|
|
||
|
قراءة فلسفية في قصيدة “حين تنحني الجهات لعينيكِ” للشاعر موسى الشيخاني بقلم: د. آمال بوحرب
الانزياح الشعري: حضور الأنثى بين الصمت واللغة
قراءة فلسفية في قصيدة “حين تنحني الجهات لعينيكِ” للشاعر موسى الشيخاني بقلم: د. آمال بوحرب – باحثة في الفلسفة والأنثروبولوجيا
حين يخرج الشعر من دائرة التوصيف المباشر، ويتحوّل إلى فعل تأويلي يعيد مساءلة الكينونة، تتجاوز القصيدة حدود الغزل التقليدي نحو مجازفة أنطولوجية تنبش في جذور اللغة والمعنى والعلاقة بالآخر. إن الأنثى هنا لا تظهر بوصفها جسدًا أو موضوعًا للحب، بل بوصفها قوة رمزية تعيد تشكيل مفاهيم الزمن، الهوية، والحضور ذاته.
هذه القراءة تحاول أن تستنطق القصيدة بوصفها تجربة لغوية فلسفية، تتقاطع فيها مفاهيم من الفكر الظاهراتي، التفكيكي، الوجودي، الصوفي، والأخلاقي، وهي مفاهيم لا تُبحث في الأكاديميا فحسب، بل تتجلى بوضوح عبر الصورة الشعرية والانزياح الدلالي العميق.
يقول الشاعر موسى الشيخاني:
حينَ تفتحينَ رمشَ الغياب، تتهاوى الساعاتُ من خجلِ النبض، ويُصابُ الوقتُ بانكسارِ المعنى.
لستِ امرأةً، بل انزياحٌ في قاموسِ الحضور، غيابٌ يُشبهُ الإفاقة، وشهقةٌ تمشي على خيطِ الوهم.
صمتُكِ… صلاةٌ لم يكتبْها نبيّ، لكنّها تنقضُ قوانينَ الوقتِ واللغة.
أُحبُّكِ… كما يُحبُّ الماءُ طينه، وكما ينسى الحرفُ ملامحَهُ حين ينامُ في حضنِ المجاز.
غيابٌ يُشبهُ الإفاقة، وشهقةٌ تمشي على خيطِ الوهم.
أولًا: الزمن المتشظي وانكسار الترتيب يفتتح الشاعر نصه بصورة مدهشة تكشف عن لحظة من التشظي الزمني، حيث تتهاوى الساعات ويصاب الوقت بانكسار المعنى. “حينَ تفتحينَ رمشَ الغياب، تتهاوى الساعاتُ من خجلِ النبض، ويُصابُ الوقتُ بانكسارِ المعنى.” في هذه اللحظة، تُعلَّق القوانين المنطقية للتتابع، ويظهر ما يسميه هايدغر “الزمن الأصيل” الذي لا يُقاس بالساعة بل يُعاش وجودياً. الأنثى لا تدخل المشهد بوصفها كائناً جمالياً، بل كقوة زمنية تعيد تشكيل الترتيب الوجودي للعالم، ويصبح الغياب فعلًا زمنياً يهز أركان الدلالة الخطية، ويقلب مفهوم البداية والنهاية رأساً على عقب.
ثانيًا: الأنثى ككيان لغوي وانزياحي “لستِ امرأةً، بل انزياحٌ في قاموسِ الحضور،” هنا تخلخل القصيدة مفهوم “الأنوثة” بوصفه معطى بيولوجيًا أو ثقافيًا. الأنثى لا توصف، بل تُفكّك. إنها ليست امرأة، بل أثر لغوي، حدث في اللغة يُزعزع استقرارها. الانزياح هنا ليس مجرّد صورة بل هو انقلاب في البنية الخطابية، حيث تتحوّل الأنثى من موضوع للتمثيل إلى بؤرة تأويلية تهدم الحدود التقليدية بين الدال والمدلول. هذا التفكيك يخلق جسداً لا يُحتوى، لغوياً وفكرياً، بل يتبدّد في النص ويتجدد عبر التأويل.
ثالثًا: الصمت بوصفه فعلًا مناهضًا للقول “صمتُكِ… صلاةٌ لم يكتبْها نبيّ، لكنّها تنقضُ قوانينَ الوقتِ واللغة.” الصمت هنا ليس سكونًا سلبيًا بل ممارسة وجودية تحتج على اللغة ذاتها. إنّ هذا الصمت يتجاوز حتى الخطاب النبوي، لأنه لا يُحتاج إلى تدوين أو وحي، بل هو طقس باطني، يتجاوز المحدودات النصية. الصمت يعبر عن وفرة لا عن نقص، عن طاقة مشحونة لا يمكن تفريغها عبر الكلمات. وهو في عمقه انزياحٌ عن المعنى الحرفي إلى معنى ميتافيزيقي، حيث تكون الأنثى فاعلة عبر الامتناع.
