على الرغم من أن الكتاب الجديد لفريال سماحة يؤكد تأكيدا مباشرًا أنه دراسة تطبيقية، إلا أن القارئ يكتشف من مقدمة المؤلفة، ومن مخطط الكتاب، أن الدراسة فيه غير تطبيقية بالمفهوم المتعارف عليه، وإنما هي دراسة تقع في دائرة ما يعرف بنقد النقد، وإلى هذا تشير المؤلفة إشارة عابرة في نهاية الكتاب، بقولها: « وهذا الأمر يوجب أن يستقطب جهودًا جماعية لإحياء نقد النقد «. وتضيف « جهودا تتَّجه نحو التطبيق اتجاهها نحو التنظير « (ص183). والتطبيق- ها هنا- هو النظر في الممارسة التطبيقية لنقادٍ آخرين، وإخضاع دراساتهم للتحليل، والمساءلة.
أما الهدف الذي تحدِّدُه الدارسة في كتابها، فهو الإجابة عن السؤال: إلى أي مدى وُفق النقاد العرب في اقتراض ما يُعرف بالنقد البنيوي، وفهمه، وممارسته – تطبيقًا- في نقد السرد العربي، دون أن يؤدي ذلك إلى الوقوع في فخ التلفيق، أو الخروج من الإطار البنيوي الدقيق إلى ما يُعرف بالنقد الأخلاقي، أو الإيديولوجي، أو التأويلي؟ فالنقد البنيوي عند جهابذة هذا الاتجاه نقدٌ (شكليٌ) لا يهتمُّ بالتأويل، ولا يُعنى بالمحتوى. وقد اختارت لأجل الإجابة عن هذا السؤال نماذج تطبيقية نشرت بين عامي 1979 و 1999 واقتصرت على هذه النماذج انسجامًا مع تحديدها لزمن البحث، وهو  الربع الأخير من القرن الماضي. 
 مدوَّنة الدراسة
غير أنّ من يتأمَّل المصادر، أو(المدوَّنة) التي اتخذتها المؤلفة (عينة) غير عشوائية للدراسة، يلاحظ أنّ بعضها لا ينسجم مع الغاية المتوخّاة. فالعنوان الأول، وهو «الألسنية والنقد الأدبي في النظرية والممارسة» لا يُعلن فيه مؤلفه اتباع أو تطبيق النقد البنيوي، فالألسنية تيارٌ عامٌ يشملُ البنيوية مثلما يشمل غيرها، وتبعًا لذلك جاء المؤلف موريس أبو ناضر (لبناني) بآراء متعدِّدة فيها شيء من البنيوية، وشيء من السيميائية، وشيء من الأسلوبية الجمالية. ولهذا، فإنَّ ما تأخذه المؤلفة على هذا الكتاب، من خلطٍ وتلفيقٍ، تحصيلُ حاصلٍ، فهو لم يدَّع أنه ناقد بنيوي حتى يتهم بأنه غير بنيوي. وهذا يكاد ينْسحب على أكثر الكتب التي أسْهبت المؤلفة، وأطنبتْ، في تناولها، من مثل: التقنيات السردية في روايات عبد الرحمن منيف لعبد الحميد محادين، وتقنيات السرد الروائي ليُمنى العيد، وآليات السرد في الرواية النوبيّة لمراد المبروك، وغيرها. 
ولا نَرى لزامًا على من يتناول تقنيات السَرْد في رواية، أو في مجموعة من القصص، أن يكون بنيويًا، فالنقد الأدبي التطبيقي، يقوم على فاعلية مركبة من التذوق الأدبي في المقام الأول، والاكتساب المعرفي في المقام الثاني. واختيار الناقد لبعض الأدوات التي تتيحها له المناهج المختلفة لا يعني التفلُّت من ذاته، والخروج من جلده. فهو يستخدم هذه الأدوات وَفْق الاعتبارات الأخرى التي تمليها عليه حساسيته الأدبية، من: إعجاب بالعمل الأدبي الذي يدرُسُه، ومن تقدير لما فيه من براعة الأداء، أو اضْطرابه. ولا شك في أن التقويمَ، أو الحكم الذي استبعدته البنيوية الشكلية، مكتفية بالوصف، شيءٌ ضروري جدًا، وإلا أصْبحت الفوضى، والعشوائية، هي التي تتحكم بالحياة الأدبية إبداعًا ونشرًا. وتبعًا لهذا، فإن ما يمكن أن يُؤخذ على سعيد يقطين، أو مراد المبروك، أو يمنى العيد، من انزلاقٍ نحو التأويل، والتقويم، والحكم على بعض الأعمال الأدبية، التي يتناولونَها، مستعينين ببعْض المرتكزات البنيوية، هو، من ناحية أخرى، شيءٌ لا يُعيبُ النقاد، وإن كان يعيبُ المنهج، إلا إذا كنا نلتزم التطبيق الآلي – غير الجدليّ- للمناهج، بحيث يتجاهلُ الناقدُ نفسَه لصالح المَنْهج، وهذا ضربٌ غير مقبول من الرأي.
