|
|
||||
هيئة إدارة تحرير مجلة عاشقة الصحراء التي تعنى بقضايا المرأة العربية والأدب والفن | ||||
«الرجوع الأخير» لمجدولين أبو الرب وسردية التفاصيل
عاشقة
الصحراء :
د. إبراهيم خليل الرجوع الأخير هو عنوان المجموعة القصصية الثالثة للكاتبة الأردنية مجدولين أبو الرب بعد لوحات فسيفسائية، والأدرد(*) وفي هذه المجموعة (دبي، 2015) تواصل الكاتبة التعبير عن هموم المرأة في أداء قصصي يغالي في البساطة من جهة، ويغالي في العمق، والاتساق من جهة أخرى. وهما عمق، واتساق يجعلان القارئ يتساءل إن كان ثمة ما يسوغ لبعض الكتاب أن يهجروا الطريقة المألوفة، والسائدة، في كتابة القصة القصيرة لطرق أخرى تنحو بها نحو ضرب من المسْخ باسم القصة القصيرة جدا، أو القصيرة جدا جدا، أو القصة الومضة، أو التوقيع، أو القصة في ست كلمات، أو ثلاث. فمجدولين أبو الرب تتخير الحدث الذي ترويه لأنه وقع لشخصية ما، أو شخصيات تستحق أن يتوقف لديها القارئ في لحظة من الزمن، محدودة الاتساع طولا وعرضا، وفي مكان محدود مساحةً وموقعا. فها هي ذي في القصة الأولى (كذب أبيض) – والكذب الأبيض هو ذلك الكذب الذي لا تقصد به الإساءة وإنما هو تعبير عن النوايا الحسنة الخالية من المضرة- والكاذبة- ها هنا- سيدة تنتظر دورها في عيادة طبيب نسائي. فقد سبق لها أن كانت حاملا ثم جاءها المخاض، ورزقت طفلا، غير أن الطفل لم يعش إلا بضعة ايام لم تزد على الأربعة. وقد جاءت إلى الطبيب ليصف لها دواءً يجفف الحليب الذي في صدرها لما يسببه لها من ضيق وألم (ص10). كانت هذه السيدة في زيارة سابقة للطبيب قابلت فيها امرأة أخرى حبلى، وها هي – أي الأخرى- الآن في العيادة، وتذكرت كل منهما الثانية، ودار بينهما حوار مقتضب عن الحمل والولادة. إذ يبدو أن المرأة التي لم تزل حاملا حديثة عهد بالزواج، والحمل، ولم تجرب الولادة. تقول لها بعد أن تبيّنت التغيير الذي طرأ على قوام السيّدة التي وضعت طفلا قبيل عشرة أيام « أرجو ألا أتجاوز حدودي ، هل .. هل.. فعلا الولادة أمرٌ مؤلم جدا؟ تجيبها الأخرى: لا تصغي لهنّ. يهوِّلْن الأمر. البشر يحبّون المبالغات. ألمها محتمل، مجبول بفرح غريب.. أظنه فرح اللقاء، فما هي إلا ساعاتٌ قليلة، وتلتقين به» (ص9). على أن هذه السيدة، التي تبدو في جوابها حريصة الحرص كله على الصدق، وتجنب المبالغات، تدعي أنها تركت طفلها عند جدته. ولم تقل للمرأة إن الطفل فارق الحياة بعد أربعة أيام من ولادته. ولم تذكر لها السبب الحقيقي الذي من أجله هي هنا في العيادة. فهي تكذبُ، وتزاول ما يعرف بالكذب الأبيض. ومما نلاحظه أن القصة تنشد الحديث، والبوح، عن الهموم النسائية، ولكن الضوء لم يُسلط على هاتيك الهموم بطريقة سطحية، فجة، أو مفتعلة، فقد تضمنت القصة شرائح وصفية سُلط فيها الضوء على متاعب تلك المرأة الحامل التي يُظنّ أنها على وشك الولادة. فهي لا تستطيع السير دون لهاث. وعندما تتكلم يغلب على صوتها التهدج فكأنها متقطعة الأنفاس. وفي غرفة الانتظار ثمة منضدة عليها جرائد قديمة مقروءة. ومجلات فقدت لونها لكثرة الملامسة، والتعرُّق، من مرتادي العيادة، وهي مجلات قديمة لم تتغير منذ فتح العيادة قبل سنين. إلى ذلك ثمة طلاء على الجدران فقد بريقه، ولا تستطيع السيدة تمييز اللون، وهل هو رمادي، أم أنه أبيض فقد نصوعه، وتحول إلى ما يشبه الرمادي. ولا يفوت الراوي أنْ يصوّب نظره نحو اللوحة المعلقة على الجدار، وهي صورٌ تمثل مراحل نمو الجنين. كل هذا يمثل جانبا من المكان، والجانب الآخر مخصَّص لتلك المروحة المدلاة من السقف التي لا تنفك تصدر أصواتا بين الحين والحين تشبه (القرقعة). أما جهاز التلفزيون، فهو من تلك التي شاع استخدامها في ستينات القرن الماضي.. صندوق خشبي أعمى وأخرس(ص6). تضاف