|
|
||
|
قراءة في مقتطف من رواية الدكتور مختار أمين للناقدة سهيلة حماد
قراءة في مقتطف من رواية الدكتور مختار أمين المفقود، بعنوان: جماليّة السّرد القائمة على تداخل ثالوث المكان والزّمان والشخصية =========== ==============
مقتطف من رواية أمُر من شارع بابو ريف بالسيارة أنا وعائلتي في صباح مشرق جميل لم يكن من صباحات لاريسا الشتائية الباردة . إنه صباح شرقي بحت ، صباح شتاء مصري بشمسه الشافية العافية، كأن لاريسا تحتفل بي، تقدم لي وجبة إفطار مصري احتفاءً، أو عذرًا عن الحادث الذي حدث على جبالها الجليدية الذي أقصاني عن المسابقة التي انتظرتها وقتًا طويلاً . ابتلع أحجار ريقي المُرة، وغصة في صدري وحزن يشقيني، يشعرني أني ممتلئة بالدموع التي تطوف على جفوني.. تخشى السقوط والانهمار، ولا تترسب في قاع أعماقي لحين موعدها معي، لحين أسمح لها بموعد الهطول، لحين ما اختلي بنفسي بعيدًا عن الناس، لحين ما اختلي بك .. كم عشقت مدينة لاريسا في كل الأحوال، وكل الأردية الموسمية التي ترتديها في دلال صبية مفتونة بكل معالم تفاصيل جسدها، تغري عشاقها كل موسم بجزء محرم فيها عن المواسم الأخرى، تخبرهم عن سر آخر من أسرارها العديدة، كممثلة لديها هوس بأناقتها وخريطة جسدها.. ترتدي أردية متعددة على كل مراحل يومها وتطًل بعينيها تستشف شغف عشاقها .. الحقيقة أن شتاء لاريسا قارس.. عنفواني.. مراهق.. غاضب.. ثائر جدًا ، يبصق منيّ جليده الأبيض على مرتفعات جسدها الطريّ الرخو ويرفض أن تزيله .
أذكرك حبيبي .. حين ارتعشتُ بين يديك، كانت أول مرة بعدها فارقني النوم، لا أذكر إن كنت ضممتني إلى صدرك أو أني ارتميت بداخله دون وعي مني . أتدري أني لم أخجل منك؟ مكثتُ داخل صدرك قرب الساعة.. غفوت بداخله . تشمّمت رائحتك . بعثرت شعيراتك بأصابعي، لهوتُ . لهوتُ بها . مصصتها بشفتيّ . شعرتُ بسخونة صدرك .. بكيتُ . لم أدرِ لما بكيت وأنا نائمة بخدي على صدرك ويدي في عفوية ارتكنت على حائط صدرك في استسلام غريب . تمكث في صمت بجوار خدي الصارخ من دموع عينيّ التي هطلت كأمطار لاريسا دون موعد . لا أدري هطلت من شدة الغضب أو من شدة السعادة . تذكرت حائط المبكى عند اليهود تذهب إليه شابة ضالة تبحث عن المفقود . تبث أوجاعها وهي تدري أن الله يسمع شكواها، تمتص أذنها أنينها وتبثه عبر بوق صداح . يصرخ في فضاء رحب مجلل برهبة حضرة الله. أتدري أن الحب يزيد الإيمان في القلوب ؟ لا تدري .. أعلم أنك لا تدري . الحب يطهر القلوب . يجليها من الخبائث . ينقي شوائب الدنس فيها، لم تنقّ قلوب الآخرين ولا تشغل بالها، يجعلها في رقة العصافير .. شفافة كالفراشات ، كما يقول طاغور : الحب هو الخمر .. هو القوت في زمن المجاعة حين تنتثر أفواف الورود مبددة.. أدركتُ أن القلوب الطاهرة تسعى لسماع الصدق دوماً ، تدرك أن كل الكلم صدق ، لها آذان لا تمرر كلمات الحب على أجهزة الترشيح والترسيب لتنقي شوائبها ، لا تتخيّر منها الخبيث الكاذب من الطاهر الصادق.. لديها كلها طاهر.