 انتقال النظريّات
وقد وقَع بعضُ نقادنا في هذا المنزلق عندما أرادوا الالتزام حرفيًا بمرتكزات القراءة النفسيَّة للأدب، فأحالوا الدرس النقدي إلى بحثٍ في الغُدَدِ، والجينات، وذلك شيء بعيد جدًا عن الأدب، وعن الذوق الأدبي. وشاهدُنا في هذا ما كتبه العقاد(1889- 1964) عن الحسن بن هانئ (أبو نواس) 1953 وما كتبه محمد النوَيْهي (1917-1980) عن بشار بن برد، وعن أبي نواس1953. والآن، نحن أمام ما يسميه بعضهم انتقال النظريات، فيقرأ ممارسو النقد ما يكتبه البنيويون، ومن تلاهم من تفكيكيّين، وسيميائيين، وتأويليين، وأسلوبيين، ودعاة مذهب التلقّي، أو أصحاب النقد الثقافي، إلخ... ولو أراد النقادُ الالتزام بما تدعو له هذه القراءات، فإن نقدنا الأدبي سيغدو بين عشية وضحاها كالثوب المرقَّع بمختلف الأشكال، والألوان. ونحن نعتقد أنَّ النقد الأدبي، والفني، كليهما، يتكئان على الموهبة، والحساسية، فضلا عن الجانب المعرفي، وهو مكتسبٌ، مثلما ذكرنا، ولا ضير على الناقد إن هو ألمَّ ببعض النظريات بشرط ألا يتخلّى، وهو يزاول عمله النقدي عن صوْته الخاصّ، وعن ذوقه، وعن حساسيته الأدبيَّة، ومعرفته بآليات الإبداع، سواءٌ ما كان منها متصلا بالشكل اتصالا متينًا وثيقًا، أمْ بالمحتوى الذي يتجلى في وحداتٍ شكليَّة متناغمة، ومترابطة، تؤدي إلى تحقيق تجربة تواصلية مثمرة بين المبدع والقارئ، وهذه التجربة هي التي يُعنى بها الناقد، ويهتمُّ بإبرازها، والكشفِ عنها في ما يكتبه، فالاكتفاءُ بالوصف وحدَهُ منهجٌ من مناهج الدراسة اللسانية، لا الأدبيَّة. والدراسة السوسيرية Saussurianism لا يمكنها أن تكون منْهجًا نقديًا أدبيًا، أو فنّيًا، لأنَّ الأدب، منذ كان، لا بدَّ في دراسته، ونقده، من الوصول إلى رأيٍ فيه، ولا بد أن تقودنا دراسته لتمييز الغثّ فيه من السمين، وإلا كانَ النقدُ ضربًا من اللهْو بالكلمات، واللعِبِ بالمصْطلحات.
 نهْجُ الدارسة
ويقوم نهجُ الكاتبة في هذا الكتاب على قراءَة الكتُب، والمقالات، التي اتخذتْ منها عينة للدراسة، وعرْض ما جاء فيها بغير قليل من التكثيفِ الذي لا يُخفي أنظارَ الدارسين. ثم تعقّب على هاتيك الأنظار تعقيبًا يعتمدُ في الغالب على تداول مآخذ متكرِّرة. فهي تأخذ على معْظمهم، إن لم نقلْ عليهم جميعًا، عدم الرجوع إلى المصادر الأصيلة باللغات الأجنبية، كالفرنسية مثلا. أو عدم الرجوع إلى ما تُرجم منها للعربية. وتأخذ على أكثرهم عدم الإحاطة بالخطابِ البنيوي، ومرتكزاته، وإحاطتُهم في الأعمّ، والأرْجح، مطعونٌ بها دلاليًا. ومنهم من لا يَفي بقواعد التطبيق، وحُدوده، بل ينزلق نحو منْهجيَّة أخرى، أخلاقية، أو إيديولوجية، أو أسلوبية، أو نفسيَّة. وترى المؤلفة في هذا دليلا قاطعًا، وبُرْهانا قويًا ساطعًا، على « جهل « بعضهم بالبنيوية. وقد ترى في بعضهم، مع التسليم بصحة فهمه لهذا النقد، ناقدًا يُحسنُ التنظير، ولا يُحسنُ التطبيق.
