|
|
||
|
من مظاهر الانحراف الأسلوبي في إبداع "العامرية سعد الله" دراسة أدبية بقلم احميده الصولي
من مظاهر الانحراف الأسلوبي في إبداع "العامرية سعد الله" ************ مدخل الانحراف الأسلوبي أو الانزياح، تقنية اتبعها المبدعون ليوسعوا دائرة التعبير والإيحاء فيما لا تستطيع الكلمات تحقيقه عبر نظامها المعياري ؛ إذ التوسع في الكلام مطلوب كما يرى ابن الأثير الذي يستشهد بقوله تعالى : ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (فصلت/11) ونسبة الكلام إلى السماء والأرض كانت قبل خلق الإنسان وإذا كان "الانحراف الأسلوبي ظاهرة أسلوبية ونقدية وجمالية يُعنى بها النقد الحديث، وهي موجودة في نقدنا العربي القديم، من خلال الاستعارة والمجاز بمسميات كثيرة، منها : الاتساع أو التوسع والعدول، وقد ربطها نقادنا وبلاغيونا القدماء بالاستعارة والمجاز" فإننا نستخدم هذا المصطلح "كونه المصطلح الأجَدَّ لهذه الظاهرة الأسلوبية التي لم تغب عن نقدنا العربي" قديمه وحديثه ؛ في قراءة لنصوص المبدعة التونسية *العامرية سعد الله* من خلال كتابها الابداعي: "امرأة في وادي الفراشات" حيث تعتبر الظاهرةَ الأكثر حضورا وبروزا في نصوصها.
تعريفه تعترضنا عشرات التعاريف لـ"ظاهرة الانحراف الأسلوبي" أغلبها تكاد تتفق على أهم العناصر المكونة له. منها نعرض عشوائيا ما يلي : "تعد ظاهرة الانحراف ركيزة أساسية من ركائز الدراسات الأسلوبية الحديثة، والكشف عن التحولات المختلفة للبنى التركيبية والبنية العميقة المثالية. كما يحتوي على ركيزتين أساسيتين ؛ الأولى: الخروج عن البنية المثالية الأصلية وتجاوز مستوى الخطاب العادي المألوف. والثانية : الجمالية التي تقف وراء البنى الإبداعية وتأثيرها في المتلقي. وقد قاربت الأسلوبية مقاربة علمية وصفية، تستند إلى منجزات الدرس اللساني الحديث، لدرجة أن بعض الأسلوبيين ذهبوا إلى القِران بين الانحراف والأسلوب، حتى غدا الأسلوب عندهم هو الانزياح أصلا." ومنهم من اختصَر تعريفَ مبررات الانزياح في ما يلي : 1-" الانزياح يعطي المبدع قدرة أكبر على التعبير، عبر انتاجه لقوالب لغوية جديدة، وكسره للقوالب القديمة والمتعارف عليها، لأنه لغة مجازية تتحاشى تسمية الأشياء بمسمياتها. 2- الانزياح يخرج بلغة النص الإبداعي من الوظيفة الايصالية السطحية، إلى الوظيفة الشعرية الأكثر عمقا. 3- الانزياح يثير دهشة المتلقي، و يثير الباحث الأسلوبي للبحث عن أسباب هذه الدهشة. 4- الانزياح غموض إبداعي، ومعان خفية يعطيها التحليل أبعادا جديدة وأفاقا واسعة . 5- وفي الأخير يستمد الأسلوب طاقته من الانزياح، ليخرج من واقعه البدئي أي من استعمالاته الدارجة المألوفة عن درجة الصفر إلى السنن اللغوية أي إلى اللغة العليا فيكون الانزياح هو الأسلوب ذاته." وهناك من يرى : "أنَّ الشعراء المحدثين في كثير من الأحيان، يجمعون بين الكتابة اللغوية والظواهر البصرية في النسيج الشعري، ويريدون بهذا الطريق أن يزيدوا من دلالات النصّ بصرياً ؛ ولكن ما يلفت انتباهنا في هذا الشأن هو أنَّ توظيف الظواهر البصرية في كثير من الأحيان لا يضفي أبعاداً جمالية ودلالية في جسد القصيدة، بل على النقيض من ذلك قد يقود الشعرَ إلى الابتذال والسّطحية". ولكننا نحاول دخول البيوت من أبوابها. مما يخاطب به عنترة بن شداد العبسي محبوبته عبلة، ما يلي : ولقد وددتُ تقبييل السيوف لأنها *** لمعت كبارق ثغرك المتبسم فهل كانت السيوف تتحمل التقبيل في أوج المعركة ؟ ومتى كان لمعانُ السيوف في الوغى يستحضر ثغر المحبوبة للمقارنة فيُدفعُ المحبون إلى تقبيلها ؟ معياريا لا يصح، أما جماليا فهي من أجمل الصور تعبيرا إبداعيا. ولئن كان مصطلح الانحراف الأسلوبي حديثا فلا غرابة أن نجد ما يؤشر لوجوده في التراث الانساني. ونُذَكِّر في هذا السياق بشاهدين- الأول : مقولة "الانسان مقياس كل شيء"L’homme est la mesure de toute chose." للسفسطائي (بروتاغوراس) ولكن تَجسَّدت تطبيقا في القرن الثامن عشر ميلادي، وأخذت أبعادها الانسانية فيه حتى لقب بـ"قرن الانسانية". الثاني : مصطلح "الجمالية" أو علم الجمال، الذي وضعه الكسندر غوتليب بومغارتن سنة 1750 ولكن التفكيرالجمالي سبق ذلك التاريخ بعشرات القرون. أما تجليات الانزياح فتتبدَّى في الاستعارة وبخاصة في التشخيص وتراسل الحواس والتضاد والتقديم والتأخير في التراكيب. فمقولة (بروتاغوراس) سبقت تجسيدها بقرون ومصطلح بومغارتن سبقه تجسيده بقرون. وقد وُصفت الظاهرة بعدة صفات مثل : الجسارة اللغوية والشذوذ اللغوي والابتكار والعدول والازورار والاتساع". وعند البعض فإن الانزياح مؤداه "خروج التعبير عن السائد أو المتعارف عليه قياسا في الاستعمال رؤية ولغة وصياغة وتركيبا" وثمة طرق كثيرة تتناول الأفكار والأسلوب، منها : 1 – الطريقة اللغوية الأسلوبية، وهي التي تَدْرس المؤلفات الفنية من خلال أسلوب الكاتب من الناحية اللغوية، بوساطة الملاحظة وتصنيف الخصائص الفردية. 2 – دراسة أسلوب الكاتب في روابطه المتينة بالصور والأفكار في ضوء المفهوم الماركسي للمحتوى والشكل. 3 – محاولة إيجاد علم خاص مبني على القاعدة اللغوية الأسلوبية. ويرى صلاح فضل أنه نشأ اتجاهان في علم الأسلوب : أحدهما وصفي، يتمثل في علم أسلوب التعبير ويدرس العلاقة بين الصيغ والفكر في عمومه ؛ وهذا يقابل بلاغة الأقدمين. والثاني توليدي، وهو علم الأسلوب الفردي، ويدرس علاقة التعبير بالفرد المبدع أو الجماعة التي تبدعه، وكلاهما يعتمد على علم اللغة. من هنا نخلص إلى صميم موضوع الدراسة تحت العنوان التالي : من مظاهر الانحراف الأسلوبي في إبداع العامرية. في ضوء ما سبق تحاول هذه الدراسة التعرض إلى "بعض مظاهر الانحراف الأسلوبي" في إبداع العامرية سعد الله، تلك المظاهر المنبثة في نصوص إصدارها الجديد : "امرأة في وادي الفراشات" وهي محاولة تهدف إلى معالجة هذه الظاهرة الأسلوبية التي تميزت بها نصوصها الإبداعية ضمن هذا الكتاب. ونؤكد منذ البدء أننا لو نرصد جميع مظاهر الانحراف في كل نصوصها، حيث نجد أنفسنا في مواجهة "ظاهرة أسلوبية معقدة يُثار حولها وحول أهميتها جدل كثير". وبما أن هذه النصوص تتضمن الحالات الأكثر تناغما مع هذه الاستراتيجية فإننا سنركز على بعض نماذج منتقاة، دون أن نُخرِج ما ننتقيه من فضائه أو سياقه الذي نشأ فيه، بمخلتف تنوعاته وتمظهراته. فهذه محاولة بحثية لإبراز إحدى الصور الجمالية في إبداع العامرية. وفي بدايتها ندرج الملاحظات التالية : لهذه المبدعة معجم متميز إلى حد ما. أورد هنا بعضه : أنزع حلة الشمس وأرتدي صمتي/ سأنزع حلة الأمس وأرتدي الشمس/ أخلع عباءة الحضور/ وأرتدي السؤال/ رماد اللحظات المتفحمة/ أجمع قطرات الحلم/ وأسكبها أقراطا/ تتدلى في أذن دالية / تعلقت/ بالعناقيد التي تدلت/ من الغيوم/ لا حلم للماء/ تنبت عنقاء/ من دخان الكلام / وحدي أنمق الريش/ لينمو لي جناحان/ وأطير / أنا صنو البحر/ خبأني الشتاء في لحائه / لست أنا من كسر بالورد سقف الزمان / فاخترت أن أسكب الظلام على سريري/ وأمارس لعبة التخفي / الجدار يتعقب خطاي/ يتكفن بالليل/ تتجعد أوصال اللحظات ... لقد شاغبتني فكرة التوسل باستراتيجية "النص الغائب" وترددت أمام نصوصها التي يتنازعها كلاهما : "النص الغائب" و"الانحراف الأسلوبي". وبما أن النص الغائب يعتمد أكثر على الإيحاء فيما يرسم المبدع من دلالات وإشارات ؛ ذلك "أن المدلول أو المعنى الغائب أو البنية العميقة يمثل حالة الغياب في النص الثري وحده. ولا يكون الغياب كليا وإنما تظل هنا إشارات وعلامات وومضات تدل على مكامن هذا الغياب وقد تفضي إليه. واستخراج الغائب يحتاج إلى قارئ مختلف صبور يعرف كيف يفكك بنية النص بتأنٍّ، ويتفحصها جيدا، فيخرج أولا البنية السطحية ويتفحصها، ثم يضعها جانبا للوصول الى الكنز الشعري أو البنية العميقة، التي كانت في طور الاختفاء، فيفحصها ليستخرج منها المسكوت عنه". للفراشات واديان اثنان في العالم أحدهما في اليونان والثاني في تركيا. وتراءى لي لو أقتصر العنوان على "وادي الفراشات" لكان دالا. فذكر المرأة قبل ذلك لا يضيف شيئا للسياق الدلالي إبداعيا، لأن المبدعة امرأة، مما يجعل ذكرها تكرارا لا طائل من ورائه. المدلول الأكثر حضورا في أغلب هذه النصوص هو الصمت الصاخب المنطوي على قصص مثيرة في حياة المبدعة ؛ لكأنها تسلخها من توجسات عالمها في سياق زمني لابِـدٍ في تحولات حياتها. تأمل معي مثلا : أنزع حلة الشمس/ وأرتدي صمتي. ثم : سأنزع حلة الأمس/ وأرتدي الشمس يشكل الليل أهم كائن يتحدى أحلام الكائنات ويكسب الصمت ألوانا من الضجة والتشنجات المعتقة بإرادة تغييرية. ولكن سمة الانحراف الأسلوبي تجعلها إيحاءا وتمنيا وتمنعا وحضورا غائبا. فنخلص إلى روافد كثيرة في النصوص تختزن من ألم الذات ما يغرق عوالم من الأحاسيس والتشكلات المتتنافرة تخيلا وإيحاء. هذه المجموعة الإبداعية هي الثالثة في رصيد مبدعتنا لكنها الأولى من حيث تميُّزُها بإرادة التفرد، وبناء أسلوب يحقق ذلك ؛ ومن حيث الإصرار على حفر بصماتها في فضاء الإبداع. وهي تنبيء بما يؤهل أعمالها القادمة، لتكون موضوع دراسات أسلوبية ونقدية عموما. تمعن العامرية في مجاراة الانزياح/الانحراف الأسلوبي إلى جعلِ التعبيرات تعجن نفسها وتخرج بأسارير تَهمُّ بالفرح ولا تفعل وتتعمد الطيران ولا تفارق مكانها : نشرت صمتي/ تساقطت ذكريات على شواطئه / لثمتُ وجنتي احتفاء بالربيع وحين تصبح للعيوون عناقيد تتدلى فيها وحين تصبح الريح تخاتل سواد الصمت يتوقف الصمت / يموت على شفتي أشعر أن طائرا يعيش بداخلي / لكنه مثلي / لا يطير النتيجة : أراوغ تفاصيل الأشياء. اللا معقول في الانحراف الأسلوبي هل هو ممكن ؟ إذا كان كذلك فسنجده في أعمال الأغلب، إن لم يكن عند جميع المبدعين بنسب متفاوتة. وعند العامرية نستشفه في أشكال سريالية غالبا. ربما، أقول ربما، وفي حدود اطلاعيَ المحدود، أن هذه الدراسة هي الأولى التي تناولت عملا إبداعيا تونسيا، طبقت فيه استراتيجية الانحراف الأسلوبي ؛ وبالتالي فإننا نعتبرها فاتحة في هذا المجال الدراسي، ونرتقب رفدها بدراسات مماثلة، لأعمال وتجارب إبرازا لتميزها ... ونلاحظ في هذا السياق أن الأسلوب ينحرف حسب أحوال عديدة منها : إسناد الفعل لما أو لمن لا يفعل أنسنة الأشياء والأماكن والمعنويات الجمع بين عناصر ليس بينها تآلف فتحدث مسافة بين القول ومدلولاته وتولد عوالم وحالات وسياقات تعبيرية وجمالية.. تظهر الجوامد والمكملات على أنها تعبر وتخاطب وتكلف بما لا يسعها وتقوم بالمجادلة أحيانا... مع نظريات اللغة لا يُسمح بإسناد مهمات لما لا يعقل ولكن المبدع يفعل فيفجر منابع الجمال والعجب في ما يبدع فتتخلى الألفاظ عن دلالاتها الظاهرة وتقترح دلالات أخرى أكثر إيحاء وعمقا. إظهار القدرة التخييلية للمبدع من خلال الانحراف المستحدث وهو ما تقود إليه الحالة النفسية والانفعالية مخاطبة المعنويات وأنسنتها كالزمن والشوق... يتأتى الانحراف الأسلوبي من أوج قدرة المبدع في بناء الخطاب التعبيري إبداعا كأنْ يُحوَّلَ غير العادي في مظاهر الطبيعة إلى عادي فيعلن الإنسان امتلاك البحر أو التصرف في الريح والمطر. لكنها رغبة المبدع في إرساء علاقة إيحائية بينه وبينها أو بين من يميز من عالمه. كما يلجأ آخر ليوهمنا بأن محبوبه ينير دروب حياته ويبدد كآبته وأحزانه. وقد يسهم في طمأنته وتوفير الأمن له."مثلما تمنح الشمس الكون الضياء والوضوح في النهار ومثلما يخفف القمر ظلام الليل فيمنح الإنسان الوضوح والأمن أيضا". الليل في حياة المبدع مرآة سامر الشعراء والسهارى والعشاق الليل واستبطنواخفاياه، وتمنى بعضهم أن لا يطلع الصباح عليهم، فيستمرون في نشوةٍ غمَرتهم طول ليلهم ؛ ذلك لأن في الليل تتجلى خفايا القلوب، ويبلغ البوح منتهاه. ولكن العامرية تنزاح أسلوبيا عن ذلك فإذا:
"مرة كان لليل رداء" ص11. المتعارف عليه والمعيش أن ظلام الليل يعتبر رداء، تتلحف به الكائناتُ جميعُها، جماداتٍ ومتحركةً. فإذا القارئ يَفْجأه كسر أفق الانتظار، بأن الليل قد كان له رداء، فيدخل في حالة من التخييل والتخيل، ويسأل : كيف يكون لليل رداء، وظلامُه في الأصل رداء ؟ لعل الرداء المقترح هو الضوء الذي تنزع به الكائنات الظلام عنها كل صباح، وبالتالي فهو ليس حدثا لتَكَرُّرِهِ كل يوم ؛ أم هو رداء يخفي الظلام ليكون العالم في حالة أخرى لم تخبرنا المبدعة عنها ؟ وعندما نسافر في مجاهل النص : لم يكن لليل رداء/ يسع صدري/ وعندما جلستُ أمامي/ كان في ساعاته الأخيرة/ رأيته يجمع ما تناثر/ من أوراق ساعاتي/ ويحفظها. بأي منطق ؟ وكيف يمكن لليل أن يوفر رداء بسعة صدر، حتى لو تجاوزنا المادي إلى الفكري ؟ لا نجد غير انحراف لمعان لم نعتدها.ف نستحضر هنا الشاعر اليمني عبد االله البردُّوني: من أنا ؟ أسأل شخصا داخلي *** هل أنا أنت ؟ ومن أنت ؟ وما اسمي؟ لكن الليل لا يجمع ما يتناثر في جوفه من كوارث وتيهان وأحزان وسعادات، وحين تشرق الشمس عليها، تنمو أو تختفي في انتظار عودته، في هيئات قد لا تشبه السابقة. فماذا بعد إخفاء جسد ظلام الليل برداء لم نعرفه ؟ لعل المبدعة باعتمادها الانحراف الأسلوبي في تشخيص الليل، تجعل من قارئ النص بَحَّارا يجيد الغوص، لا لاصطياد اللؤلؤ، وإنما بحثا عن المعاني المتآلفة مع صميم ما يحمله الليل ورداؤه من مستجدات، تقترحها المبدعة. فإذا الكل نص إبداعي. تقول : فتحت نافذتي/للهدوء/جمَعَتْ على كفي/زخارف فستاني وقالت / ستلبسين خضرة النخيل / وتوقدين جمرة / الـ..../ وترحلين وطنا واحدا / أنت رداؤه.
