|
|
||
|
العاطفة الشعرية بين سحر التراث وهموم الحاضر في ديوان «عشيات وادي الطواحين»
الدكتورة فاطمة أحمد الزغول يسعى الشاعر في أبياته الشعرية إلى تجسيد نبض شعوره، وخلجات إحساسه بواقعه المكاني والزماني إلى كلمات تحمل لحنًا موسيقيًا، تحكي أنغامه ترجمة لهذا الشعور، فتثير هذه الأنغام والكلمات حفيظة المتلقي، ليشارك الشاعر هذا الشعور والانتماء الحسي. والشاعر رسمي مسعود الزغول في ديوانه: (عشيات وادي الطواحين) الصادر عن دار الكتاب الثقافي في إربد، عام 2019م، ينسج من جمال الطبيعة العجلونية أنغامه المسكونة بصدق العاطفة والانتماء إلى هذه المدينة الأردنية التي تحمل سحر التراث التاريخي المتأصل للمنطقة، وجمال جبالها المكسوة بالخضرة، وينابيعها التي رسمت ملامح هذا الجمال التاريخي الممتد عبر الحضارات، رغم سنوات الجفاف التي تعصف بالحاضر، لتسلب منه شيئًا من قداسة هذه الطبيعة التي بقيت متمسكة بعذريتها عبر العصور، تقاوم جور العابثين بغاباتها وكرومها ونقاء نسماتها العليلة. يحاكي الشاعر رسمي الزغول في عنوان ديوانه (عشيات وادي الطواحين)، عنوان ديوان شاعر الأردن (عرار) مصطفى وهبي التل (عشيات وادي اليابس) محاولًا أن يحذو حذوه في التغني بعراقة الأماكن التاريخية والطبيعية في الوطن العريق، وذكر أحوال الناس ومشكلاتهم. ووادي الطواحين، من الوديان القديمة التي احتضنتها جبال عجلون، ويمتد منها إلى مدينة كفرنجة إحدى مدن المحافظة الغنية بطبيعتها الخلابة، وتعود تسميته بواد الطواحين، إلى تلك الطواحين القديمة الواقعة على ضفافه، وهي من المعالم التاريخية التي كانت تستعمل قديمًا لطحن الحبوب، ولا تزال معالمها بادية للعيان. كما يتضح تأثر الشاعر الزغول بشاعر الأردن عرار بصورة مباشرة في قصيدة (عشيات وادي الطواحين)، إحدى قصائد الديوان التي تحمل عنوانه الرئيسي، إذ يخاطب الشاعر الزغول، الشاعر عرار قائلًا: «هذا زمان الذعر قد أشقاني/ باسم الحضارة يا عرار رماني/ وعن الطوابع والرسوم فلا تسل/ فالكل ينهش والفقير يعاني/ ومصائب تترا على أرزاقنا/ تكوي البلاد تجارة الحيتان». فالشاعر الزغول في هذه الأبيات يشكو لعرار سوء الأحوال الاقتصادية التي حلت بالكثير من الناس، مع نشوء الحضارة الحديثة ومعقباتها، جراء تغوّل من أسماهم بالحيتان في التجارة، ما شكّل طبقة من الفقراء المعدمين، تقابلها طبقة من ذوي الثراء الفاحش. بدأ الشاعر الزغول ديوانه المكون من مجموعة من القصائد العمودية ذات العنوانات والقوافي المختلفة، بقصيدة بعنوان (عجلون العزم)، يتغنى فيها بجمال وأمجاد محافظة عجلون التي ينتمي إليها الشاعر، ويعرف ماضيها وحاضرها، وجبالها وتلالها، وكرومها وزيتونها، وينابيعها الصافية، ووديانها وشلالاتها، ومآثر رجالاتها الأوفياء للوطن والعروبة، يقول الشاعر الزغول: «عجلون يا نغمًا والمجد غناك/ يا همة وثبت من نبعك الزاكي/ كالصبح باسمة بالفخر سامقة/ عزم تجلى بإخلاص وإدراك/ أرض المحبة بالإيمان عابقة/ هي الأبية لا عيش لأفاك/ تصحو العزائم للتغيير فارتشفت/ جباهنا الشم نورًا من محياك/ يا ومضة العزّ شعّت في مضاربها/ فجرًا يحطم أركانًا لإحلاك/ صبي على الحقل فيضًا من مآثرنا/ وكلليه جمالًا من مزاياك». ففي هذه الأبيات من القصيدة المكونة من ثلاثة عشر بيتًا، يصف الشاعر عجلون بأجمل الأوصاف التي تجسد جمالها ومآثرها، فهي النغم المغنى بألحان المجد، وهي الهمة التي نمت وخرجت من نبعها الزاكي لتنمّي حقولها بمحبة وإيمان، وتغذّي أبناءها قوة وعزيمة وانتماء، فلا عيش فيها لأفاك، فهي أرض النور والطهر والجبال السامقة، والقلعة الأبية التي تعلو قمتها، وهي أرض الأصالة والتاريخ المرتبط بأمجاد الماضي، وجمال الحاضر. وفي القصيدة تبرز عاطفة الانتماء والحب للوطن، إذ يستنهض الشاعر الهمم العجلونية، لإحياء أمجاد الماضي الذي تحمله معالم عجلون الأثرية المتمثلة بقلعتها الأبية المرتبطة بانتصارات صلاح الدين الأيوبي، وأمجاد العرب القدماء. وفي الديوان قصيدة أخرى يصور فيها الشاعر الزغول جمال مدينة عجلون، متغنيًا بهذا الجمال الذي يبهر الأنظار، يقول: «عجلون حصن بالشموخ مطوق/ ولها بميدان الشهامة