وممَّن أخَذَت عليه هذه المآخذ على اسْتحياء؛ حسن بحراوي- مؤلف «بنية الشكل الروائي» (1990)- وآمنة يوسف في «تقنيات السرد في النظرية والتطبيق « (1997). واللافت للنظر أنَّ المؤلفة تخصِّصُ الفصل الرابع من الكتاب للحديث عن « تحليل الخطاب الروائي « لسعيد يقطين (1989) مع أنها ذكرتْ الكتبَ، والمقالاتِ، التي اتخذت منها مدَوَّنة نقدية للدراسة مرَّتين (ص10، وص17) دون أن تذكر هذا الكتاب. مما يوحي بأنّ الفصل (136- 180) أضيف، أو ألحِقَ بالدراسات السابقة لغرض في نفس يعقوب. وقد يكون هذا الغرض اقتناعَ المؤلفة بأن لهذا الكتاب مزيَّة تجعل منه نقدًا بنيويًا مختلفًا للسرد العربي. فهو، وإن لم يخْلُ من الهنات التي تتَّصف بها الكُتُب، والمحاولات الأخرى، إلا أنه من أكثرها وفاءً بمتطلَّبات النقد البنيوي. 
بيد أنَّ من يقرأ الفصْل، برمَّته، يُلاحظ خطأ هذا الانْطباع، فالمؤلفة لا تفتأ تستقصي المآخذ التي تُؤخذ عليه، والمثالبَ التي تتجلَّى فيه، وأولها؛ أنه يعود بالقارئ القهْقرى إلى حيث الإرث النظري للرواية، فلا يروقُ للمؤلفة- فريال سماحة- أنْ يستهل سعيد يقطين كتابه بمقدمة ينوِّه فيها لآراء بعض النقاد الروائيين، من أمثال هنري جيمس، وفورستر، وغيرهما.. ممن وضعوا الرواية في ثبَتِ الأجناس الأدبية التي يُعنى بها النقاد، ويلتفتون إليها، بعد أن كان الدارسون، ومؤرّخو الأدب، يعدّونها من الأدب الهابط الذي لا يستحقُّ أن يُدْرس. وتأخذ عليه أيضًا عدم التساوُق بين آرائه، أو بعض آرائه، بكلمة أدقّ، والنقد البنيوي، لأن هذا الأخير لا يُعنى بالتقويم، ولا بالحكم على الأعمال الأدبية، فقول سعيد يقطين في مستهل قراءته البنيوية لرواية جمال الغيطاني « الزيني بركات «: « وهذه الرواية ذاتُ البناء الشكليِّ المتميِّز « هفوةٌ في رأيها، وخطيئة، لا ينْبغي للناقد البنيوي أنْ يقع فيها، فهي دليلٌ يُؤكد « تأرْجُحَه بين البنيوية والجمالية». وتأخذ عليه ما تسمَيه السخاءَ المفرط في صكّ (كذا) المصطلحات النقدية (*). و» توْسِعَة المفاهيم بعد اقتراضها من النقد الغربي». وهذا في رأيها يتناقضُ مع دعوة المؤلف في مقدمة كتابه « للوضوح المنهجي» ولسنا نختلفُ مع المؤلفة في إشارتها لإشكالية المصطلح، فيقطين، في حديثه المتكرر عن « التبئير»، يستخدم مصطلحات مُلبسة، مثل: رؤية سردية جوانية خارجية، ورؤية سردية برانية داخلية، ورؤية سردية برانية خارجية، وهذه تعبيراتٌ- عدا عن أنها غريبة، إذ يستحيل للبرّاني أن يكون داخليًا، مثلما يسْتحيلُ للمرفوع أن يكون منصوبًا، وللساكن أن يكون متحركا- نقول: عدا عن أن هذه المصطلحات غريبة، فإنّها لم تُفدْ دراسة سعيد يقطين كثيرًا. لكننا لا نتَّفق معها في انتِقادِها المؤلف لتوسعَتِه بعض المفاهيم، لأن في هذا حَجْرًا على حرّية الناقد، وقيدًا يحيله إلى ناقلٍ(بإبدال الدال لاما) فقط، ومتدرِّب على التطبيق، كالتلاميذ الذين يتدربون على حل التمارين بمحاكاة الأساتذة. وتخلصُ المؤلفة من هذا إلى أنَّ لسعيد يقطين فضلَ التمَثُّل الجيد للمفاهيم، والتصوّرات البنيوية، وهو فضلٌ يتفوَّق فيه على أقْرانه ممَّن ذكروا في الكتاب، إلا أنه لم يَسْلمْ من الاعْتلالات التي اعترت دراساتِ غيره، سواءٌ أكان ذلك في التنظير، أم في التحليل، والتطبيق، واسْتخلاص النتائج.