ذات مرة كنت شارداً عندما كنت أحدثك عن سعادتي بك ، فخورة بأن الله اختارني لك أو اختارك لي . ممتنةٌ.. أشعر أن حبك الذي ملأ قلبى نوراً جعلني أحب كل شيء في الدنيا من حولي .. حين قلت لك : ـ أبي يريد أن يتعرف عليك . أخذتك الدهشة وأغمضتُ عينيك ثم فتحتها بنظرة قلق وأنت تسألني : ـ لِمِ ؟ أجابك قلبي المشغول بك دوماً في عجلته المعتادة : ـ كيف لِمِ ؟ لقد كلمته عنك .. حكيت له كل شيء بيننا .. باقي أقل من ثلاثة أشهر ونتخرج من الجامعة ولم أعد أستطيع مقابلتك . أردتُ تغيير الحديث وأنت تداري خجلك وتستغل بوحي لك بصعوبة مقابلتنا بعد انتهاء الدراسة لتأخذ حواري إلى هناك : ـ كيف لا أستطيع مقابلتك .. أنا لا أحتمل غيابك عني ساذجة منوّمة على حرير وهج القلب المفتون بك قلت : ـ حبيبي أتحبني لهذه الدرجة ؟ وأنا لا أستطيع الاستغناء عنك ، حبيبي يجب أن تعلم أن بابا وماما لا يسمحان لي بالخروج وحدي مطلقاً .. أنهما يخيفان عليّ . فضحكتُ بشبه سخرية أغضبتني : ـ لِمِ تضحك ؟ أتسخر مني ؟ ـ لا لا أنا لا أقصد ، ولكن الأمر يثير الضحك حقاً.. كيف وأباكِ عاش فترة كبيرة في أوربا وأمك يونانية وفنانة لا يسمحان لكِ بالخروج ـ يجب أن تعلم أن سر ارتباط ماما ببابا هي عاداته الشرقية وتمسكه بها.. هما يقلقان عليّ كثيرا، لذا حدثت بابا عنك كي يتعرف عليك، ليعجب بك حبيبي مثلي.. أكيد . تمهيدا لتطلب منه يدي . نخذني عقلي وجعلني انتفض لأبصر عينيك وأنت تضيق حدقتهما في فزع قائلا: ـ مازال أمامنا الوقت.. اعطني صورة كاملة عن عائلتك . أدهشك ما قلت عن وضع عائلتي الأرستقراطي نسباً وأصلاً، وثراء والدتي وخالي، وكنت تكرر الأسماء ذات المناصب الحساسة والمرموقة ورائي من عائلة بابا في استغراب وتعجب . بعدها برد الوتر الخارج من قلبك بشعاعه الدافئ الجميل الذي كان يجذبني جذباً نحوك.. يشدني لارتمي في صدرك، وطال غيابك عني حتي تفجرت ثورة جنوني بك داخل البيت، وعرف الجميع مقدار حبي لك وتمسكي بك . لم أنسَ تلك الليلة عندما فجأني بابا بدخوله حجرتي بعد استئذان، لم أستطع اخفاء دموعي النازفة من قلبي شوقاً على رؤياك .. اقترب مني دون كلام في ابتسامته المعتادة، جلس بجواري علي فراشي برفق، وأنا أحاول تفادي نظراته الفارزة الفاحصة لمعالم وجهي، عاود الابتسام وهو يقول : ـ حبيبي الصغير مد يده مرتعشة وهي تزحف نحوي على صراط حنانه، ومسح دموعي، وضمني إلى صدره.. ضمةٌ جعلت قواي تخور بين يديه، شعرتُ بمدى الوحشة والحرمان، أحسستُ قبل تلك الضمة أني كنت غريبة . وحيدة . غريقة، وجدتُ مرفأي.. مرفأ الآمان، وأجهشتُ بالبكاء بحرية الفيض . لا أذكر لحظتها إن كنت صرختُ عليك أو ولولتُ على حبي الهارب المفقود، نهنهتُ كالأطفال وأنا أعجن قميصه بقبضتيّ يديّ. أحسستُ أني مركبة صغيرة ضعيفة عصفت بها الأمواج بجهالة الغضب والحب المتخاذل الركيك الذي لا يقوى على الخطوب والصمود .. هنا مرفأها.. آمانها، هنا عتق الصمود والتحمل.. هنا حضن الخبرة الحنون الرقيق. هنا أنا.. بين أنا، أنا بين كلي وتفردي.. هنا يجمع شتات بعضي المتهالك المكسور الحزين.. بعضي الشارد الهارب مني . هنا تمامي وكمالي . هنا يعود إليّ لون بشرتي من جديد . ينتظم نبضي . يعود إليّ لساني وتلعثمي المحبب . هنا تخرج فطريتي حرّة جريئة بلا مخاوف الاتزان الاجتماعي، ذلك الاتزان الذي يطلبه العقل والمنطق.. الذي يطلبه عالم الناس، هنا أحب طفولتي وأنطلق لاهية . عذبني.. عندما رفعني من حضنه ورمقني بنظرة ثابتة أعجز عن تفسيرها حتى الآن، ظلت معي عمري، وأنا أنظر إليه