|
|
||
|
قراءة نقدية في نص الشاعر رشيد حميدة للناقدة منوبية الغضباني تونس
يستأثر العنوان في هذا النّص الشّعريّ بالإهتمام فهو يغري متلقي النّص لتقصّي المعنى الكامن في "هلوسة الإنزياح والغموض"وكأنّي بالشّاعر ينبّهنا ويخبرنا بمصيرنا كقرّاء إيزاء "."انزياح وغموض " والإنزياح في صيغته الصرفية الحالية هو مصدر من الفعل انزاح ...
نقول انزاح الشيء أي ذهب وتباعد ولم نعد نقدر على ادراكه بجلاء.وتجيئ عبارة الغموض لتؤكد المعنى وتزيد الإنزياح غموضا وتتشتدّ حدّته بهلوسة تقترن بما أضيف إليها من" انزياح وغموض"..
فالعنوان وحده طافح بالتلميح لضبابية والشاعر يكاد يقول لنا ضمنيا "لن تظفروا بشيء ثابت وواضح ...هذا نصّي ولكم ولوجه إن رغبتم "
ولعلّه هناك فعل ابهار تعمّده الشاعرلشدّنا لنصّه .
غير أنّي كمتلقيّة ينمو لديها التّأويل من خلال فوانيس الكلام أذهب الى ترجيح توظيف الإنزياح كتقنية بلاغية تعالقت دون قصد مع عتبة النص أي "عنوانه "
فهذا النّص احتفى ببلاغة الإنزياح الذي صنّفه النّقاد والمهتمون بالشّأن الأدبي كوسيلة بلاغية و فنّ من أفانين الأسلوبية في الكتابة يحقّق اضافة جمالية للغة .. وهو نوعان
الدلاليّ، ويكون في البلاغة أو الصّور أو التّشبيه أو المجاز، وهو من الأنواع المؤثّرة تأثيرًا كبيرًا في القراءوهو ما اعتمده الشاعر في هذا المنجز الكتابي
والنوع الثاني هو الانزياح التركيبيّ، وهو مرتبطٌ بقوانين اللغة والنَّظم وتركيب العبارات كالتقديم والتأخير مثلًا.
فالشّاعر انحرف عن القاعدة بالألفاظ في النصِّ مِن سياقها المألوف إلى سياق جديد غير اعتيادي يَلْفِت النظرَ والانتباه.
يقول الشاعر في مطلع نصّه
ينصهر نبضي
من حرقة الانكسار
كسبيكة من ذهب
في تنور..
و الحشا يتفتّت
شظايا
في هلوسة
يندب القيم
على صدر مأتم...
نلاحظ توظيف الشاعر لمعجم لغوي بها من الهلوسة والغموض والإنزياح ما يتعالق مع هموم وانشغالات شتى فالأفعال(ينصهر..يتفتت ..يندب.)تمنح المعاني وجعا وتكسيها شجنا وألما وفجيعة
علاوة على الأسماء الواردة في علاقة مع ما سبقها من أفعال (نبضه"ينصهر"والحشا يتففت شظايا ...يندب القيم على صدر مأتم (
فالمعاني تتجاذبها أصداء والمعاني في انزياح تتباعد شتاتا
فسبيكة الذهب التي شبه بها نبضه يغيب لمعانها عند انصهارها بالنّار فلا ندرك معدنها و مع حرقة الإنكسار يضيق صدر شاعرنا ليصير صدر المأتم مسرحا للندوب ...
فالسياقات الخطية للإشارات اللُّغوية، تتتابع وتتلاحق مجازاتها وتشبيهاتها المباشرة والضمنية وكذلك استعاراتها لتمنح المعاني دلالاتها الوسيعة منتظمة وفق منطذق مخصوص غير مألوف
فالمفقود هنا هي "القيّم" والناعي أو النّادب هو "الحشا"...ومسرح المأتم ومكانه هو "الصّدر"
وتتسع دائرة التفاصيل الدقيقة فيصير الالألم جسدا له رأس وسبابة وأحضان وصدغ ومنكب وجناحان
تأمّلوا معي هذه المقاطع التي اجتثثتها من النّص
(يمسك نبضي رأسه بين جناحيه...غربة مميتة بين أحضان ملغومة ..نبضي يضع سبابته في صدغيه ...يجثو على منكبيه ...ينعى حاضرا ...)
فالكلام طافح بالوجع والتشظي يسرّب بوح الذّات في نبضها وقد التحم النّبض مع "ذات الشاعر" فتعمّق الإحساس بينهما فصار الشاعر يسبغ عليه من وجعه ويوزّع عليه أعضاء من جسمه ويعطيها المشروعية في حمل ما به من هلوسة ليظلّ هو طيفا يرفرف حوله
يمسك
نبضي رأسه...
بين جناحيه
الرّأس للشاعر أم للنّبض؟فالمعنى يجيئ ضمن تواتر الوعي بفيض مرارة داخلية ...
"ارتجاف وتوار من لهب السيّاط....فكر مسهوب يجلد...والأحضان غادرها دفء وصارت ملغومة فالصورة التي دلّ عنها المعنى تجيء أكثر ايلاما وتصدّعا ودمارا
و يستمرّ الشاعر في جرّ خيباته وانكساراته عاقدا أحبولة المجازات والإستعارات والإنزياحات في توظيف النّبض ومنحه صورة الجسد الخرب الذي تصدّع بحكم الخيبات ..
لينتهي بالقول
...
وجراحا
لا تندمل
للجحود..
وينعى حاضرا
آسرا مقيتا
مكبّلا
بالقيود...
فالتداعي على مستوى مضامين المعاني عميق وموجع..والإنهيار أمام القيود المكبّلة لإنطلاقه وانعتاقه تعلن نهاية مأساوية ..
أختم وأقول أنّ الشاعر ".."في هذا النّص وإن تسربل بالغموض والإنزياح فقد عثرنا عليه نبضا متقنا لفنّ التعبير ينثر لغة استولدها من حسّ شاعرنا ليقول أن لاشيء على مايرام وأنّه يعيش من من ضيق واغتراب واحباطات...
نصّ على شجنه جميل راق لي خوضه وتأويله والنّص ملك لقارئه والشاعر لا يملك وحده دلالة المعاني ....وتبقى القراءة خاطئة تنتظر قراءات أخرى تكملها ...فتحية للشاعر رشيد بن حميدة
منوبية الغضباني تونس
هلوسة الانزياح
و الغموض
**************************
ينصهر نبضي
من حرقة الانكسار
كسبيكة من ذهب
في تنور..
و الحشا يتفتّت
شظايا
في هلوسة
يندب القيم
على صدر مأتم...
يمسك نبضي
راسه
بين جناحيه
يتوارى
مرتجفا
من لهب السّياط
لفكري المسهوب
من غربة
مميتة
بين أحضان
ملغومة
للوجود..
نبضي المكلوم
يضع سبّابتيه
في صدغيه
ويجثو منهكا
متّكئا
على منكبيه
يبكي حظّه
وجراحا
لا تندمل
للجحود..
وينعى حاضرا
آسرا مقيتا
مكبّلا
بالقيود...
***************************
رشيد بن حميدة- تونس
في6-9- 2020
الكاتب: هيئة التحرير بتاريخ: السبت 12-09-2020 04:42 مساء الزوار: 316 التعليقات: 0
|
|