سلطة العنوان في تحديد بلاغة النص. في ديوان ( كن). للشاعرة الرسامة كوثر تيتش. ،قراءة ريم العيساوي
في البدء لابد أن نشير إلى أن النقد الحديثَ قد أوْلى، منذ نشأة الشكلانية والبنيوية خاصّة، اهتماماً واضحاً لدراسة العنوان و كيفية اشتغاله، والبحث عمّا يُثيره من إشكالات ، وذلك من حيث هو نصّ صغير يعدّ مَدخلاً هاماً إلى نص كبير كثيراً ما يشبّهونه بجسدٍ رأسُه العنوان .
وفي القديم قال ابنُ سِيدَه الأندلسي (ت458هـ) في «مُخصَّصـه» : « العِنوان سِمة الكتاب»؛ أي علامته، والمدخلُ إلى رحابه، والعنصر البارز فيه. وبعد النصّ يبقى العنوان». إذاً، فهو المفتتَح والمنتَهَى ، المنطَلَق والمَآب. ولعلّ هذا ما يدفع المؤلِّفين إلى التّرَوّي في اختيار عناوين نصوصهم، والاعتناء بها مَوْقعياً وتركيبياً وجمالياً ودلالياً وتجارياً .
و إنّ تشكيل العنوان في أيّ نصّ من النصوص لا يكون اعتباطيا، ولكنّه يرتبط بمتن النص أيَّما ارتباطٍ، بل إنّه جزءٌ لا يتجزَّأ من المتن.
و تتأكّد أهميّة العنوان، باعتباره أداة إجرائية ناجحة ومفتاحا مرنا في مقاربة النص الأدبي في بعديه الدلالي والرمزي ،يمكّن القارئ من استنطاق النص وبالتالي، يستطيع تأويله .
إنّ أوّل عتبة تدعوها لقراءة القصائد هي استنطاق العنوان الذي يسم النص، ويعينه، ويصفه، ويثبته، ويؤكّده، ويعلن مشروعيته القرائية، وهو الّذي يحقّق للنصّ كذلك اتّساقة وانسجامه وتشاكله، ويزيل عنه كلّ غموض وإبهام .
وإنّ القراءة الفاحصة للعنوان والنفاذ لدلالته بوصفه بنية مختزلة، واستقراء وظائفه مدخل ممهد للنفاذ للنص.
( كن ) عنوان يتصدّر أوّل ديوان للشاعرة كوثر تيتش، جاءمعبرا عن صيغة الأمر دالا على الطلب أو الاتصاف بصفة في الزمن الحاضر أو المستقبل. والعنوان يحيلنا على جملة من المرجعيات في الثقافة العربية ومنها الأقوال المأثورة( كن في عيون الناس قمراً).أو (كن مشرقاً كالجوزاءَ في علياءهِ نجماً تُنِيرُ لنا الثرى في ليلِ السوادِ) ومن النّاحية النحوية، فهو فعل ناقص ، خبره القصيدة .
جاء العنوان علامة لسانية ونصا مصغّرا يتوِّج نصا كبيراً، قائمٌ على حرفين :
( ك - ن )يُفهم من تركيبهما أن النص المصغر بنبني على سمة الإيجاز والحدّ الأقصى في الاقتصاد . وعلى مبدأ التكثيف والاختزال التي هي من نوع البلاغة في القول بما يجعله يختزل الكثير من الأفكار في القليل من الكلام. وتميّز العنوان باقتصاده اللّغوي الشديد،ويتجلّى هذا في عناوين القصائد التي اعتمدت فيها الشّاعرة على بلاغة المفردة الواحدة ، و هنا تبرز العلاقة بين عنوان الديوان وعناوين القصائد، وهي الاتفاق في سمة الإيجاز والتكثيف ولعلّّ هذا يدلّ على وعي الكاتبة في اختيارها وقصديتها .
إلى أيّ حدّ مثّل العنوان عتبة نصية موازية حاضنة للنص الرئيس ؟و كيف ساهم في توضيح دلالاته و النفاذ إلى عمق معانيه ؟
كن فعل أمر المخاطب فيه غير محدّد ، تدعو الشاعرة في قصيدة العنوان إلى كينونة في فضاء مشرق ، دعوة للتسامي ولمعانقة النور ، وليس هذا سوى رغبة في الانعتاق من واقع متلبس بالضبابية والظلام ، وهي رغبة لمعانقة عالم من الصفاء والنور ، إنّه التوثّب لتحقيق الحرية .