بضبابية عيوني الدامعة.. لا أرمش.. مأخوذة في تيه غريب، كأني قديسة إغريقية في حضرة إله فرعوني عريق.. قديم، مثل تاريخ الإنسانية، أقدس وأطهر، مبهورة به ، وكم مبهر حضوره، امتصصتُ من رحيق روحه لتسري بداخلي.. تنير مشاعل الهدى والإيمان في قفص صدري . لم أعرف كم مر من الوقت على مسافة تلك النظرة، أفيق على يديه تجذب جسدي الضعيف النحيل لتدفني مرة أخرى في حضن المنتهى، أعود إلى حضنه ساكنة آمنة مأخوذة . شاردة . قبلني من جبيني وربت على كتفي، وهو يقول : ـ سأقابله موجةٌ من الضوء أشعلت جسدي كله في ابتسامتي.. ابتسامةُ الفوز.. زغردت كل قطرة من دموعي على وجهي . أشعرتني بوهج ودفء من السعادة . ساحرٌ.. ساحرٌ أبي . عندما كاد أن يختفي خلف باب حجرتي، أشار لي بابتسامته، رمى لي تصريحا بالخروج: ـ أخرجي غداً لتزوري أصدقاءك . كأنه يقول لي أخرجي غدا لتقابليه، أخرجي لتفاجئيه بقبول مبدئي بالموافقة لجل خاطري.. لجل دموعي وأوجاعي، ووحشتي إليك .
تذكر ؟..
عندما استعجلتُ الصباح للوصول إليك لأخبرك عن نبأ بابا بالموافقة المبدئية . فررتُ بعجلة قلبي على منزلك، أكاد أقفز داخل سيارتي، أطلب من القدر أن يمهلني بعض من العمر يطيله حتى أصل إليك وأرى الفرحة على وجهك، وقلبي كاد أن يقف من سعادته . عندما وقفتُ على باب منزلك في انتظار أن يفتح لي أحد أفراد أسرتك، كان سكين الانتظار بالخارج يذبح فرحتي.. يفتت أعصابي، فتحت لي والدتك وهي تتمتم بالتسبيح بعد ختم الصلاة، لم أتمالك نفسي رأيتني أضمها إليّ وأقبلها في وحشة، ورغبة في التقرب إليها، وأنا لم اعتد على تجاوز شعور الغربة الذي يلازمني مع كل الناس.. هي عادتي، لا أستطيع التجاوب مع الآخرين بسهولة ولذلك أجدني قليلة المعارف والأصدقاء . لم أعطها فرصة لتجيب على سؤالي : ـ أين ياسر ؟ أعطتني ابتسامتها المشرقة وفرحتها بي تفويضاً كي أتجول في المنزل لأبحث عنك، فدخلت حجرة نومك، رأيتها مظلمة مغلقة النوافذ وأنت في سبات عميق على فراشك، فأحببت المنظر على هذا الشكل.. فضلت ألآ أشعل الضوء، واقتربت نحوك في رفق وهمست في أذنك : ـ أتحبني ؟ فأجبت في غفوتك : ـ أحبك فعدت أسأل وأنا مدركة أنك مازلت نائم : ـ تحب مَن ؟ فأجبت : ـ أحبك أنتِ سألتك في دلال وأنا أضحك في نشوة وسعادة : ـ تحب مَن ؟ ـ أحب شروووق فملت عليك أضع جبيني على رأسك، فالتفت إليّ وجذبتني من خصري وأنمتني بجوارك، ثم اعتدلت وأجلستني على حجرك وأنت تمطرني بالقبلات وتكرر : ـ أحبك .. أحبك .. أحبك .. أحبــ .. ثم قبلتني قبلة طويلة لم أعرف كم من الوقت استغرقت، ولكني أذكر حلاوتها وشعوري لحظتها .. كانت سعاد حسني تغني في أذني وأنا مغمضة العينين.. بمبي.. بمبي.. بمبي.. الدنيا بقى لونها بمبي والحياة بقى لونها بمبي . وشعرتُ أني مَلك ذات أجنحة يطير في السماء، أتماوج مع ثنايات السحاب، وأنا أضحك في سعادة ونشوة، أبحث عن قمر غاب مع الليل المنصرم . أراك خلف السحب الفضية بنفس لباس نومك هذا، نصفك العلوي عارٍ، وتتدلى من رقبتك سلسلتك الفضية المحببة لدي، تضحك نفس الضحكة التي تملأ قلبي ثقة وآمان، وشعرك الحر الجرئ المتناثر.. تمد لي يدك.. تعالي.. أطير إليك ارتمي في حضنك.. تضمني في لهفة وتطير بي نضرب بأجنحتنا وبأرجلنا كتل السحاب.. نغطس تحت ثلجية سحابة كبيرة، نتجاوزها ثم نلتقي بعدها.. نضحك وأنا مرتمية بكل جسدي في كل جسدك، نلف سابحين لفات عديدة.. نصعد لأعلى.. نعلو ونعلو حتى نختفي في العمق . أوااه .. ما ألسع هذه اللحظة.. وما أجملها، كلما تذكرتها بكيت.. انسابت دموعي من عيني .