رابعًا: الحب كفناء صوفي داخل المجاز “كما يُحبُّ الماءُ طينه، وكما ينسى الحرفُ ملامحَهُ حين ينامُ في حضنِ المجاز.” هذا المقطع يفتح القصيدة على البعد الصوفي، حيث الاتحاد الكوني بين المحب والمحبوب يشبه اندماج العناصر الطبيعية الأولى. الحرف يفقد ملامحه في المجاز كما الماء يعود إلى طينه، وهو ما يعكس نظرية الحلول الصوفي، حيث لا يبقى من المحب شيء منفصل عن المحبوب. الحب هنا ليس انجذابًا بل ذوبان، لا يُقال بل يُعاش، ليصير الحضور الشعري فعل اندماج مطلق في المعنى، لا يقبل الفصل بين "أنا" و"أنتِ".
خامسًا: تحوّل الذات أمام الغيرية الكاملة “وشهقةٌ تمشي على خيطِ الوهم.” المرأة لا تُعرض كمتلقية للحب أو نظيرٍ للرجل، بل كقوة تؤثر على البنية العميقة للذات. "الشهقة" هنا ليست انفعالًا عاطفيًا بل انكسارًا وجوديًا، حيث تتوقف الذات عن كونها مركزًا للمعنى. إنها لحظة يتحول فيها المتكلم من فاعل إلى مفعول به، ويصبح اللقاء مع الأنثى نوعًا من التعرية الوجودية. في هذا السياق، تصبح الأنثى مرآة تكشف هشاشة الأنا، وتدفعها إلى إعادة التشكل في ضوء حضورها الأخلاقي والعاطفي الطاغي.
سادسًا: اللغة تتفتح على الغياب لا على اليقين “غيابٌ يُشبهُ الإفاقة…” المفارقة هنا أن الغياب لا يُقرأ كاختفاء، بل كإمكانية متجددة للمعنى. في هذه الجملة، يتجلى البعد التفكيكي الذي يرى أن المعنى لا يستقر أبدًا بل يولد من تردد الحضور والغياب. اللغة تُعاد بناؤها لا من خلال ما هو حاضر، بل مما ينقص، من الفراغ الذي يخلفه الغياب. فحين تغيب الأنثى، لا تتلاشى، بل تفيض في النص على هيئة انزياحات وإيماءات وتوترات لغوية. الغياب هنا هو شرط الحضور الأقصى، وحالة الإفاقة لا تعني الاستيقاظ، بل وعيٌ عميق بالفراغ الم في قصيدة "حين تنحني الجهات لعينيكِ"، لا تتجلّى الأنثى كمجرد معشوقة أو رمز غزلي تقليدي، بل ككيان فلسفي يعيد صياغة حدود اللغة والهوية والزمن. لقد استطاع موسى الشيخاني عرار أن يُفعّل أدوات الشعر من داخلها، ليخلق انزياحًا جذريًا في المعنى، يجعل من كل صورة شعرية لحظة فكر وتأمل.
حضور الأنثى هنا لا يُقرأ من موقع التوصيف، بل من موقع التفكيك: تفكيك للثنائيات الكلاسيكية بين الغياب والحضور، بين القول والصمت، بين الذات والغير، وبين الجسد والدلالة. إنها قصيدة تكتب الحب بوصفه تجربة وجودية، والصمت كفعل لغوي، والمجاز كأفق تأويلي لا نهائي.
وبهذا، تتحوّل القصيدة من مجرد نصّ جمالي إلى نصّ أنطولوجي، يُعيد مساءلة الوجود من خلال اللغة، ويضع المتلقي أمام فضاء تأويلي مفتوح، لا يكتفي بالتذوّق، بل يستدعي التفكير وإعادة التفكير. في هذا المعنى، لا تكون الأنثى في القصيدة كائنًا مرئيًا، بل أثرًا فلسفيًا يمشي على حافة الشعر، ويدعو القارئ إلى الإنصات للمعنى وهو يتشكّل في الغياب، وينبعث من رحم الصمت والمجاز. الكاتب: هيئة التحرير بتاريخ: الثلاثاء 08-07-2025 08:55 مساء الزوار: 41 التعليقات: 0
|
|