إلى أجزاء هذا المشهد ما يقوله السارد عن السكرتيرة التي تزعج مرتادي العيادة بما يصدره حذاؤها ذو الكعب العالي من طرقعة على البلاط كلما دخلت غرفة الطبيب وخرجت لتنادي على صاحبة الدور. وثمَّ زبونتان إحداهما في منتصف العمر، تمسح أحمر الشفاه بمنديل ورقي مطويّ بعناية، فيما الأخرى تتحدث بإزعاج مع إحداهنّ. وعلى نحو مباغت ارتفعت في الأجواء نغمة رنين الهاتف. كان الهاتف المحمول للسيدة ذات أحمر الشفاه التي سارعت للرد بصوت عال « ينبغي أن أضع حدا لأقاويلهم. نعم. أنا لا أتسرع. لم يمض على زواج البنت ثلاثة أشهر. وبدأت تتقوَّلُ عليها. اسمع. نحن في عيادة طبيب. قلت لك .. على كل حال أنا لا أفعل ذلك إلا لتغلق فمها. وتكفّ عن اتهام ابنتي .» (ص8) فالأمر إذًا كيد كنة وحماة، وتدخُّلات من الأم التي تهدد وتتوعد. فمن هذه الإشارات يتضح أن الكاتبة تمعن في رصد التفاصيل التي تتمخض عن وجهة نظر محددة. وهي أن كل شيء في العيادة، وفي الجرائد المقروءة، والمجلات، واللوحة التي تطايرت بفعل المروحة، وطرقعة حذاء السكرتيرة على البلاط، وآلام الوضع والولادة، ووفاة الطفل ذي الأربعة أيام، وضيق السيدة بالحليب الذي لم يعد ثمة رضيع بانتظاره، ومناكفات الكنة والحماة، كل هذا يوحي بالكثير الجمّ من الضيق النفسي، والمعاناة التي تمر بها المرأتان؛ التي فقدت طفلها، وتلك التي تنتظره في خشية من آلام الولادة. حتى اللمسات الفنية التي أضفتها رؤية الكاتبة على المكان، وتكدس المراجعات فيه، وطلاء الجدران الذي فقد بريقه ونصوعه، وبات أقرب إلىى الرمادي منه إلى الأبيض. هذه اللمسات الرشيقة زادت بها الكاتبة من الإحساس بالجو المأساوي الخانق الذي تعيشه المرأة صاحبة الكذب الأبيض. فهو جوٌّ مشحون بالإحباط الذي يملؤها بالرغبة الشديدة في الصراخ، أو الانقضاض على المجلات، وتمزيقها صفحةً صفحةً، وعلى اللوحة، وخلعها عن الجدار، وربما الدوس عليها أو قضمها بالأسنان (ص6). العتمة وفي قصة أخرى بعنوان (عتمة) تتخير الكاتبة موقفا قلما يحدُث في عزاء، كالذي أقيم لعم (لمياء) وهي التي تروي القصة، أو تُروى القصة – بتعبير أدق- من الزاوية التي تراها هي. تنقطع الكهرباء، فيعم الارتباك المعزين. حتى زهير، وهو الابن الأكبر للمتوفى، عاجله الارتباك عندما طلبت منه أمه أن يحضر شموعا من غرفة نوم أبيه، فقد تهيأ له أن دخول الغرفة الموحشة لا سيما في العتمة شيءٌ مخيف، وما هي إلا لحظات حتى أحس بنأمة، وحركة، كأن شخصا ما حيا موجودا في الغرفة، وأن هذا الشخص ينفخ ويطفئ الولاعة التي استعان بها لإضاءة المكان، فكان رد فعله أن بدأ بالصراخ، فتراكض المعزون نحوه وسط تعثر بالأشياء وقطع الأثاث. في الأثناء كانت لمياء من جهة، وزوجها أحمد من جهة أخرى، قد استعادا شيئا من الماضي. فعندما تزوجا قالت لمياء لأحمد إن عمها رجل يده (طايلة) فهو ممن يحلون ويربطون في البلد. ولا شيء يصعب عليه مما يحتاج للتدخل والوساطات. والصحيح أن هذا كان في رأي أحمد قبل أن يبلغ عمها هذا الطرف من العمر، وهو الآن – أي قبل وفاته – لا يحل ولا يربط. على أي حال ترحم أحمد على عم زوجته عندما تذكر المبلغ الكبير الذي نقدهما إياه في حفل الزفاف (ص7). ومما تجرى استعادته على سبيل التذكر، والاسترسال في التداعي، أن زهيرا كان قد تحرش بلمياء عندما كانت في زيارة طالت لبيت العم « حشرني خلف الباب.. وحك جسدي بجسده. قلت له اتركني.. وهددته. وقبَّل عنقي قبل أن أتمكن من الإفلات منه. كانت تلك آخر ليلة لي في منزل عمي. النذل، تمادى اليوم رغم مصابه. كيف أمد يدي للتعزية فيهينني؟ « (ص16) وهذا الحوار الذي يجري بين لمياء ونفسها مع استعادة الحدث الذي وقع قبل سنين، وما يرتبط به من موقف مشين من زهير، يؤكد لنا ما يتصف به من طيش. ولذا تبعته لمياء، وهو ذاهب ليحضر الشموع في العتمة، وهي التي نفخت وأطفأت لهب الولاعة . ليدعي أن صراخه، ووقوعه أرضًا، بسبب الحزن الذي اعتصر قلبه حين رأى سرير والده خاليًا « لا. لا أقدر على تحمّل غيابه « (ص18). قال هذا في اللحظة التي عادت فيها الكهرباء المقطوعة وأضاءت المكان. وبدأ المعزّون بالانصراف . يجد القارئ المتوقف عند هذه المجريات في سرد القصة طواعية الأداء للكاتبة، التي تتنقل فيه من لحظة لأخرى بين بعدي الزمن، الماضي منه والآني، دون أن يبدو في ذلك انقطاع يعكر صفو التسلسل المرن الذي يتبعه الراوي في محكيه القصصي. فنحن بين لحظة وأخرى نجد العم في عنفوانه يتوسط لهذا ويساعد ذاك، وينقد العروسين مبلغا يذكرهما بشهر العسل الممتع. وفي أخرى نجد أنفسنا أمام العم المتقاعد الذي مضى على تقاعده عشرون عاما أو أكثر، فقد خلالها ما كان يتمتع به من يد طولى. ونجد أنفسنا أيضا أمام لحظة قصية تمت استعادتها في غير قليل من التفصيل عن حكاية التحرش التي انتهت بالتهديد، والامتناع عن المبيت في منزل العمّ مرة أخرى. تتناسل هذه اللحظات شيئا فشيئا في القصة دون أن يضطرب السرد بين يدي مجدولين. وفي الأثناء تنبعث ملاحظات عامة تنتقد سلوك المعزين. فالمائدة التي اصطفت عليها أطباق الطعام، والمقبلات، التي لم تلمس نظرًا لانقطاع الضوء، عندما عادت الأضواء تبيَّن لأحمد أن قسمًا منها أصبح فارغا. علاوة على أن المعزين يصطحبون زوجاتهم وهن في غاية الأناقة، يباهين بأحذيتهن وكعوبها العالية، وهن يضعن رجلا على رجل كأنهن في حفل لا في عزاء. وهذا الانتقاد لم تسلم منه لمياء، فعندما علمت بوفاة عمها سارعت إلى السوق لشراء حذاء جديد « أهم شيء يا أحمد في بيوت العزاء عند الناس الراقين هو الحذاء. تحرص كل امرأة لوضع رجل فوق الأخرى لتستعرض أناقة الحذاء وفخامته، الحذاء يصير سفيرا في تلك المناسبة. بعضهن عندما يضعن قدما فوق الأخرى ترتفع به إلى مستوى الوجوه. معارف عمي ناس «فوق كثير» وهي لا تريد أن تبدو أقل من الآخرين. (ص15) وإذًا ليس مهما أن ينسج الكاتب قصته القصيرة من خيوط الواقع، وفتاته، ليؤلف بها حكاية شيقة، مسلية، يجد القارئ فيها متعة، ولكن المهم هو أن يبثّ، بصور غير مباشرة، رسائل في ما يرويه من متتاليات تلك الحكاية. والمؤلفة مجدولين سواء في قصة كذب أبيض، أو عتمة، وفي غيرهما من القصص، تبث عددا من الرسائل. في الأولى عبرت عن هموم النساء وما تعانيه المرأة، وفي الوقت ذاته لم تُعْفِ النساء من المسؤوليّة عما يتعرضن له من ضيق نفسي ومادي واجتماعي. وفي الثانية تنتقد السلوك الشائن الذي يتصف به بعض الناس في علاقاتهم بعضهم ببعض. والنقد- ها هنا- انصب على زهير، وعلى المعزين، وعلى الساردة التي هي لمياء لما تؤمن به من أن « الواسطة « تفتح لمن تيسرت له كل الأبواب. علاوة على أن الجميع لا يراعي هيبة العزاء في المجلس، إذ يتباهى قسم منهم بما يرتديه من ملابس، ومن أحذية، وبعضهم ينقضُّ على أطباق الطعام بشَرَهٍ حتى في غياب الأضواء، فالعتمة التي هيمنت على الصالة – فجأة- كشفت من الطباع السيئة، والخصال الرديئة ما لم تكشفْه الأضواء الساطعة. (*) انظر خليل، إبراهيم، الصوت المنفرد، ط1، عمان ، دار أمواج للطباعة والنشر والتوزيع، 2011 ص 191- 198 الكاتب:
سكرتيرة التحرير مريم حمدان بتاريخ: الجمعة 07-05-2021 11:52 مساء الزوار: 610
التعليقات: 0
|
العناوين المشابهة |
الموضوع | القسم | الكاتب | الردود | اخر مشاركة |
“في ظلال ألانكا”: مغامرة تسع نساء في ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | السبت 03-10-2020 |
النقد البنيوي للسرد العربي في الربع ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 06-10-2017 |