قاتلٌ أيّها الحب ؟ أم أنك تعطي لنا عمراً آخر في الخفاء بعيدا عن الناس والواقع ؟ تسرقنا منهم ساعة شرودنا، نغوص ُمعك في آهة موجعة محببة.. في ألم لذيذ ندمنه مع الأيام . بعيون باكية على الدوام تهفو دائماً لدفء الدموع.. نتعامل مع الناس بنصف عقل.. بنصف قلب.. نسأل أنفسنا في حسرة عن وعينا المسلوب، لا ندري أشكال ألواننا في مرآة عيون الناس من حولنا، تنسينا معالم وجوهنا.. تبقينا على آخر لحظة حب، تستحضر في ذاكرتنا آخر صورة لوجوههنا في أعين محبينا، وفجأة تتركنا تائهين.. مخدرين، نلعن لحظات التيه والخدر التي تجعلنا نبدو ناقصين أمام الناس التي تستجهل ما ألم بنا.. عيونهم كرابيج على أجسادنا.. تستخف بنا .
أتذكر ؟ لا لا أكيد لم تذكر.. لو تذكر نصف ما أذكر لحظة من ألف ألف لحظة حب عشتها معك لكنت معي الآن. فقتُ على تمادي يديك على جسدي وأنا ألمها بعيدة عني، وأنا مازلتُ منومة في خدر قبلتك الآخذة الساحرة، وأنا أوقظ حذري واستجمع عقلي المسلوب..
الآن أدركتُ أن لحظتك معي كانت غير لحظتي معك، لحظتي كانت كلها حب طاهر برئ، ولحظتك كانت ترتدي رداء الحب على جسد رجل يثور على جسد أنثى مستسلمة بين أحضانه.. شفتيها مغموسة بين شفتيه، وجسدها ملقى على كل قطعة في جسده بلا حيطة.. تعبث يداها وتعبث يداه.. يداي كانت عقلها قلبي المحب البرئ، ويداك كانت قلبها عقلها.. كل منا يعبث في اتجاه عكس الآخر.. أنت توجه يديك لتختار ما يحلو لها مني، وأنا يداي تضمك وتعتصر جسدك في عفوية وبلا ارادة . شتان ما بين لحظاتي ولحظاتك، تراني أذكرها كلها، وتراك نسيتها كلها.. يكويني عقلي بعدَك.. يمرض قلبي.. يفسد لحظاته الهنيّة معك.. يشقيني وأنت.
أتعلم أني بعدَك اخترت الجنون هويّتي.. اخترت المرض وأحببت الاعتلال بحبك.. أقصد صورة صدق حبي لك.. أتعلم أن الجنون إن بقى على ذاكرة حلوة صار محبباً لدى المجانين ورضوا به، وحبذوا انفصالهم عن عالم الناس ..
أعلم أنك لا تعلم ..