ويتّضح حلم الشاعرة بهذا العالم الصافي في نشدانها لفضاء بلا قيود ( لا أريد أفقا كلما دنوت منه يبتعد ) ، إنّه التوق إلى امتداد الأفق والتحليق فيه بلا قيود وملامسة وجوده المطلق . وهنا يبرز إيمانها بقضية الحرية .
و تلحّ الشاعرة على حلمها برسمه عالما فسيحا يحضن تطلعاتها ويحقق آمالها ، ويتجلّى ذلك في دعوتها لخلق حياة خصبة، غير عقيمة ( كن أرضا حبلى )، هكذا تتشكّل رؤية الشّاعرة للكون والوجود ألا وهو عالم النّماء والخصب لا عالم الجفاف والعقم .
وفي مجال الفنّ تخاطب الشّاعرة بالقول :( كن خيالا حالما أرسمه على شاكلتي ) جملة شعرية غنيّة بالإيحاءات ، تبلور نظرتها للخلق الفنّي الذي لا قيود فيه للخيال، ولا تقيّد فيه يالواقع المسطّح ، بل هو معانقة عالم الأحلام اللاّمحدود ، ونستشفّ تبرّمها من حاضرها في قولها :( لا أريد أن أعيشك حاضرا ينصرف ) مؤكّدة طموحها وتطلعها للمستقبل ، وحلمها بمبدأ الديمومة والخلود ، وهنا تتجلّى إرادتها في البحث عن الخلود والتخلص من سطوة الزمن ، وتواصل الشاعرة في مجال الفن بالقول :( كن رمزا يشدّني ) وبهذا تحدّد أهمية الإيحاء في الفنّ ، وترتقي بمستوى الإبداع مبرزة قيمة الإيحاء فيه وهو الرمز ذلك الخيال الموغل في التحليق في عوالم من الرؤى .وتتأكد قيمة الكلمة بخلودها بقولها ( لا أريد كلمة تقرأ ثم يحطّ عليها ظل الصفحة التالية فتنطفئ ) .
إنّ الشاعرة في محاولة انطلاق جادة ،تحاول أن تتحرّر لترى المستقبل المشرق ، متعطّشة إلى تجاوز حصار الواقع وحصار الزمن لترقى إلى آفاق أكثر رحابة وأعظم اتساعا في عطائها وتحرّرها ، ذلك الفضاء الذي تخلص فيه الأشياء من قيودها وتتفتّح فيه النفس لتحقّق انعتاقها. إنّ عنوان الديوان يحيل على بعدين زمنيين:زمن الحاضر وزمن المستقبل ويتحرّك بين الراهن و المنشود ويجسّد حالة الانتشاء بإضاءات الحلم . هل نهض العنوان بوظيفته الدلالية و عبّر عن مضامين الديوان، أو الفكرة المحورية التي تهيمن عليه؟
تناولت الشاعرة كوثر تيتش في ديوانها ( كن ) عدة أغراض شعرية ومنها الوجدانية في غرض الحب رسمت صورة للحبيب شفافة عفيفة ، فالحبيب هو جوهر الوجود ( وإن تباعدت الاتجاهات /فأنت جوهر كلّ نقطة على خطي )وصورت حالات المحبين بسبب البعد معمّقة الإحساس بالفقد وصورت اليتم العاطفي في صور عديدة ومنها :( أنا يتيم بلاك/أنا طريح فداك ) وعمقت اثر الفقد معتمدة عنصر الزمن وسطوته على الإنسان في حالة انتظار المحبوب .( دقائقه شهر/وساعته دهر / يتلظى على الجمر ) ووصفت حالة الوحدة نافذة لعمق الإحساس بها ( مهجور مقعد حديقتي /إذا تخلفت عن موعدي/ غير ثابت طريقي ) " قصيدة صبا " فالحبيب جوهر وجود المحبّ ولا تستقيم الحياة بفقدانه ، وتسمو الشاعرة بعاطفة الحبّ إلى حدّ الذوبان الروحي والتدثّر بالنور الإلهي والخلاص من مادية الجسد:( روحان /يحلقان /يلتقيان /يتصلان/كوكبان ../ بينهما شعاع ونوران)ق" روحان ".