نلاحظ أن أسلوب الخطاب قد انزاح، ومعه انحرف المنطق التعبيري، المستند إلى المتعارف. لقد اعتدنا غلق النافذة بحثا عن الهدوء. لكن العامرية تقول : فتحت نافذتي/ للهدوء. ولعل القارئ يستنتج حالات أخرى منها : أن حشود الأفكار والتوجسات والتوقعات وغيرها شكلت في محيطها ضجيجا لا يُحتمل، ففتحت النافذة (للهدوء كي يدخل) لتنشغل بما في الخارج الذي أصبح هدوءا بالنسبة إليها. لكن النافذة لم تكتف بذلك فقد أنسنتها، وأسندت إليها فعلا لا يمكنها. تقول عنها : جمعتْ على كفَّيَّ/ زخارف فستاني وقالت /ستلبسين خضرة النخيل / /وترحلين وطنا واحدا/ أنت رداؤه. وتوقدين جمرة/ الـ.... فجمرة الـ... ماذا التي ذكرتها ؟ حتى في صورة اعتماد استراتيجية النص الغائب، لا يوجد دليل يوصل إلى المدلول. وهنا ينفتح الفضاء على كثير من المعاني التي قد تمر تخييلا أو استنتاجا، لتصبح الصورة الإبداعية دفقا من الصور التي تتشكل أوعية لحمل ما يجعله الانحراف وابلا من المعاني. فهي توحد بين الشخصية والوطن صلب رداء يجمعهما. فهل بذالك الجمع ترنو إلى أبعد من الوطنية إلى الانسانية، حتى تكون متحدة فيها ؟ لكن كيف نعالج رداء الليل حين يصبح رداء للوطن المتحد بالذات ؟ وهنا تحضر معالجة أخرى لما يرتدي الليل عند شاعر اليمن إذ يقول : يتعب الليل نزيفا وعلى *** رغمه يَدمَى وينجرُّ ويُدمي يرتدي أشلاءه يمشي على *** مقلتيه حافيا يهذي ويُومي ولكننا نحاول دراسة نصين من الكتاب، كأنموذج لما توظف فيه الدلالات عند ظهورها في سياق الانحراف الأسلوبي أو الانزياح. الأول : على ضفة رداء متروك. ص 14 من تخاطب المبدعة في نصها بعنوان : "على ضفة رداء متروك" ؟ تصفه في نصف النص الأول، وتخاطبه في نصفه الثاني. يُستَشفُّ من النص أن المخاطَبَ يقاسمها طقوس ما يجسد انحراف الأسلوب تمازجا، وبعد تحول أسلوبي أيضا، فإذا هو "فارغ من كل بريق". مستويان من الخطاب يميزان النصف الثاني من النص، الأول : كأنه ردة فعل تنذر بالمعاملة بالمثل/ "بسبب تغير الإحساس بالحياة فيه." : لا شمس تشرق في غدك بعد اليوم/ ../ لا بحر/ لا جبل / ولا صحراء / تملأ الفراغ المطبق / على صدرك / وأنت كما أنت / مشروع ابتلاء. ثم تستمر مخاطبة إياه كأنما تريد وضعه في خالة إرباك : تعرف كيف تعتق طعم النبيذ / وكيف تقطف توهجك / من عين الشمس / وحدك تتسلق حَبليَ السرّي / وتتسلل / إلى اخضرار العشب / في عيني. ص15 والنص الثاني بعنوان : فجر في ليل حديقة ص 18 حين نسائل الطبيعة عن هذا العنوان، تخبرنا عبر مدلوله أن الليل فضاء متماسك، والغريب أن الفجر حدثٌ تم في داخله. وفي ذلك انحراف عن المعنى في الواقع المتعارف أي أن