وبعد أن لممت يديك عن جسدي في شبه غضب اعتادت عليه مني.. تعرفه عني وقت التمادي. كم مرة صرخت في وجهك.. أنا بنت أبي الذي شكلني بأخلاقه وشرقيته. أرجوك لا تتمادى.. لا أحب أن أصغر أمامه.. لا أحب أن أجرح فخره بي.. خرجت من حجرتك كالهاربة في بعض التيه أتلمس طريقي لحجرة مرسمك.. تابعتني في فزع وسابقتني إلى هناك ووقفت أمام اللوحة.. تتعمد إخفاءها. كان من الواضح أنك لم تنم وقت كافٍ.. سهرت على لوحتك، ومطفأة سجائرك تستجير من زحمة أعقابك الذائبة التي مصصتها في نهم وتلذّذ. أتدري ؟ لولا انبهارك واندهاشك بوجودي فجأة داخل حجرة مرسمك، وارتباك نظرات عينيك وارتعاش أصابعك التي مازالت ملوسة بجفاف دم ألوانك، ولكن قلبي يدفعني لارتمي في حضنك وعناقك.. خجلت أن تحتضنني، كأنك لاحظت فجأة أن يداك غارقة بالألوان.. غارقة بدمي على لوحتك.. تلك الألوان التي قتلتني بها علي لوحتك الجديدة .. لوحتك هذه. ارتميت في حضنك رغماك، وأطلَّ رأس عقلي من خلف حضنك، وقاد عينيّ لأرى لوحتك من خلف جدارك الذي أقمته أمامي.. لسنوات. هي! نعم ! إنها هي! ..
رغم نرجسيتها وتباهيها المفرط بك، ودلالها دلال المغرور الواثق المنتصر. رغم نظراتها التي كانت تقذفني بها كل مرة ، كالبصقة السريعة المشمئزة على وجهي من فم عابر أهوج لا يحسن.. تِك.. كأنها لطمة على خدي.. لم أعِر لها اهتمامًا من قبل، وأنا جالسة بجوارك مدفون نصفي الأيسر في نصفك الأيمن، ويدك تلتف حول رقبتي، وأصابعك تعبث في خصلات شعري.. تدغدغني. أواه من نار الغيرة ! عجبًا لخديعتنا بأنفسنا لأنفسنا، كأن خديعة المحبين مسلوبين العقول هدف يسعون إليه. كأن حرق قلوبنا لذة.. لذة ألم . ماسوكية تسوقنا، لا نشعر بها في خدر اللذة . كأننا نكفر بناموس الناس ومنطقهم وتعقلهم، ونلهوا خلف قلوبنا الغاشمة المغلقة عقولها وأسماعها وأبصارها. فيقول الله فينا " وجعلنا من بين أيديهم سدًا ومن خلفهم سدًا فأغشيناهم فهم لا يبصرون " . كأن الله سلّط علينا ملك ينفخ في وجوهنا غبار النعاس.. غبار الغشم، تعمى أبصارنا ونحن ملهفون محلقون، ولكنا لا نرى شيئا حتى يجد الله فينا رشدًا . نحن الذين نخدع أنفسنا.. حين نحب بقلوبنا الضعيفة المراهقة، ونستنكر على عقولنا ومضاتها الحسيّة الراشدة.. تجاهلت ما رأيت، وتجاهلت اللوحة وصاحبتها.. صديقتي رجاء !
تجاهلت كل شيء في كبرياء متغطرس حتى لا أفاجأ بحقيقة تحطمني تحطيمًا وتوقظني من الحلم، ومن تجربتك الفريدة معي.. تجربة حبك . ما زلتُ حبلى بها بعد سنوات وسنوات، وبعد رحيلك الأبدي .
