|
|
||
|
قراءة نقدية فلسفية لقصيدة "مفارقات" للشاعرة حسناء حفظوني ..اعداد : د. موسى الشيخاني
قراءة نقدية فلسفية لقصيدة "مفارقات" للشاعرة حسناء حفظوني ..اعداد : د. موسى الشيخاني في ضوء تجربة الشاعرة التونسية: حسناء حفظوني (حسناء قرطاج)
أولاً: تمهيد في ضوء السيرة 1- تأتي قصيدة "مفارقات" للشاعرة حسناء حفظوني من تونس – وهي أستاذة ومثقفة وناشطة مدنية – في سياق ما يمكن أن نطلق عليه الشعر الفلسفي المقاوم، الذي يتقاطع فيه الأدب مع الموقف، والكلمة مع الفعل، والوعي مع ضمير الجماعة. فالشاعرة التي تتجذر في انتمائها العربي الإنساني، وتنخرط في العمل الثقافي والاجتماعي من موقع عضوي لا نخبوي، تقدم نصوصها بوصفها مرآةً للإنسان، وصرخة في وجه اللاعدالة الكونية، بدءاً من وجع الأطفال في "دير البلح" و"خانيونس"، وانتهاءً بالمآسي الأخلاقية والسياسية التي تفتك بالجسد العربي في حقيقته ورمزيته.
2- تحليل السيرة الذاتية للشاعرة: تعد الشاعرة والأستاذة حسناء حفظوني، المعروفة أدبياً بلقب "حسناء قرطاج"، نموذجاً للمثقف العضوي في المجتمع التونسي والعربي. فهي تجمع بين التكوين الأكاديمي العميق، كونها أستاذة لغة وآداب عربية من دار المعلمين العليا بسوسة، وبين التفاعل الحيّ مع قضايا الواقع العربي، خاصة القضية الفلسطينية التي تعتبرها في صميم التزامها الإنساني والأدبي. حسناء ليست فقط صوتاً شعرياً بل هي أيضاً فاعلة في مؤسسات ثقافية عربية متعددة؛ تشغل مواقع قيادية في جمعيات وإعلام ثقافي وتنشط أسبوعياً في الحراك الثقافي التونسي، وهذا ينعكس بوضوح في نصوصها التي تمزج بين الجمالية الشعرية والالتزام الفكري. إن عضويتها في مؤسسة عرار العربية عضوا في مجلس الامناء ، ومشاركتها في تحرير مركز لحماية التراث الشعبي والحوار الثقافي التابع لمؤسسة عرار ايضا، يؤكدان حضورها المؤثر في المشهد النقدي العربي. وهو ما يجعل من قصيدتها "مفارقات"، ليست مجرد نص أدبي، بل خلاصة تجربة فكرية ناضجة وشهادة على رؤية فلسفية للمقاومة والحرية.
ثانياً: البنية الفلسفية للقصيدة 1. الذات الجمعيّة في مفترق التناقضات: القصيدة تسير على حافة التناقض بين "نحن" و"هم"، ليس بصيغة الانقسام الطبقي أو الديني، بل عبر تجسيد مأساة اللامبالاة، حين ترقص الذات الشمسَ في صباحاتها الوثيرة، بينما الآخر – وهو "يوسف" العصر – يُلقى في البئر مرة أخرى، لا من قِبل عدوٍ خارجي، بل على أيدي "إخوة" ينهشون اللحم ويتوسدون الحقد. هذا التصوير يعيدنا إلى الرمز القرآني في أقوى تجلياته: يوسف رمز البراءة والمعاناة، وإخوته رموز الخيانة العائلية المغلفة بالغيرة والمصالح، ما يشير إلى أن السقوط القيميّ ليس طارئاً بل متكرر، ومتجدد. 2. استعارات الألم: الفراش الوثير مقابل البئر والدمار: الشاعرة تتقن توظيف المفارقة الأخلاقية والفلسفية، إذ تنقل المتلقي من مشاهد الراحة المخملية إلى صور العذاب والنار. هنا، لا تقدم الشاعرة مأساة سياسية فحسب، بل تؤسس لتأمل فلسفي في عدالة الكون، وسؤالها الضمني: كيف يظل العالم نائماً بينما يحترق الأبرياء؟ إنها تساءل مفهوم الإنسان، كما جاء في فلسفة سارتر: "الإنسان مشروع"، لكنها تبيّن أن كثيراً من الناس مشاريع فشل أخلاقي في هذا العصر. 3. موت الضمير أم كذب الموت؟ واحدة من أعظم لحظات القصيدة تأتي في الختام، عندما تكتب: ثمّة طفل فلسطينيّ مقاوم يكذّب موتنا وثمّة وجه اللّه...
