|
|
||
|
طقوس الكتابة بقلم / فيصل سليم التلاوي
عندما تتوجه لحضور ندوة أدبية بهدف الاستماع لشهادة إبداعية، يستعرض صاحبها مسيرته الأدبية في فن القصة القصيرة أو الرواية أو الشعر أو أي لون من ألوان الفنون الأدبية، فإنما تهيئ نفسك لسماع الجديد والمختلف، الذي يميز كاتبا عن آخر في تعامله مع نصوصه. كيف يتهيأ للنص ويستقبله، وكيف يمارسه حتى يفرغ منه، ويغادره نهائيا وينتقل لغيره. وأيهما يروِّض الآخر، ويجعله طوع بنانه ورهن إشارته، أهي الموهبة تفرض نفسها على صاحبها؟ أم أن صاحبها هو من يروِّضها ويسيِّرها، فيوجهها كيفما يريد ووقتما يشاء. وما هي الطقوس والأحوال المرافقة للإبداع قبله وأثناءه وبعده؟ متى يغزر الإنتاج ومتى يشح؟ وما هي العوامل المؤثرة في ذلك؟
لكن ما يؤسف له أن اللقاء قد يستمر أياما، ويتعاقب على منصة الاعتراف مبدعون كثر، حتى ينفض الاجتماع دون أن تسمع ما يشفي غليلك، ولا ما تشوقت لأن يفاجئك به كاتب صريح. بل إن معظم ما تستمع إليه من شهادات تسمى إبداعية لا يعدو أن يكون واحدا من نهجين مكررين:
أولاهما: استعراض لمسيرة الفن الأدبي الذي ينتمي إليه منذ بداياته، فمراحل تطوره وتعاقب أجياله حتى اليوم، وموقع الأديب صاحب الشهادة وإسهاماته ضمن هذه المسيرة. ومثل هذه الشهادة يمكن مطالعتها في مقالة أدبية، أو لقاء على صفحة مجلة أو صحيفة، ولا تحتاج إلى لقاء أدبي يجمعك بصاحب النصوص ومبدعها.
وأما ثانيهما: فأشبه ما تكون بقصة رمزية موغلة في غموضها وإبهامها، فكأن أحدا يشكك في موهبة صاحبها، فيريد أن يقدم دليلا على قدرته على فن صياغة الكلام، فيقدم شهادة أقرب ما تكون للطلاسم والألغاز، بعيدة عن الكشف والمصارحة والتلقائية، ولسان حالها القول الذي صار مكررا: (أنا لا أكتب النص بل النص هو الذي يكتبني)، فكأنه يجثم على صدره ويفرض نفسه عليه، وليس له من خلاص منه إلا القيام بإفراغه على الورق، وفي هذا مبالغة لا تبتعد كثيرا عن منطق شياطين الشعراء، التي توحي إليهم زخرف القول غرورا، والتي كانت معروفة ومشهورة لدى الأقدمين، حتى بأسماء هؤلاء الشياطين ونسبة كل منهم لشاعر معين، فشيطان امرئ القيس هو لافظ بن لاحظ، وشيطان عبيد بن الأبرص هو هبيد بن الصلادم، وشيطان النابغة هو هادر، وشيطان الأعشى هو مسحل، وغيرذلك كثير.
وأعتقد أن في ذلك مبالغة كبيرة، وحرمان للمبدع من شرف المساهمة الفعلية في صنع نصوصه الإبداعية بنسبتها إلى غيره، بل إلى قوى غيبية ومؤثرات خرافية.
الشهادة الإبداعية ينتظر منها السامع أن يجيب صاحبها عن أسئلة محددة تفيد السامعين، وتقدم لهم جديدا ومختلفا من شخص لآخر. ومن ذلك مثلا:
- متى وكيف بدأت رحلتك مع الكتابة؟
في أي مرحلة من مراحل العمر بدأت أولى تجاربك مع الكتابة، وهل أخذ أحد بيدك ودلَّك على معالم الطريق؟ أم ولجته منفردا وواصلت سيرك وحدك؟
- كيف شققت طريقك إلى عالم النشر في الصحف والمجلات؟ أبالكفاءة والجدارة وحدهما، أم بالواسطة وتقديم أحدهم إياك إلى محرري الصفحات الأدبية؟ وهذا اعتراف يحتاج إلى قدر كبير من الشجاعة لا يملكها إلا قليل.
