قراءة تحليلية بقلم الناقد : أكثم جهاد للقصّة القصيرة جدّاً (خذلان) للكاتب المبدع: محمود السليمان.
======= النص (ق.ق.ج) ============ خذلان طحنتهم الحرب، ذرتهم ذرو الرياح، احتضنتهم المخيمات، تلقفهم الجوع، ناموا على الطوى، تساقطوا كأوراق الخريف؛ دفنوا بلا أكفان؛ غربان العرب تنعق فوق أجداثهم. بقلم الأستاذ: محمود السليمان_سورية ============================== _العنوان: اسم نكرة، مصدر خَذَلَ، بمعنى الخِزي والخيبة...التّخلّي عن المساعدة والنّصرة. عنوان مناسب لأحداث القصّة، فيه تكثيف ذا مضمون يوافق فكرة القصّة. _متن القصّة: انتهج الكاتب في هذه الأقصوصة أسلوب السّرد المباشر، دون التّطرق إلى المحاكاة الرّمزيّة في نصّه، رغم استخدامه للأفعال بصيغة الماضي (طحنتهم، ذرتهم، احتضنتهم، تلقّفهم، ناموا، تساقطوا، دُفنوا) وهذا الأسلوب القصصي يُمتهن غالباً لإيضاح وإبراز مقوّمات أل ق.ق.ج بشكلٍ مباشر، دون تأويلٍ لمجريات الأحداث، وذلك لتبيان الحدث من منظور القاصّ للفكرة التي يريد إيصالها لفهم القارئ. القصّة ذات مضمون سياسي إنساني واقعي، حدثت مجرياتها في الماضي وفي الحاضر ولسوف تحدث أيضاً في المستقبل القادم في ظلّ الظروف الراهنة. إنّها حكاية المُهجّرين من بلدانهم، بعدما أخذت منهم الحرب كلّ ما هو غالٍ ونفيس، فالأمّ فقدت وليدها، والأب فقد ابنته، والزّوج فقد زوجته، والتّاجر فقد أملاكه وماله...الخ، ليصبح الجميع في مزيجٍ واحد، داخل القالب الواحد، نتاجه بنيان بشريّ جديد هو (اللاجئ) الذي فرضه الواقع المرير وأنجبته ويلات الحروب. أصبح هذا اللاجئ بين قالبي الرّحى المتنازعة وهي تدور فوق سمائه وتحت أرضه (طحنتهم الحرب)...هذا الكيان الأيديولوجي أخذ يتخبّط في مسيرته، وأصبحت عناصره مشتتة بشكل عشوائي، تطلب الخلاص من مستنقع الهلاك، إلى برّ الأمان، وإن تفرّقت بها السّبل (ذرتهم ذرو الرّياح). لم يكن أمام تلك الشّرائح الممزّقة من هذا الكيان سوى الرّضوخ والاستسلام لقرار الهجرة القسّريّة والتّخلّي عن حقوقها الملكيّة والتمسّك بقانون النّجاة وذلك تلبية لغريزة حبّ البقاء التي فُطِر عليها الإنسان...ذلك القرار جاء دون اعتبار للمكان الذي ستطأه أقدامهم، فالمساحات التي بين الحدود شاسعة وهي ذات أرضية خصبة للبيئة القاسية وقادرة على استيعاب العناصر المكدّسة فوق بعضها، وإنشاء ما يُسمّى بمشروع (المخيّمات) لتكون لهم الأم الرؤوم التي تُلملم البقيّة النّاجية من براثن الحرب (احتضنتهم المخيّمات). انتقل الكاتب مباشرة إلى المشهد الدرامي الواقعي، وذلك بتلخيصه لصور تتابعية للحياة اليوميّة المأساوية لهذا التجمّع البشري، في إشارة منه للتّاريخ بأن يسجّل عبارة: هنا موطن الإنسانيّة المُعذّبة. فقد رسم تلك المشاهد ببراعة وإتقان تدل على بصيرة الكاتب النّافذة لقلب الحدث. فهو لم ينقل لنا الصور بعين (الكاميرا) الملوّنة، بل رسمها بلغة حسيّة ينزف لها الضمير الإنسانيّ النّبيل، فالمشهد الواقعي الملموس مؤلم ولا يليق في وصفه إلّا ذلك الّلون الرّماديّ، والمناخ العام في كلّ فصول السّنة هو خريفيّ قاسٍ، حيث الصّغير يسقط قبل الكبير من أثر الجوع، والكبير جاثمٌ مكانه في انتظار المجهول ولا يستطيع كسر سلاسل قيود الأنظمة والقوانين (تلقّفهم الجوع، ناموا على الطوى، تساقطوا كأوراق الخريف). هذا التّساقط الزّمني من أجندة حساباتهم المستقبليّة، لم يكن في الحسبان، في تلك المرحلة الانتقاليّة، وذلك لضمور الشعور الوجدانيّ في نفوسهم نتيجة اللامبالاة وعدم الاكتراث لقضيتهم المصيريّة ممّن وعدوهم بالعودة الميمونة واسترداد لحقوقهم المهدورة، عبّر عن ذلك الكاتب بجملة رائعة فيها كلّ معاني القسوة والحرمان (دُفنوا بلا أكفان) وكلمة بلا أكفان فيها تعبير مجازيّ عن المواقف السّلبية تجاه قضيّتهم المصيريّة. انتقل الكاتب إلى الجانب الآخر بقفلة مدهشة، أظهر فيها الرّدود السّلبيّة الغوغائيّة لذوي النّفوذ في الحكومات العربيّة ما بين استنكار وتنديدٍ وتوجيه للاتهامات لغيرهم ولبعضهم من خلال التّصريحات الجريئة لحجم المأساة الواقعة، رغم أنّهم الموقّعون على تفاصيلها، ليكون هذا هو الخذلان الحقيقي من جرّاء مواقفهم السلبيّة والتي باتت وصمة عار في سجلّاتهم التّاريخيّة (غربان العرب تنعق فوق أجداثهم). _وفي نهاية قراءتي أقول: إنّ الكاتب المبدع محمود السليمان قدّم لنا أقصوصة بديعة ذات رسالة إنسانية جليلة، تحمل في طيّاتها فكراً نيّراً، ورؤية نافذة لواقعٍ مرير. _تحيتي للكاتب المبدع محمود السليمان...ومزيداً من التوفيق في أعماله القادمة.