف عمَّان المتعارف عليها لدى سكانها القدامى إلى توصيف معالمها الجديدة والقديمة في عيون وذاكرة سكانها القدامى والجدد.
وتصور عائدة النجار جبل عمَّان من خلال سوق منكو، وكيف جذب «بنات المدارس أيام زمان، وبخاصة قبل نهاية السنة الدراسية للوقوف طويلاً لاختيار الأقمشة البيضاء، لفساتين التخرج. ولعل هذا السبب الذي أبقى ذاكرة القماش الأبيض حيّة لديَّ كما كان عند بنات المدرسة،...» (ص: 32)
حملت في ذاكرتها الكامنة، وصفاً لاختيار الأقمشة البيضاء التي سيصنع منها فستاناً للتخرج، وهذا دليل لِمَ سيكون من توصيف لفستان العرس الذي يتشكل في تصورات ذاكرة بنات المدارس ببهائه ونضارته من لباس حفل التخرج، إلى زهوه وتألقه يوم حفل الزواج الذي تطّلع إليه كل فتاة، ويعيش في أحلامها، وهذا القماش ظَلَّ في ذاكرتها متكبراً، متعجباً بنفسه منذ ذلك اليوم الذي اشترته حين كانت بصحبة شقيقتها الكبرى عريفة، حيث اصطحبتها فيما بعد إلى بيت الخياطة الشهيرة مزين البرق، التي تقطن في شارع الشابسوغ؛ من أجل خياطة فستان التخرج الأبيض، الذي هو بالنسبة لها، الأهم من بين ألبسة التخرج من المدرسة الثانوية (المترك). 
فكانت النجار تتحدث بصوت الراوي العليم الذي يصور لنا مشاهد مكان الدراسة والعمل، التي اتخذت من ذاكرة الطفولة الدفء والحنان، فرمزت بسوق منكو إلى المكان الذي شكل نواة العاصمة؛ فجمعت بين العمل والغزل، في بوتقة عمَّان الحضارة.
وكانت تتابع في رحلتها الخاصة وهي تبحث عن جبل عمَّان الذي عرفته أيام زمان في الشوارع والأزقة العتيقة، وكيف أن دور عمَّان القديمة تحكي القصص لها بمجرد دخولها إلى بعض الدور التي تحولت إلى مشاريع ثقافية واجتماعية واقتصادية، فنقلت لنا عائدة النجار ذاكرة أحفاد أصحاب الدور بما سمعت منهم من القصص والحكايا، وكذلك نقلت لنا ذاكرة المكان عن الناس الذين سكنوا في هذه الدور من نساء ورجال وأطفال. وكيف كان توصيف ذاكرتهم البصرية والشمية والسمعية والحسية؛ لهذه الدور التي كانت غرفها عالية السقوف، فتسمح للشمس من دخول شبابيكها، المطلة على رائحة الزهر، واللون الأخضر. (انظر: ص: 49)
هذا التساوق الأنيق في الوصف والتوصيف يرسم لنا صوراً من تلك الدور التي امتزجت برائحة الزهر ولونه، واللون الأخضر ورائحته، فاستقرت في ذاكرتها عبر هذه السنين فلم تترك لها باباً للنسيان.
وتذكر لنا ذكرياتها مع عمَّان و(غَزْلْ البنات)، أو شعر البنات، المصنوع من السكر الأبيض الرقيق، والمصبوغ بالألوان الجميلة» (ص: 90) فتتنوع «بين الأصفر والزهري الفاتح والبنفسجي والأزرق.» (ص: 91)
وكانت وصديقاتها، تبحث عن بائع شعر البنات لنلتهمه، ونستمتع به دون تفكير برمزيته التي تشير إلى جمال البنات، وهو ينادي: (حلو يا شعر البنات.. حلو يا غَزْلْ البنات).
تستخفي النجار بين ثنايا تشكيلات غَزْلْ البنات وألوانها، لتتدغدغ عواطفنا إناثاً وذكرانا؛ بتصوير ونسج خيوطها في مطرزات لونية ذات مذاق طفولي النكهة، حيث تمكنت من تمثيل هذا المكان بهذه الحلوى، توصفها لنا من الذاكرة البصرية الجميلة إلى الذاكرة الذوقية الرائقة إلى الذاكرة اللمسية الشائقة.
