|
|
||
|
قواعد النقد الأدبي في العربية
للأستاذ محمد ناجي أتى على العصور الأدبية في اللغة العربية أزمان قويت فيها الروح المعنوية فسالت كما يسيل الماء الصافي، فلم تكترث للّفظ، وغطّتِ الفكرة على كل شيء فكانت قوية قاهرة وهّاجةً تعنو لها الجباه ويقدرها النقاد، وأتى على اللغة العربية حين آخر خبا فيه بصيص هذه الأفكار، فعمد الكتاب إلى المساحيق والطلاء ليخفوا ضعف أفكارهم بالمحسّنات اللفظية غير الطبعية. ومع أننا في النقد الحديث نحبّذ كلّ التحبيذ الفكرة القوية الساطعة التي هي نوع من الإلهام يتصل بالخلد، ولا يتقيد بزمان ولا بمكان، إننا - مع ذلك - نقدّر كل التقدير القالب الذي تتجّلى فيه الفكرة، إذ أن من توافقهما يخرج الأسلوب الحسن المناسب، ونعرف الأسلوب بأنهُ حسن تأدية اللفظ للفكرة التي يحتويها، وكلما كان الأسلوب محسناً في تأدية هذه الفكرة صمد لمعاول النقد الأدبي وهنالك عناصر كثيرة تكوّن ذاك الأسلوب وتطبعه بطابع خاص، فهناك شخصية الكاتب تفيض في أسلوبه، وهناك (ملامح) تلك الشخصية تتجلى في استعمال ألفاظٍ خاصة نتوقعها كما نتوقع الدقة الموسيقية دليل الانسجام الموسيقي. ومن يقرأ أسلوب الكاتب الإنجليزي د كنز يصادف ذلك النوع من خفة الروح تداعبنا من خلال ألفاظه ونكاد ننتظرها قبل أن يقولها، فهي تميز أسلوبه تمييزاً تاماً عما عداه هناك إذن عوامل شتى تتجمع فيما نسميه الأسلوب وتتألف من شخصيه الكاتب ومن بيئته، ومن الأفكار المتعارفة في وقته، ومن مجرى الحوادث السياسية والاجتماعية. لكن ما هي القواعد الأدبية والأقيسة التي يمكن أن نحكم بها الأسلوب كما عرفناه؟ لا شك أن لكل قطعة حسنة الأسلوب جيدة التعبير عن المعنى الكائن خلفها، روحاً خاصاً قد نفهمه؛ وقد لا يمكن مهما حاولنا بأقيستنا أن نعرف نوع الجمال والسحر اللذين فيه، فغاية ما يمكننا أن نقول عنه إنه جميل. ثم هناك الجثمان اللفظي الذي يحوي الفكرة المعنوية، وهذا الذي يمكن أن نطبق عليه أقيستنا الصغيرة. وقد نقف أحياناً مكتوفي الأيدي أما القطعة الشعرية فلا يمكننا أن نعبر عن الجمال الروحي الذي بها، إلا أننا قد نبسط هذا التأثير بأن نقول: إنه ملك علينا مشاعرنا فحسب وأنه حاز رضانا وإعجابنا. ولما كانت مش تنحصر في هذه الحواس الخمس وفي ذلك الشعور الباطن بالجمال الذي نملكه، وفي تلك الأفكار التي تحتوي نماذج خاصة نقيس عليها كل جمال نراه، فيمكننا أن نقول: إن القطعة الأدبية تدخل علينا السرور عن طريقين كبيرين: أحدهما عن طريق العين والمرئيات فهي ترسم لنا صورة بارزة وأخيلة قوية ناطقة، وثانيهما عن طريق الأذن بواسطة السحر الموسيقي. فانسجام القطعة الأدبية يعرضها لنقدنا فوق كل شيء عن طريق البصر والسمع، ثم عن طريق قوة العاطفة والفكرة. وعلى هذا الأساس يمكننا أن نضع قواعد بسيطة للنقد الأدبي أولاها اختيار اللفظ الذي يحسن أداء المعنى المقصود. يقولون عن الشاعر أو الناثر المُجيد إنه لو اْنتُزع لفظ من كلامه لما أمكن وضع بديل منه يؤدي نفس المعنى في نفس المكان؛ ونتبين مقدرة الكاتب من هذا الاختيار للفظ الذي لا يمكن العبث به ولا التبديل فيه. ومن هنا نتبين قوة أسلوب الكاتب ومرونة ذلك الأسلوب ليفي بالغرض المطلوب منه