أترى لو تعاملت مع الأمر بعقلانية وبغيرة أنثى، كنت أجهضت حمل حبك في لحظتها، وما كنت الآن على ما بي من هوس وجنون، وحب يمد أذرعه الأخطبوطية يبتلعني معه كالسرطان الذي ينتشر حتى يفني الجسد يومًا بعد يوم، ويسقط حبك ولحظاته في بلوعات الدنس كلهوِ المراهقين الصغار مع أنفسهم في الحمّام . ولكني لحظتها لم أتحمل هذا الجرح القاتل المريع، فاخترت أن أكمل تجربتي معك حتى أكون أنا المنتصرة بك.. الفائزة بقلبك.. قلبي . جلست على كرسي جانبي في حجرتك في جزء مظلم، رسمت على معالمي البرود وأنا أضع ساقًا على ساق وأشعل سيجارة من علبة سجائرك الرخيصة بلا وعي.. وأنا أتعمد الضحك.. الضحك الهيستيري . كانت أول مرة أشعل سيجارة.. عادة جديدة عوّدني حبك عليها أيضًا.. لا أعرف لماذا أشعلت السيجارة ؟ هل كنت أريد أن أدلل على أني بداخلي شيء يحترق، وأطرده.. أنفثه بقوة ؟ أم أني أحاول إشعاله علّني أفيق من ناره التي تكويني ؟ كنت تنظر لي في شبه ابتسامة متسائلة تخشى البوح بمكنونها حتى لا يفضح أمرك.. أم أنك كنت تتساءل.. هل عَرِفَت ؟ هل رضيَت ؟ أم أنك تراني بعين أخرى.. عين تنظر لصغيرة جاهلة بحبها لا تحسن ولا تدرك ؟. أتعلم أول مرة ابتلع دموعي بقوة وحرص وأنا أطرد عينيك عن وجهي، ألوّح بيدي الممسكة بالسيجارة أمام وجهي الذي يملأه الدخان الكثيف.. مفتعلة سعلة صغيرة كي أخفي الأمر عنك، ولكنها تمادت وتنامت حتى كادت روحي أن تزهق حتى غطت الدموع وجهي. ـ هيا بنا ـ أمهليني خمس دقائق استبدل ملابسي وغبت سنوات، وبلا وعي أمسكت الفرشاة وفقأت عين لوحتك.. تركت رسالتي لك دفاعًا عني وجهل ظننتني عليه.. كلانا ارتدى قناعه الواقي وأنا أطير بك في سيارتي، كنت أصرخ كالمجنونة وأضحك وأتمايل على الموسيقا الصاخبة، وأنت في خجل القناع تنظر لي مبتسمًا.. ابتسامتك إيّاها التي خرقت قلبي.. كنت تسألني ما سر فرحتي، وأنا منهمكة في لهوي وسرعتي الجنونية دون أن ألتفت إليك (سأجيبك) وأطلعتك نبأ بابا بأنه سمح بمقابلتك وسماعك، ورأيت موت الأسطورة على بهتان حماسك، موت حبي الأسطورة بداخلك . وشعرت كأني أحفزك على أمر لا ترغبه.
وكان اللقاء.. اللقاء الذي ذبحني ذبحًا . استطاع بابا بخبرته وثقافته أن يقرأ مكنون كنت تقاوم الكلمات على الآ ينفلت على لسانك . شعر بابا بكسر قلبي المتوحد مع قلبه، وهو بغرابة الدهشة لم يتلمس حبك لي وتمسكك بي، مثل ما شعر بقدر حبي لك . لم يعنِه ما قلت عن ظروفك بأنك من أسرة فقيرة وأنك أكبر أخواتك الصغار، وأنك تعمل أثناء الدراسة لجل أن توفي إلتزاماتهم، وكأنك تشرح له حالك بأنك لا تستطيع أن تتزوج من ابنته، ابنته التي أثناء احتضانها ملّس على قلبها وربت عليه، وشعر بمدى حبه ووحشته لك، وحاول أن يجلب له حبيبه الذي يتألم من أجله، ولكنه لم يجد صدق الحبيب..
آه .. من كسرة قلب بابا بعد لقائك . حاول يومين تفادي النظر إليّ وتحاشى الجلوس معي، وكأنه هو الذي يحب وهو الذي صُدم في حبيبه . بعدها فوجئت بحجز التذاكر لكل الأسرة إلى بيت جدي أبو ماما في اليونان حيث يقيم خالي كوستا وابنته شيلي . البيت على طابقين بين ماما وخالي . أصريت على مقابلتك قبل السفر لأعرف منك نتيجة اللقاء، وكذبت عليّ وصوّرت لي أبًا غير أبي الذي أعرفه وأعرف مدى حنان قلبه، وحماسه الذي شعرت به بضرورة مقابلتك والتحدث معك، وكان يريد أن يقتنع بك ليلبي طلبي إرضاءً لي . قلت : " أن أباكِ يريد لكِ زوجًا من وسطكم، لم يرض بظروفي، لم يقبلني زوجًا لكِ" . فررت إلى ماما أصرخ في وجهها والدموع تملأ وجهي : ـ لماذا يرفضه ؟ ألأنه فقيرًا ؟ نسيَ سعادتي في اختيار شريك حياتي يحبني وأحبه.. لِمَ ؟ لِمَ ؟ .. أنتم لا تتصورون أني لا أستطيع العيش بدونه.. بدونه سأنتحر . وقفت ماما مبهورة أمامي لا تعرف ما يجب أن تفعله من أجلي، حائرة لا تعرف أي موقف تختاره.. تقف بجانبي وتقنع بابا أم تأخذ موقف بابا، وإذا بأخي شادي يسمع صياحي ويأتي عليّ منغعلا صارخًا : ـ تريدين أن تتزوجي هذا الشاب الفقير المعدم.. إنه شاب انتهازي ووصولي . وأقسم وهو بكل علامات الغضب بأنه سوف يذهب غدًا إلى الجامعة ويقوم بضربه وتهديده إذا حاول الاقتراب مني، رأيتني أصرخ في وجهه في عصبية ودموعي تغطي وجهي : ـ حرام عليك .. حرام عليك .. ارحموني سأموت .. سأموت وهددني بعدم الخروج من البيت مطلقًا حتى الذهاب إلى الجامعة، فدخلت حجرتي أبكي وانتحب على حبي الذي ضاع من يدي، وفقدي لحبيبي، ومرضت على أثرها أسبوعًا ولزمت الفراش ولم آكل سوى لقيمات قليلات وبعض العصير بالغصب منهم، حتى شعرت بالهزال الشديد وشحب وجهي وخف وزني كثيرًا، حتى قلقوا عليّ ونصحهم الطبيب بعدم تأجيل السفر وضرورة التغيير مفيد لحالتي .
زارتني رجاء واصطحبت معها زميلة أخرى قبل سفرنا بحجة الاطمئنان عليّ ، ولكنها حكت لي أن شادي جاء إلى الجامعة وهدد ياسر أمام الجميع، ومسكه من قميصه ودفعه في صدره حتى كاد أن يقع على الأرض، وشعر ياسر بالخجل الشديد وترك الكلية وخرج ورأسه في الأرض ويحاول ابتلاع دموعه أمام الزملاء، ونصحتني بأن أنساه في رحلة سفري هذا، لأن أهلي مستحيل أن يقبلوه زوجًا لي وخاصة بعدما حدث من أخي .. زادت عليّ ألام المرض بزيارتها هذه، ومكثت ثلاثة أيام أخرى في الفراش دون أن أتحدث إلى أحد شبه فاقدة الوعي . أقنع شادي بابا وماما بضرورة سفرنا وعرضي على طبيب من اليونان، وخرجت من منزلي حتى الطائرة وهم يحملونني .
======== ========== القراءة:
الحقيقة انني اعتبر أن الدكتور مختار مدرسة في السّرد والوصف... سرد مذهل...مؤطر تأطيرا زمكانيّا متداخلا مع الشّخصيّة...لا نكاد نفصل بين ثلاثتهم ...وكأنّي بالأديب "يستبطن السّحر ويضمره "، ليستحيل أنشودة حياة، لثورة تصف انفعالا، وتفاعلا مع الحركة والسّكون، ليؤسّس جماليّة النّص في حضرة المتعة والمؤانسة وفق رؤية واعية بالزّمن تبثّ رسالة، تؤطّرها داخل مكوّنها الطبيعي الذاتي، والبيولوجي المادي الجسدي للإنسان، فتغرف من أعماقها فيستحيل واقعا تخييليا، ميتافيزيقيا مجردا تسمو به اللّغة إلى عالم الجمال، والكمال والنّشوة كما آلهة الجمال الأسطوريّة. وكأنّي بالنّثر يماهي الشّعر في شاعريّته و يعانق العالم الغيبي في ميتافزيقيته وتجرّده وتعاليه في سرمديّته .. حوار خدم السّرد والفكرة والرّؤيا ... مونولوج آسر يأخذ العقل مربك ... تنحني له كلّ الأقلام المدركة لفن لذّة النّص... ولروعة براع إيقاع اللّغة الموقّعة بتعابير مجازيّة مراوغة، تعتمد المخاتلة والدّلال والإغراء والقرع و الدّقّ والشدّ على وتر الحرف الباث للرّوح، للدّفع نحو مفارقة صادمة للوحات، ومشاهد متحرّكة ...في حضرة البلاغة والمحسّنات البديعية... إلى جانب اختلال إيقاع الزّمن للحظة لدى : الأنا الأنا والهو الهو الهو في الانسجام في وقعها وتوقيعها في توحدها لحظة الفعل ولحظة التّباعد. . ف(الأنا هنا) في عرس "هنا أنا ..بين أنا بين كلّي وتفرّدي ..هنا تمامي وكمالي هنا يعود إلي لون بشرتي من جديد ينتظم نبضي يعود إليّ لساني وتلعثمي المحبب ،هنا تخرج فطريّتي حرّة جريئة بلا مخاوف الاتزان الاجتماعي ... " التحام المكان هنا بالذّات الأنا يوحّد الكلّ في الذّات ويوحّد الذّات بالزّمن الآن والزّمن الإيقاع الذي يحدثه الإيقاع فيأخذ بذلك الزّمن أشكالا مختلفة ....