- كيف تواتيك ساعة الكتابة؟ وفي أي أحوالك يواتيك الإلهام؟ هذا إذا أقررت بوجود إلهام أصلا. أم أن الكتابة الأدبية عدا الشعر فنون تكتسب بالممارسة والمثابرة وعميق القراءة، وطول المران والتدريب، والسير على خطى السابقين من الكتاب و الأدباء؟
- هل تختلف أحوال الكتاب والشعراء ومواعيد لقاءاتهم بنصوصهم وحالاتهم أثناء تلقي تلك النصوص.
بعضهم لا تواتيه الفكرة، ولا تنقدح في ذهنه شرارة الإلهام إلا ماشيا. يجب أن يسير على قدميه طويلا، فلا يتفتق ذهنه عن الفكرة أو القصيدة إلا وهو يسير، وحتى يجد نفسه يحدث نفسه بالنص من أوله لآخره مرات ومرات، وبعدها يجلس ليدون ما توارد في خاطره أثناء سيره. لقد اعترف جبرا إبراهيم جبرا أن معظم رواياته ما كتبها إلا بعد جولات طويلة سيرا على قدميه في شارع النهر ببغداد.
والسفر شبيه المشي في ذلك. إن الارتحال الدائم وعدم الاستقرار في مكان، هو محرض آخر للكتابة بما يشاهده الكاتب من جديد، وبما يستشعره في نفسه من وحشة الطريق، وإحساسه بالوحدة والغربة ومرارة الفرقة، وكل ذلك مما يشحذ قريحته ويقدح زناد موهبته، ولو ظل جالسا ما عنَّت على باله فكرة. فالاستقرار في المكان والانشغال بالأمور اليومية والعلاقات الأسرية والشؤون الاجتماعية يقطع خيوط الموهبة، ويجهض العمل الأدبي في بداياته أو منتصفه أو قبيل خاتمته، بالانصراف عنه كل حين إلى أمر آخر من الأمور اليومية، وتتابع ذلك وتكراره يؤدي إلى خمول الذهن، وموت الموهبة الأدبية.
وبعضهم يرى عكس ذلك تماما، ويجد في الاستقرار والهدوء والسكينة واحته التي يأنس إليها، وينغص عليه أن يغير موضع جلوسه، أو أن يمس أحد أدوات عمله من أقلام وأوراق ودفاتر، ولو لترتيبها ونفض الغبارعنها، فهو يأنس فوضاه ويرتاح لتناثرأوراقه، ولا يستطيع العمل في جو مرتب أنيق، فللناس في ما يعشقون مذاهب.
وكم نود أن نسمع من أصحاب الشهادت الإبداعية عن أثر ذلك على إبداعهم. هل يجدون في العزلة والوحدة أم في الارتحال الدائم محفزا للعمل الأدبي أم مثبطا له؟ وهل تبعا لذلك نجد لدى كثير من الأدباء والكتاب عزوفا عن الزواج، أو انفصالا سريعا بعده، أو قلة إنجاب للأطفال، لأن كل ما سبق خصوم للإبداع الذي لا يقبل شريكا ولا منافسا.
والعمل الأدبي نفسه، كيف ينجزه صاحبه؟ بعضهم تبدأ القصة فكرة في ذهنه، وتأخذ تتسع وتكبر أياما تطول أو تقصر، حتى يسير محدثا بها نفسه، يحس أنه بات يحفظها عن ظهر قلب، بعدها يجلس للكتابة ساعات قليلة، يفرغ بها القصة التي حفظها كاملة وينتهي الأمر، وبعدها يحتاج لفترة زمنية لنسيانها وإخراجها من ذاكرته، وعدم الوسوسة بها أثناء سيره، وإعداد ذهنه لاستقبال بذرة عمل جديد.
وبعضهم عكس ذلك يجلس للكتابة خالي الذهن، يولد الأفكار والأحداث أولا بأول، ويسطر عمله سطرا بعد سطر، يتركه في بداياته أو منتصفه أو خاتمته، ثم يعود إليه وقتما يشاء، فلا ينقطع حبل أفكاره ولا يتغير عليه شيء، فلكل طريقته التي يطوع موهبته لها، وهذا التنوع هو ما نتمنى أن نسمعه من أصحاب الشهادات الإبداعية.