فكأنها ساقت لنا تشكيلات غَزْلْ البنات وألوانها، إلى المظاهر الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي أفرزت «صوراً وسلوكيات جديدة،... إحداهما صورة (عصرية للبنات) تحمل الملامح المتأثرة بالحداثة والثقافة الغربية، يتطاير شعر البنات السافرات في الهواء، أو يترامى على الأكتاف بدلال. أما الثانية فهي صورة (للبنات المحجبات)؛ ذاك الحجاب الذي يغطي شعرهن، بينما يلبسن الملابس العصرية، مما يجعل الصورة (عصرية وتقليدية)، في الوقت ذاته، وإن كانت بنمط جديد.» (ص: 83)
وحينما رسمت تصاوير عودة للمكان: عمَّان الجديدة، عبرت عن مواصلة مسيرة رحلتها حاملة الذاكرة الناسخة إلى شارع زهران الطويل، فتوصف لنا الشارع الأهم منذ الستينيات، تاركاً وراءه شارع الرينبو، مخترقاً الدواوير مفتوحة الأذرع ليبدو الوجه الجديد غريباً للكثيرين...، ماراً بمبنى البرلمان، ودار أبي درويش، ومدرسة زين الشرف الثانوية، ومؤسسة شومان، والكلية العلمية الإسلامية، وبيت شعشاعة، وحداد، وأبو الراغب، والمصري والخليل وشعبان وعبد اللطيف والنجار والحاج حسن وخليفة وطوقان والأسمر، وغيرها من الناس الذين سكنوا فيه استمر الشارع (الأرستقراطي) بالتمدد حتى الدوار الخامس، وقد اكتسب شهرة خاصة لوجود قصر زهران العامر فيه، كمعلم مميز مزين بالشجر دائم الخضرة تقف على جانبيه صفين متقابلين.» (ص: 123)
تصاقبت الذاكرة والشوارع والدواوير والمباني الرسمية والمؤسسات الخاصة، والبيوت، مع القصر العامر الشاهد على عمَّان الجديدة.
وقامت بوصف ثقافة المقاهي في عمَّان القديمة/ الجديدة، «فقد عرفت المقاهي في البلدان العربية ولجميع شرائح المجتمع، منها المقاهي الشعبية التي يؤمها الناس من مختلف الطبقات الاجتماعية لقضاء وقت خارج البيت، والأدبية والسياسية؛ لتكون مكاناً يلتقي فيه الكُتَّاب والأدباء والسياسيون والفنانون...، وللمقاهي في عمَّان اليوم أهمية ومكانة لدى الناس، سواء أكانت شعبية، أم عصرية (الكوفي شوب) المنتشر بشكل واسع في المناطق المختلفة وللشرائح الاجتماعية الفقيرة والغنية.» (ص: 149)
أما حديثها عن ثقافات تقليدية ومتجددة في عمَّان، وصفت لنا ذاكرة ثقافة الطعام «فبعد النكبة الفلسطينية حملت الجدات لعمَّان ذاكرة مطبخ القدس، ويافا، ونابلس، والخليل، وغزة، وقرى فلسطين، وبلداتها المهجرة، ورائحة المقلوبة والمحشي والملوخية والكبة واليخني والمسخن والقدرة. انضمت هذه الأنواع إلى المنسف الأردني المعروف بطبخه بلحم الخروف البلدي مع لبن الجميد الكركي المشهور، بالإضافة إلى الأطباق الأخرى المتداخلة من المطبخ الشامي الغني بالأطباق، والمطبخ الشركسي، وأطباقه، مثل: الشيبس باسطة، واللقم والأجبان والششبرك، والأطباق الأرمنية، ومنها الصفيحة المشهورة بكوناتها.» (ص: 181)
ووصفت أسواق المدينة من نوع جديد، حيث قامت بربطها العبقري بين ملامح عمَّان القديمة (الغزل) وملامح عمان العصرية (العمل)، حيث إن عمَّان لم تتأخر باللحاق بالأسواق التجارية العصرية، فقامت بتصوير مشاهدها وكأنها تتراكض وراء الحداثة منذ فترة العقود الأخيرة من القرن العشرين. ثم قامت بتشخيص معالم عمَّان الجديدة التي همشت معالم عمَّان القديمة وأسواقها، واستبدلتها بمبان ضخمة تسمى (المولات). (انظر: ص: 207)
لذلك فإن العودة لقاع المدينة، نشاهد أن «هناك ظواهر إنسانية متشابهة بين الناس في العالم منها ظاهرة المهمشين، وهم عادة من البؤساء والفقراء، أكثرهم من مشوشي الفكر، يبدون مستسلمين لواقع يثير الشفقة،... عرفت الكثيرين من أهل عمَّان معالم بشرية حيّة مهمشة تتحرك بين الآسواق، والشوارع المؤدية إلى ساحة المسجد الحسيني في وسط البلد.» (ص: 233)
وحين أرادت توصيف قاع المدينة المكان والشخوص؛ جعلته يختزن «قصصاً وحكايا عن بعض مهمشيها من دراويش الأربعينيات من القرن الماضي، منهم، الحاج عمر درويش،... عُرف بلباسه الملوّن، وعلمه الأخضر وطبلته التي يدق فيها نغماً لإيقاظ النائمين وهو يقول: (إصح يا نايم... يا ناي موح الدايم..)، والشيخ صالح الذي يميزه لباسه من (القلبق) الذي يلبسه الشركس، رغم أنه ليس شركسياً، وكذلك أبو رحمة، والشيخ حافظ، وأبو زهدي المجنون.» (ص: 233-234)
«ولم تخلُ شوارع عمَّان من نساء مهمشمات، وإن كن قلة عُرفت أشهرهن المسكينة (شتية)،... كانت تجوب الشوارع تبحث في القمامة، وتلتقط ما يناسبها من سقط متاع،... وأم علي الشرشوحة،... كانت تعمل (ندَّابة) محترفة في دور العزاء.» (ص: 235)
لم تترك النجار توصيف من يعيشون على هامش الْمجتمع من رجال ونساء، إلا وبثته في في صور على صفحات كتاب عمَّان بين الغزل والعمل.