وكأنّ إيقاع اللّحظة (تيك تاك) يتغيّر بتغيّر الدّور والآداء وهكذا فإنّه بعدم انسجامها مع بعضها البعض، يتولّد توازن انسجام الإيقاع الدّاخلي والخارجي للنّص باتساق المعنى مع المبنى المتوتّر المشاغب، والوحدات المؤلّفة للنّص الذي يبرز في التّشظي ونقاط الاستفهام وتكرار بعض الألفاظ والرّموز الدّلاليّة { هنا /أنا /لا / اللّقاء /ساحر /أخرجي / أحبّك / أحب / بمبي... } إلى جانب ضمير الكاف المتّصل كذلك حرف الهاء ليتآلف الكلّ رغم اختلافه مضيفا للنّص روحا شاعريّة وتناغما موسيقيّا كأنّه السّجع أو الرّقص على إيقاع رقاص السّاعة في مفهوم جديد مجرّد ميتافيزيقي متجدّد منقوش على أمواج زبد بحر ذاكرة زاد في نسق التّشويق وفي توتّر المتلقّي وفي فضوله ... فعدم توازن انسجام نبضات الأنا قلب الموازين وزلزل الأرض منبئ بهتك ستر العرف الاجتماعي والاتزان المنطقي العقلي السّائد.. مقتطف ابتدأ بقوّة وانتهى بمفارقة..كسرت أفق انتظار المتلقّي وخذلته... بانتصار جاذبيّة سياسة القطيع... موضوع قد يتكرّر ويتكرّر ولكن ما يميزه حرفيّة السّارد في تأليفه في مده وجزره ودقّة وتدفّق صوره ومعانيه و غزله بخيط حرير لتحفة فنيّة مرصّعة منمّقة كأنّها سجّاد فردوسي المخمل ...وبساط ريح سرمديّ يطبع مع جاذبية كونيّة مجرّدة... لا تخضع لجاذبيّة الأرض... .. ما أن تنتهي من قراءته حتى تعيده، وتعيده لتبحث عن مكامن الجمال فيه، وأين أودع صاحبه مفتاح سرّ سحر براعه... تعقيب سريع أرجو أن لا يكون متسرّعا ... تحيتي وتقديري دكتور على هاته الرّوح الإبداعية والطّاقة المتجدّدة في الكتابة المستبطنة لسحر ..التي تختفي وراءها ذات مثّالة تتمثّل الشّخصيّة في أدقّ تفاصيلها، وتمنحها قلبا نابضا، حسب حجم دورها، وتكون البيئة رافدا يستوعبها، وقاعدة ترفعها...فيرتفع المتن بارتفاعها وإتقانها...دعوة لإعادة التأمّل في الهدف...من وجهة النبّال والهدف المستهدف قبل وبعد غزوه...إن الحكمة تستدعي الحفاظ على كلّ هدف حقّقناه لتزيد مواردنا بالصّيانة والحفاظ عليها حتى لا تضيع وتتلف، وأن لا أن نفشل ويطفأ حماسنا ونرضى بالذلّ والهوان، وقبول استبداد طغيان سياسة مفهوم السيّد المفرد في صيغة الجمع، رئيس القبيلة الذي يحتكم للعنف والبطش والقهر، ويقدس المتعة الجسديّة ويعمل حسابا للعار، أكثر من إنسانيّة الانسان المتزن الذي يؤصّل كيانه في تأصيل ثقافته بترشيح الصّالح والاحتكام للعقل والفكر والمنطق واحترام الذّوات في كلّيتها لتعزيزها، و نبذ الرّديء الذي يساوي الإنسان بالحيوان ويقلل من قيمته، لديه ولدى غيره ....
سهيلة بن حسين حرم حماد سوسة/تونس 18/11/2020 الكاتب: هيئة التحرير بتاريخ: السبت 12-12-2020 06:58 مساء الزوار: 484 التعليقات: 0
|
|