ففي قصيدتها " ضمّ" ترسم أرقى درجات عاطفة العشق حتى بلوغ درجة الذوبان الصوفي .
ومن القصائد التي تتحاور فيها الشاعرة مع الفنّ عامة أو وبالتدقيق مع الحروفية بالخصوص ، تفاعلها مع لوحات الفنان التونسي العالمي نجا المهداوي وهي تجربة جديرة بالتأمل والدرس لما تعكسه من أبعاد متنوعة ولما تمثّله من إضافة في أشكال التماهي بين الفنون التعبيرية .وفي هذا المعنى تأتي قصائدها محاورة منتجة ، تعكس كيفية تنافذها مع عالم الفنان والغوص في أجوائه الفكرية والدلالية ،ففي لوحة "مقام الكرامة" وهي لوحة واكبت الثورة التونسية و أنهاها الفنان نجا يوم 14 جانفي ، تحاوره بقصيدتها " مقام " مجسّدة رسالة الفنان التي لا تقلّ عن رسالة الجنديّ ،فالفنان بفنّه شهيد : (سلاحك الفرشاة /فكن واثقا وإن جـرّدت من كلّ سلاح /حروفك أقواس /الهمزات نبال /الكلمة كرة من نار /الحبر الأسود لهيب /والألوان في وجه الظلام عاتيات / ارسم /فأنت في قلب الثائرين /عش بالفن /فأنت بالفن كريم / وللفن أمين / وللفن شهيد ). إنّها صورة الفنان الملتزم بقضايا وطنه والمتمرّد على الظلم والرافض للظلام والشّاهد على الأحداث بوعيه الحادّ وبفكره النيّر .وفي نفس السّياق تحاور الشاعرة بقصيدتها " صمت " عمله الفنيّ "صمت الطبول" نافذة إلى جوهر العمل الفنيّ وإيحاءاته البعيدة بصورة بليغة منتهجة أسلوب الإيجاز :( إذا حلّ الصمت /فلا تحسبنّ الحوار يتقطّع /إذ يهمس الإحساس /فلا صوت يرتفع /ولكنّ للصمت عيونا /بصائرها تجعل الروح ترتجف )وفي هذا الإطار تأتي قصيدتها " مرجانة " تفاعلا شعريا لعمله الفني " مرجانة "متعمّقة في إبراز بلوغ الخط العربيّ ذروة التعبير القصوى في عمل الفنّان ، ذروة يتسلطن فيها الحرف ويحقّق آفاقا فسيحة من الإمتاع والجمال ، إنه إدهاش الفنّ في نفس الشاعرة ترسمه لوحة فنية قوامها الصورة الشعرية القائمة على الحركة والألوان والظلال : (الصحراء تكشف عن أسرارها و تـسـتـقـبـل/وألوان الأرض خصبة تدفئ / والنقوش الذهبية وميض يسطع /وفيروز البحار لـجّ يترقرق/ومرجـانة فارعة/بمملكة الحرف العربـيّ/سـلطانة تتصدّر ) . وفي السموّ برسالة الفنّ ، تحاور الشاعرة في قصيدتها " وصل " عمل الفنان نجا المهداوي " غبار" المتمثّل في ثلاث مخطوطان محترقة و موضوعة داخل ثلاث زجاجات ،ولما يحمله هذا العمل الفنيّ من دلالات ، عبّرت الشاعرة عن حقيقة الفنّ الخالد ألا وهي كسر الحدود والقيود وتجسيد البقاء في أجمل مظاهره ، جاء في خاتمة قصيدها :( يـنـكـسر الزجاج العازل /والوصل بين الكلمات لا يـؤســر/لأن الــوصل نــور /يـــقــهــر ولا يــقــهــر) .. القصيدة في مجموعة " كن " انفعال ناتج عن إحساس بجمال العمل الفنيّ وتشكلّه عبر العبارة الشعرية التلقائية المعبّر عن رهافة الحس بالفنّ وتقدير مراميه . هذا و إنّ الشاعرة لا تقيّدها تجربة الفنان نجا المهداوي في نظرتها للفنّ بصورة شمولية ، فهي تمنح عالم الخط العربيّ مساحة من شعرها ،مستلهمة من التراث العربي عناصر تغذي مرجعيتها ومنها التعرّض لأقدم الخطوط العربية تلك التي اعتمدت في الأوامر والأختام السلطانية ومنها قصيدتها " طغراء " التي جاء فيها : (بماء الذهب / بالزعفران /بحبّات المطر /بالعطر /بالعنبر /بالعطرشاء /بالريق المخضّب /بالحنّاء /بقـطر الدم /بشراب الحياة / نوقّع الوعد )واختيارها لأحد عناوين قصائدها " جزم " أقدم الخطوط العربية ، إنّما هو محاولة لإحياء المنابع التراثية وتوظيفها فنيّا ، وبرشاقة تعبيرية ترسم حالة الفناّن خلال ممارسته لفنّه ، نافذة إلى تلك الطاقة التي تحفّزه للعطاء والإبداع راصدة تلك القوّة الخلاّقة للجمال وللحياة، راسمه عالمه رسما شفّافا مفعما بالصّفاء والحياة ،تقول في قصيدتها "رقص ": (تعشق الفرشاة /تلامسها /تلبسها الألوان /و الذهب /والفضة /وتهمس لها /تكلّمها /تبوح لها /تراقصها /تجرّدها /و تنزلها الماء /وتسبح معها /تتحسّس شعرها المبلّل على خدّك /تخلو بها /فـتـحمـّلـها الرموز /وتنفخ من روحك في عمق المعاني/ليولد الفنّ ).