رونق/ ينساب من قمم الجبال عطاؤها/ فرحا بثغر زهورها يتألق/ بين المروج الخضر غنى البلبل/ بجمالها فوق السحاب يحلق/ وتغزل الحسون فيها هائما/ يسمو إلى شم الذرى يتشوق/ دفق العطاء وللكرامة رافد/ يزهو بها إصرارها المتدفق/ وتزينت بالكبرياء هضابها/ بسواعد فيها المناجل تبرق/ بالقلعة الشماء تاريخ زها/ بجلالها صفحات مجد تورق». فعجلون من أكثر المدن الأردنية محافظة على طبيعتها المتأصلة، فهي لا تزال تزدهي بغاباتها الحرجية الخضراء، التي تزداد جمالًا في فصل الربيع، عندما يزهر الدحنون والنرجس في هذه الغابات، وتتعدد ألوان الزهور البريّة في حقولها، فتنتشي طيور البلبل والحسون في هذا الجمال، وتغرد أجمل الألحان، في ربوع ازدهت بالكرامة والكبرياء الذي اكتسبته من سواعد رجالاتها وحماة مجدها. أما قصيدة( نبض الحنان)، فيصف الشاعر فيها مشاعر الأمومة التي تمثّل أمّه وكل الأمهات الأردنيات، وتضحياتهن المرتبطة بتنشئة الأجيال وتربيتها على حب الأوطان والدفاع عنها، إذ يشير إلى أم الشهيد ممجدًا صبرها وتضحياتها بأعز ما لديها، خدمة لوطنها، وفداء لترابه الطاهر، يقول الشاعر: «تحلو السعادة يا أمي بمرآك/ نبض الحنان تجلى في مزاياكِ/ يا زهرة الروض طهر في تفتحها/ أنت الحياة وأنت الحب طوباكِ/ إشراقة الصبح في أحلى نسائمه/ يا بهجة العيد نور في محياكِ/ شمس تطل بسحر الطَّل باسمة/ فيزهر الصخر فيضًا من عطاياكِ». ومن أبيات القصيدة أيضًا، يقول: «يا كل أم تروض الوعر في شمم/ دفاقة الخير عند الله بشراكِ/ أم الشهيد سلام الله ما برقت/ مشاعل الصبر وازدانت برياكِ/ أماه يا نغمًا لحن الوفاء به/ يا خير أنشودة والمجد غناكُ». فالأم تتمثل في تراب الوطن الطهور، والانتماء إليه، وهي صانعة الأمجاد التي تربي الأجيال لخدمة الوطن، والذود عن حماه، فيعلي الشاعر شأنها، كما يعلي شأن الوطن، ويتغنى بمآثرها، كما يتغنى بمآثر الوطن. وفي قصيدة بعنوان (صانع الأجيال)، يمجد الشاعر الزغول المعلم، ويعلي شأنه، كيف لا وهو من يصنع مستقبل الوطن، ويبني أجياله المنتمين لترابه، الصانعين لأمجاده، الرافعين بنيانه، يقول الزغول: «قم للمعلم تمجيدًا وتنزيها/ بدر يحقق للدنيا أمانيها/ العلم نور وإشراق ومعرفة/ تقدّم يصنع الأمجاد يبنيها/ يا وارث الرسل الباني لأمته/ صرح الحضارة في أبهى معانيها». تعددت الموضوعات التي تضمنتها قصائد الديوان، فكما جسد الشاعر جمال الطبيعة العجلونية، وتغنى بأمجاد الوطن وصنّاعه من أمهات وآباء، ومعلمين وأبناء، فإن هموم أزمات الحاضر التي تعاني منها البلاد العربية في واقعنا الحاضر، لم تغب عن فكر الشاعر رسمي الزغول، حاله كحال كل أبناء الأردن الشرفاء الذين حملوا هموم عروبتهم، وانتصروا لجيرانهم في الدم والعروبة، ومن القصائد التي جسدت هذه المعاني (نخب الدماء، حمم وبراكين، خارطة الطريق، على أنغام لحن الموت، عصف الملاعب، شرق جديد، الرقص على حبل الدماء،... وغيرها). يقول الشاعر الزغول في قصيدة عنوانها (ربيع الأحلام): «شعب يُباد وأمة تترقب/ رجحان كفة من يفوق ويغلب/ ودمٌ يراق ولا يثير حمية/ عند الكثير وذو الشجاعة يشجب/ وتهتّك الأعراض وسط بلادة/ فيها الزوابع والسكون الأغلب». فالشاعر يقلقه هذا الترقب والوجوم من بلادنا العربية، والعالم الذي لا يحرك ساكنًا لحقن الدماء التي تهدر كل يوم في فلسطين وسوريا، وكل البلاد التي تعاني ويلات الحرب والدمار التي يروح ضحيتها الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ. بنى الشاعر قصائد ديوانه على الأوزان الخفيفة، فهيمنت على قصائد الديوان الألفاظ المأنوسة المستوحاة من التراث، والأنغام المغناة البسيطة، فجاءت الألحان سلسلة، واللغة سهلة خالية من الغرابة والإعجام، فالشاعر استعاد موسيقى الشعر القديمة القائمة على البحور الخليلية والأوزان والقوافي، وطوعها لروح العصر الحديث بخفة موسيقاه، وسهولة ألفاظه، متمثلًا صدق العاطفة التي تفيض بها قصائد الديوان حبًا لتراب عجلون، وإحساسًا بجمالها، وانتماء للوطن والعروبة. جريدة الدستور الاردنية
الكاتب: سكرتاريا التحرير والنشر بتاريخ: السبت 28-06-2025 01:54 صباحا الزوار: 38 التعليقات: 0
|
|