في كل قطعة على اختلافها، ولتأدية الأغراض المختلفة في القطعة الأدبية يلي ذلك اختيار الكلمات وتنسيقها تنسيقاً موسيقياً، أو كما يرتب الرسام ألوانه ليخرج لنا الصورة الفنية. ولننظر في قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام ديناً) فنرى الانسجام اللفظي البديع الذي لا يتأتى تنسيق سواه أن يرتفع إليه. فقوله (أكملت) تراه يتردد في لفظ (أتممت) وفي لفظ (الرضى) الإلهي، كما يتردد النغم الطيب، فهذا إكمال الدين من جانب البشر، يقابله (إتمام) النعمة من جانب اللُّه، وينتج عنه الرضاء. ثم انظر إلى لفظ (الدين) في الأول و (الدين) في الآخر، ولفظ نعمة في الوسط وهي ترادف آخر للفظ (الدين). ولست أجد أبدع في ترتيب اللفظ من آي القرآن أما الناحية الثالثة فهي الوزن والقافية في الشعر. وليست أدرى لماذا أريد أن نتحرر من هذه القوافي التي تتحكم في أخيلتنا بلا مبرر والتي تلزم الشاعر ترتيباً من الأفكار قد يختل فيه الانسجام، ويضيع عنده الجمال. ولست أدري ما الذي يحول بيننا وبين أن نخرج على هذه البحور (الأثرية) التي قيدنا بها الخليل بن أحمد. ولست أدري لماذا نظل في الموسيقى الفردية ولا نخرج منها إلى الموسيقى الإجماعية التي يتكون فيها الجمال الفني من تضافر أنغام مختلفة لآلات كثيرة تساهم كل منها بنصيبها في تكوين القطعة. وليس من شك في أن للبحور الشعرية موسيقى خاصة، ولكن كل بحر إنما هي موسيقى فردية، فلنجعل للقافية وللوزن مكانهما في الشعر ولكن يكون أوسع من مكان الترجيع الممل في الموسيقى الفردية. وهناك إلى جانب هذا تمثيل الصوت بحيث يؤدي المعنى ويسمى وقد نظم تنيسون مقطوعة شعرية عن البحر، لتخال وأنت تقرأها أنك تسمع صوت جرجرة البحر وصخب الأمواج، وقد تم لمشاعر ذلك بانتخاب أحرف خاصة. ثم المجاز والتشبيه، وهمار كنان ينبغي أن نجعلهما يخدمان الفكرة لا أن تخدمهما، فهناك مواقف نحتاج فيها إلى التشبيه، ولا يمكن فهمها بدونه، خاصة إذا كان المعنى المراد تأديته إنما يقرب الذهن إن نحن ألبسناه صورة خاصة من الشبه. أما الناحية الأخيرة من نواحي النقد فهي التأثير الفني الإجمالي لكن ما هو هذا التأثير الفني؟ وأخالني أرى أولئك الذين ينتخبون ملكات الجمال، فيعمدون إلى قياس التناسب الجسديلمعرفة التناسق الجمالي، يسألون أنفسهم نفس السؤال: ما هو الأثر الإجمالي الذي يعطيه هذا التناسق الجسدي في مجموعه؟ وفي اعتقادي أن الإجابة على هذا السؤال تتوقف في النهاية على تميز هذا المجموع عن ذلك. إن لكل قوم ولكل زمان نماذج خاصة للجمال، وقد يفهم كل من الجمال بقدر ما توارثه من صور الجمال في ذهنه أو بقدر ما يصبو إليه في زمنه. قد يقرأ القارئ قطعة ثم يعود إليها فيفهم منها غير ما فهمه في المرة السالفة. ولشكسبير بعض قطع كلما قرأتها تبين لك معنى جديد، فكأنما الكاتب قد ملك ناصية المعاني وهو يكتب إليك من علياء بيانه فتقرأ تعبيره يوماً ما ثم يذهب بك الزمن فتقع في نفس الظروف والملابسات التي عرضت لذلك الكاتب فتتذكر اللفظ الذي كتبه وترى معنى جديداً حقاً ما أشق مهمة الناقد وما أوهن قواعد النقد! محمد ناجي الكاتب: هيئة التحرير بتاريخ: السبت 19-09-2020 03:17 مساء الزوار: 94 التعليقات: 0
|
|