ومثل ذلك غزارة الإنتاج الأدبي أو شُحِّه، وما هي العوامل المؤثرة في ذلك؟ وهل للكتابة مواسم معينة وأماكن معينة؟ في الليل أو النهار؟ في شهور من السنة بعينها، هل تجف القريحة زمنا، خاصة لدى الشعراء فلا يستطيعون الكتابة ولو أجهدوا أنفسهم؟ وهل تغزر القريحة زمنا حتى تفيض فيكتب الشاعر عدة قصائد في أيام معدودات؟ وقد تهجم على فكره أكثر من قصيدة في آن واحد، فيترك ما بين يديه لينشغل بالقادم الجديد خشية تفلته وضياعه، ثم يواصل إكمال القصيدتين معا، يصرف جزءا من وقته لواحدة، ثم يلتقط أنفاسه ليعاود ويطرق باب قصيدته الأخرى، يتنقل بين الاثنتين كأنهما زوجتان، حتى يفرغ من إحداهما أو كليهما. وهل يتفاوت الشعراء في ذلك مثلما قيل قديما: (جرير يغرف من بحر والفرزدق ينحت من صخر) ومثلما يعترف الفرزدق بذلك عندما يقول: (إن خلع ضرس أهون عليَّ من قول بيت من الشعر في بعض الأوقات).
وإذا عدنا إلى أدبنا، و طالعنا في كتاب(العمدة) لابن رشيق القيرواني فسنجد أنه أفرد للشعراء العرب الأحوال التي بها يُستدعى بها الشعر، فكثيّر عزة كان يطوف في الرياض المعشبة، بينما كان الفرزدق يركب ناقته ويطوف منفردًا في شعاب الجبال وبطون الأودية والأماكن الخربة. وأما جرير فكان يشعل سراجه ويعتزل، وربما علا السطح وغطى رأسه رغبة في الخلوة، بينما ذو الرمة كان يخلو لتذكر الأحباب.
وكنت قد قرأت أن أمير الشعراء ( أحمد شوقي) كان يكتب في المقاهي، وعلى أوراق علبة التبغ، وكان يترنم في شعره قبل أن يكتبه، وذلك في تجواله على شاطئ النيل، والجواهري كان يحدو بشعره، ويعاود ترداده بصوت مسموع أثناء كتابة قصيدته، ونزار قباني كان لا يستخدم إلا الورق الملون في كتابته.
ثم هل يظل الشعر موهبة تجيء عند الانفعال والتأثر بالأحداث الطارئة والمستجدة؟ أم يصبح صنعة متقنة لدى كبار الشعراء، يستدعونه ويتقنونه كل حين وأنى يشاؤون؟ والأمثلة كثيرة وأكثر من أن يحصيها عدٌّ لشعراء قدامى ومعاصرين. أما القدامى فيروى أن الشعراء العباسيين كانوا يعدون شعر المناسبات قبل أوانه، حتى لا تفاجئهم الحوادث فلا يدركون تتبعها، ومن ذلك في باب الرثاء إعداد القصائد لرثاء أم الخليفة وزوجته أو أي عزيز عليه، وهو لا يزال حيا، تحسبا واستباقا للأحداث على ما في ذلك من صنعة وبرود عاطفة مصطنعة. أما المعاصرون فمن الشعراء من تتعدد دواوينهم، ويقولون بديع الشعر في كل آن وكل مناسبة، وليس الجواهري وعبد الرزاق عبد الواحد ويحيى السماوي ومحمود درويش من المعاصرين إلا نماذج لهذا الشعر الغزير البديع.
ومن الشعراء من ينطق بالشعر أكثر مما ينطق بالكلام، ومثال ذلك الشاعر سعود الأسدي، الذي يُعَقِّبُ على كل قصيدة ينشرها ما لا يقل عن عشرين متذوقا للشعر، فيرد على كل منهم بباقة من أبيات شعرية بديعة، وفي مدة زمنية قصيرة، ويكرر ذلك عشرات المرات، لا يتوانى ولا يتطرق الكلل والضعف إلى شعره، فكأن الشعر حاضر لديه وعلى لسانه في كل حين.