هنا، تفتح الشاعرة باب الميتافيزيقا الشعرية: فبينما تبدو الأمة ميتة، تأتي المقاومة ككذبة على اليأس، كضدّ للموت، كمشروع انبعاث. الطفل الفلسطينيّ يصبح المخلص الجديد، نبي اللحظة، والمرآة التي تعكس نقيض ما نعتقده.
ثالثاً: البنية الإيقاعية واللغوية القصيدة مكتوبة نثراً مكثفاً، غير أن تكرار "ثمّة" يصنع إيقاعاً خفياً يُشبه ترتيلة شعرية حزينة، بل طقساً جنائزياً فلسفياً، تتوالى فيه صور الشظايا، والأشلاء، والدم، والخيانة، وكأن القصيدة تسير على درب آلام إنسان عربي فقد يقينه، لكنه لا يزال يتلمّس وجه الله في الركام. اللغة واضحة، دقيقة، غير مرمّزة، لكنها ذات شحنة رمزية عميقة، تتغذى من التاريخ والدين والسياسة، دون أن تقع في خطابية مباشرة أو إنشائية.
رابعاً: بين الشعر والموقف – الشعر بوصفه مقاومة القصيدة هي موقفٌ لا يتوارى خلف جمالية اللغة، بل يُفجّر الجمال من قلب المأساة. إنها تستعيد الشعر كفعل حرية، وكفضاء لتعرية الذات الجمعية من زيفها، وتشريح جراحها. في هذا السياق، تنتمي الشاعرة إلى مدرسة الشعراء المقاومين الوجوديين – أولئك الذين يكتبون من بؤر الألم لا من مكاتب التحليل البارد.
خامساً: خاتمة وتقدير إن قصيدة "مفارقات" للشاعرة حسناء حفظوني ليست فقط نصاً أدبياً عالي المستوى، بل هي وثيقة فكرية وشهادية تعبّر عن روح عربية مأزومة وواعية في آن. تطرح القصيدة أسئلتها الفلسفية الكبرى: - هل يموت الإنسان فعلاً أم يتواطأ مع موته؟ - هل نحيا الحياة أم نؤجل الموت فقط؟ - هل المقاومة مشروع فرد أم روح جماعة؟
وفي كل مرة، تأتي الإجابة من هناك: ثمّة طفل فلسطينيّ مقاوم يكذّب موتنا...
هو وحده الحقيقة، وهو من يحفظ لنا ما تبقى من معنى.
بقلم: الدكتور موسى الشيخاني الرئيس التنفيذي للمؤسسة عرار العربية للإعلام رئيس مجلس إدارة مركز عرار للدراسات والنقد المقارن 2025-07-07
قصيدة الشاعرة:
بقلم الشاعرة الأستاذة حسناء حفظوني /تونس
مفارقات ونخن نراقص الشّمس كلّ صباح ثمّة يوسف يكابد وحده ظلمات بئرنا ثمّة لحم إخوتنا نهشا للكلاب ونحن نتدثّر الدّفء في الفراش الوثير ثمّة أطفالنا طعاما للصّقيع ونحن نغطّ في نومنا العميق العميق ثمّة رعب يصمّ آذانهم ثمّة أشلاؤهم تطّاير مع شظايا النّيران ونحن نعاقر خمرة أحلامنا الورديّة في دير البلح في النّصيرات في رفح في خان يونس في بيت حانون .... ثمة تنّور سعير ولا رغيف ثمّة فلذّات أكباد يحرقون أحياء ثمّة أرواحهم تصّاعد إلى علّيين ثمّة أمهاتنا يتحرعن كوابيس العويل ونحن نتبادل أنخاب الحرّية الحمراء بساحات دمشق ثمّة أولاد حرام باعوا أمّهم في سوق الدّين ثمّة حفلة ماسونيّة كبرى في الجوار تقسّم فيها طرطة الوطن الكبير بالقسطاس على أفواه الغاصبين ونحن نضاجع هزائمنا كلّ ليلة ونحن نحيا لنموت ثمّة طفل فلسطينيّ مقاوم يكذّب موتنا وثمّة وجه اللّه ... الكاتب: هيئة التحرير بتاريخ: الثلاثاء 08-07-2025 05:45 مساء الزوار: 120 التعليقات: 0
|
|