وتصور لنا ثورة المواصلات والاتصالات، «عندما كانت عمَّان (قرية صغيرة)، كان الناس يسيرون مشياً على الأقدام، الناقل الأمين للأفراد، بالإضافة لاستعمال الدواب، وكانت عربات الشركس الخشبية، تستعمل لنقل المحصولات الزراعية تجرها الجياد، الكثيرون الذين يحملون ذاكرة ذلك الزمن، يقولون: هذا الشارع أكل من رجلي حصة من كثرة المشي.» (ص: 253)
وتذكرنا بثورة تعليم البنات والأولاد، التي «وضعت القوانين المتعلقة بالتعليم الإلزامي الابتدائي في الخمسينات من القرن الماضي، مما أسهم في انتشار التعليم بشكل واسع في الأردن؛ لتصبح العائلات تتنافس على تعليم البنات والأولاد من مرحلة الطفولة حتى الدراسات العليا.» (ص: 275)
وتنقش في أذهاننا من ثقافة ومثقفين، وكيف «تعيش عمَّان اليوم برفاهية ثقافية نسبية، بفعل الانفتاح على العالم والإلمام بالثقافات المتنوعة والتأثر بها، بخلاف أيام زمان التي كانت مغلقة والثقافة محصورة في النخبة.» (ص: 317)
وتتابع عائدة النجار حديثها في تصوير مشاهد الوصف والتوصيف عن: معمار تراثي يحكي القصص، اللويبدة ينافس جبل عمّان بالأصالة، حكاية دارة الفنون في اللويبدة (1992)، بيت أزرق شيده الشراكسة، شاعر الثورة العربية يؤلف شعره في دار خالد شومان، بيت البيروتي وشبابيكه المتعانقة، بيت بديع يعيش الجدول بالحجر الأحمر في الشارع الرئيسي، بيت الأرائك الدمشقية لنعيم القلجي، بوليفارد العبدلي. (ص: 341-357)
وكيف قامت النجار بتوصيف اللويبدة: جبل الثقافة والفنون، وكيف أن عمَّان ترسم وجوه بناتها على الجدران (الجرافيتي)، حيث «كانت عمَّان وهي في عز شبابها ترمي على كتفيها شالاً مطرزاً بقوس قزح من العشب والزهر البري، الذي يولد من قلب الأرض والطبيعة.» (ص: 361)، «لفتتني جدران الشوارع الخلفية والأبواب المغلقة، مكسية برسومات تشكيلية وألوان زاهية» (ص: 362)
وترسم لنا عائدة النجار أدراج عجوز تحمل المدينة على رأسها، كأنها تسرد حكايا وقصص عمّان من ذكريات مختزنة في تلك الأدراج التاريخية القديمة المجدولة بالماضي والحاضر، فهي تشهد على هوية عمّان التراثية بلا شكوى من الحمل الثقيل الذي تحتمله على رأسها حتى اليوم. (ص: 381)، «قال المحبان بمرح الشباب الجريء: (باركي لنا، اتفقنا اليوم أن نرتبط بالزواج، ولهذا الدرج فضل علينا؛ لأننا نلتقي في جنباته)، باركت لهما، ومشيت وأنا سعيدة، أن للدرج أيضاً دوراَ اجتماعياً وعاطفياً، يشهد على قصص الحب والسعادة وكلام الغزل.» (ص: 382)
في كل تلك المشاهد والتصويرات الوصفية والتوصيفية، نجد أن عائدة النجار تتلطف لاستظهار عمَّان بين الغزل والعمل، في إطار (الوصف والتوصيف، والذاكرة الكامنة، والتصورات الذهنية) في ممارسة الكفاية المكانية تصويراً وتعبيراً وحدسياً؛ فعرضت علينا، عمَّان المكان، جبل عمَّان..، دور عمَّان القديمة تحكي القصص..، عمَّان و(غزل البنات)..، عودة للمكان: عمَّان الجديدة..، ثقافة المقاهي في عمَّان القديمة/ الجديدة..، ثقافات تقليدية ومتجددة في عمَّان..، أسواق المدينة من نوع جديد..، عودة لقاع المدينة..، ثورة مواصلات واتصالات..، ثورة تعليم للبنات والأولاد..، ثقافة ومثقفون..، اللويبدة: جبل الثقافة والفنون..، عمَّان ترسم وجوه بناتها على الجدران «الجرافيتي»..، غزل الأدراج.
ولهذا نستطيع أن نقول إن كتاب عمَّان بين الغزل والعمل للدكتورة عائدة النجار، اكتمل شروطه التقنية في تصوير ذاكرة عمّان بين الوصف والتوصيف، ورسم معالم المدينة العربية الأردنية، بتآلف (بشرها، وحجرها، وشجرها).