فالنقادُ الذين توقَّفت إزاء أعمالهِم، أو بعض أعمالهم، بكلمة أدقّ، ما خلا سعيد يقطين، يعانون من قصور بيِّن في فهمهم لمرتكزات النقد البنيوي، وهو قصورٌ يؤدي عادة إلى الخلط، والتلفيق، الذي يجمع بين نحْو القصّ، و»بويطيقا « القصِّ. ومعالجة مكونات القصة، أي مضمون السرد، بعيدًا عن مكونات الخطاب، أي: ملفوظ الحكاية. مما يعني تجاهل العلاقات البنيوية بين الجانبين. أي أنّ غياب الوعي بأهداف النقد البنيوي، وفلسفته، يؤدي إلى الخلط بينه وبين قراءاتٍ أخرى، وتأويلات اجتماعية، ونفسية، وفنية مُبْتسرة.
 التثاقف الإيجابي
ومع تقديرنا لما انتهتْ إليه الباحثة، وهو شيءٌ يمثِّلُ – فرضيًا- الجوابَ عن السؤال المطروح في مقدمة الكتاب، فإنَّ من العسير تقبُّله على علّاته، فمن الحكمة الاطلاع على تيارات النقد الحديث من بنيوية؛ وغير بنيوية، وأنْ ننْتفِعَ منها وبها عنْد التنظير، وعند التطبيق، ولكنْ، من الحكمة أيضًا ألا يتّصف تطبيقُنا لمرتكزات هذه التيارات بالتطبيق الآلي، فنكون كالغراب الذي قلد الحمامة المطوقة بطريقة مشيها، فلم يستطع إتقان السير على نهجها، ولم يحتفظ بطريقته في السير، فندم على خسارة الاثنين. والشيء الأكثر فائدة، والأحْرى بالقبول، أنْ نضعَ في حسابنا مبدأ التثاقُفِ الإيجابيّ مع الآخر، فلا نكتفي بدوْر الناقل، بل بدور الناقد الذي يُضيف لما ينقلهُ جديدًا، يُحافظ بهِ على هويَّته الثقافية، والأدبيَّة، والجَماليّة، إذ بغير هذا يتحوَّل النقد الأدبيُّ، كغيرْه من العلوم، إلى ترجمةٍ يكتفي فيها الناقلُ بالرَطانة المبهَمَة التي يقْعُد بها قدْرُها عن التفْريق بين الأدب الوضيع، وغيْره من الأدبِ الرفيع.
* يخلط عامة الناس بين الفعل سكّ بالسين، وصك، فالثانية تطلق على ما يكتب من معاملات وتقارير وإيصالات وتجمع: صكوك، ولهذا اشتهر تعبير صكوك الغفران، أما الأولى فتطلق على عملية ضرب النقود من دنانير، ودراهم، وغيرها.. منقوشة بكتابات ورسوم تبين قيمتها وتاريخ سكها، وتجمع مسكوكات، وثمة كتابٌ لسامح عبد الرحمن فهمي بعنوان « طُرُزُ المسكوكات الأموية «. ولقد أرادت المؤلفة من قولها صك المصطلحات: سكها فوقعت في ما يقع فيه العامة.