وتحضر الأجواء الصوفية في عدة قصائد ، تصوغها في أجواء من الوجل و الخشوع ، مما يضفي على شعرها مسحة روحية بارزة ومنها " قيام " : انا الهائم /القائم /من غير مقام /شاق /وشائقي بـي عليم) . ووكثيرا ما يرد خطاب الشاعرة في أسلوب الابتهال : (لمــلـمنـي / فـــأنا المـتـصـّدع /واجمعني /فـأنا المــوز ع / أسكني /فأنا المــــروع /هدئني / فأنا الهــلع / أجــبني / فأنا المـتضرع / واقبلني / فأنا المتطـــوع ) ويقوى البعد الوجودي في شعر كوثر تيتش فيأتي الخطاب الشعري جملة من التأملات في المنزلة الإنسانية وفي القضاء والقدر وفي قضايا البقاء والفناء .
ولا تغيب القضايا الفنية الخاصة بالقول الفنّي والكتابة الإبداعية ، هذا وقد صدّرت الشاعرة ديوانها بفصيدة " قاف " وهي قصيدة طويلة بالمقابل لقصائدها الأخرى التي جاءت قريبة إلى الومضات أو التوقيعات ، وهي قصيدة بمثابة "البيان أو "الميثاق " رصدت فيها وجوه القول محاولة الإحاطة ببعض دلالاته ومعانيه و استنفاد جلّ قيمه تجانسا وتقابلا ، وتتدّرج في البحث عن جوهر القول لبلوغ جوهر معناه ،مستخلصة : ( (القول / بيان و التــزام /و ليس مجرد كلام ) .
وفي قصيدتها " علامة " حاولت النفاذ لجوهر العلامة اللسانية مبرزة عمق مقاصدها وثراء رمزيتها وعن طريق بلاغة المفردة حاولت الشاعرة الغوص في عالم الدلالة وأسرارها .
هل قام عنوان الديوان بوظيفة الإعلان عن مضمون التجربة الشعرية أو محاورها الأساسية ؟ كيف بدت علاقة العنوان بالنص ؟هل هي علاقة مباشرة ؟ هل هي علاقة تضمين ؟أم علاقة إيحائية ؟ على القارئ أن يدرك مفاصلها وتجلياتها عند اطلاعه على الديوان .

هل حمل العنوان دلالة جزئية نظرا لكونه عنوانا داخليا جرى انتخابه بقصد ، هل شكّل العنوان بنية جمالية نهضت بوظيفة الإغراء والإيحاء والتعيين التي تجعل اختيارها عنوانا رئيسا يسم العمل ويمنحه هويته هدفا وغاية؟ هل تمتّع هذا العنوان بكليّة تمثيله لداخل العمل من خلال اختراقه لمجمل نصوصه وتشكيل نواة بنية دلالية أولية يمكنها أن تكون بمثابة مفتاح للدخول إلى ثنايا نصوص هذا العمل، هل اتسم العنوان في هذا المستوى بدلالة شمولية ؟
جملة من الأسئلة تتحقق بقراءة الديوان وملامسة القصائد عن قرب .
.

…