أما الروائيون فمنهم من لا يتقن إلا وصف المكان الذي يعيش فيه ويرتبط بأحداثه وأشخاصه، فساكن المدينة لا يتقن وصف حياة الريف، ولو أجهد نفسه في ذلك، ومثال ذلك روايات نجيب محفوظ وجمال الغيطاني التي تصور حياة القاهرة، وعلى النقيض من ذلك تجد روائيا لا يتقن إلا وصف الريف، ولا يقترب من حياة المدينة مثل يوسف القعيد، أو روائيا يتخصص في وصف البيئة الساحلية والبحرية وحياة البحارة والموانئ مثل حنا منّه.
فالرواية يلزمها أوصاف وتفاعل مع المكان والأشخاص، لا يستطيعها إلا من عايش المكان بنفسه، ولا يكفي التخيل وحده لرسم صور وأحداث متعددة ومتداخلة ومتعاقبة، وقد يحدث أن يستعين الروائي بمن يحدثه عن المكان الذي يريد أن يكتب عنه، فيجيد وصفه له، ويجيد هو التلقي والتفاعل مع المكان الموصوف، حتى كأنه يعيش في المكان ذاته، ومثال ذلك ما صنعه الروائي حيدر حيدر في روايته (وليمة لأعشاب البحر) التي صور في جانب منها بيئة الأهوار في جنوب العراق، بطبيعتها ومياهها وقصبها ومراكبها، وحياة سكانها تصويرا بديعا لا يتقنه من عاش عمره كله في منطقة الأهوار.
ومن الكتاب من لا يستطيع الكتابة إلا عن أحداث عايشها وشاهدها بأم عينه، يزيد في أحداثها أو ينقص، ويتصرف بها قليلا أو كثيرا، لكن الفكرة الأساسية لا بد أن تكون حقيقية جابهته يوما ما. وآخرون لديهم من ملكة التخيل عوالم لا حدود لها، يغرفون من بحرها وينسجون القصص والروايات من بنات أفكارهم ومخيلاتهم.
وبعد ذلك ماهي الوسيلة التي يفرغ النص بها وعليها؟ أهي القلم والورقة كماضي العهد الذي نألفه، أم هي الطباعة على جهاز الحاسوب؟
أكثر الكتاب خاصة من أبناء الأجيال القديمة، لا زالت تألف القلم والورقة ولا تجد لهما بديلا، وتحس بالانقطاع وعدم الدفء لو انقطعت هذه الصلة بينهم وبين نصوصهم، تحس بالبرود والشرود لو جلست أمام الحاسوب لتسكب على شاشته إبداعها، الذي اعتادت سكبه على الورق، فلاتستسيغ ذلك إلا بعد الفراغ من كتابة النص، عندها تجلس لتنقل من الدفتر إلى الشاشة، ناسخة ما فرغت من كتابته على طريقتها التقليدية المحببة والمألوفة والقريبة إلى قلوبها. وفئة أخرى خاصة من الأجيال الشابة، تجد نفسها قد شبت مع أجهزة الحاسوب وألفتها منذ نشأتها الأولى، فاستساغت الكتابة مباشرة على الشاشة دون مقدمات على الورق، وترى في ذلك سرعة واختصارا للوقت، الذي تنفقه في الكتابة مرتين واحدة على الورق ثم تكرارا له على الشاشة، ويجاريهم في ذلك بعض قدامى الكتاب، الذي روض نفسه على ذلك ولحق بالعصر ووسائله، وهيأ نفسه للحاق بالقطار حتى وهو يسير.
والأغرب من ذلك أنني قد قرأت حوارا قديما يعود لعشرات السنين، مع كاتب يعلن أنه لا يكتب نصوصه إلا على الآلة الكاتبة القديمة، بطرقاتها التي تقرع الجمجمة مع كل حرف تطرقه على الورق، دون إعداد مسبق، ويجد في ذلك متعته وطريقته التي يأنس إليها، فلله في خلقه شؤون!
إن ما نتوق إليه لدى سماعنا للشهادات الإبداعية، هو هذا التنوع في تجارب الكتاب والمبدعين، ومعرفة الطريقة التي يصنعون بها نصوصهم، على تنوعها وتعارضها واختلافها من كافة الوجوه.
الكاتب: حيدرالأديب بتاريخ: الجمعة 17-07-2020 10:36 صباحا الزوار: 240 التعليقات: 0
|
|