الفجر يأتي في آخر الليل، دليلا على مجيء النهار بكل تفاصيله وخصوصياته التي أهمها الضوء والحركة التي تشمل كل شيء حي. أم الفجر الذي يحضر وسط الليل يعتبر، فإن حضوره يكسر أفق انتظار المتلقي، لعله يأتي هكذا حتى يمكنه الرحيل قبل مجيء الفجر الأصلي. تقول : في الحديقة التي ألفت بكائي/ والغناءَ الممزوجَ بنحيب الليل. تألف الحديقة البكاء كيف ؟ إنه انحراف بالمعنى لتسنَد وظيفةُ الألفة والإحساس الى الحديقة، وهي من المميزات التي اختص بها الانسان. إذن هي أنسنة غير الإنسان، وفي ذلك انزياح عن المعتاد. جعلتها المبدعة كذلك لتوحي لنا بأن الحديقة يلجأ إليها المسحوقون وفاقدوا السند والمظلومون، بأساليب شتى فتأويهم ليقضوا فيها ليلهم. فمنهم من يبكي وينحب ومن يغني ومما لا يخطر على البال من الحالات. وكم من قصص وروايات تعرضت إلى هذا العالم، عالم الحدائق العمومية، من بعد منتصف الليل حتى الصباح، إنه عالم الفارين من العدالة والمختفين في ظلام الليل عن أعين السلطة، وعاالم من زلت بهم القدم في الحياة، ومن لفظتهم حياة السكينة والدفء، مما يجعلنا نلجأ إلى تطبيق استراتيجية النص الغائب. لكن الحديقة التي يتجسد فيها المشهد من هذا النص هي حديقة بيتها ؛ باعتبارها تصور مشهدا من حياتها، فترة الطفولة. تقول : كان لا بد أن ألون تلك التفاصيل الصغيرة/ والنعاس/ وهدأة الليل/ وأغاني المساء/ وأنا أسحب الطفلة الغافية في ليل الحديقة. ومن تكون الطفلة الغافية تلك ؟ إنها هي. كيف ؟ تتجلى من خلال الحالات في شكل تفاصيل صغيرة مهيأة للتلوين. فتتوالد في مخيلتها الصغيرة أمانٍ ومشاهدُ تختلط فيها المظاهر الحسية والشعورية. وحين تنداح تلك في وعيها، تسحب تلك الطفلة الصغيرة الغافية في ليل الحديقة أي (تنسحب)، وهو تعبير يجسد انحرافا للأسلوب عن المتعارف: في تلك الحديقة التي ألفت وجهي النحيل/ كان رملها يسحبني إلى الأعماق الـ...مظلمة/ الأعماق المنتظمة غرفا... غرفا في الذاكرة/ الغرف تفضي إلى نفق/ في ذاك النفق كنت أجلس.../ أحَمِّضُ آخر الصور/ وأجمع رائحة الألوان من بين أصابعي. لكأن القارئ يتابع وصفا لحالات سريالية، تجسيدا لأحداث وحالات ابتدعتها العامرية، وتختمها بجمع رائحة الألوان من بين أصابعها. ولا بد من الإشارة إلى أن معجم العامرية، تتضمن كل مفردة منه الكثير من الدلالات فتجعل المتلقي أمام حشد من الممكنات الدلالية إيحاء وترميزا. فيها يهيمن "القص البرقي" إن صحت التسمية، المشحونُ بتعبيرات قد تدلُّ القاريء وقد تُتوِّهُه، حسب الركام الثقافي الذي يستند إليه، والمعرفة العينية أيضا. قص يختزل الأهم من لحظات حياةٍ، باطنُها يناقضُ ظاهرَها : "أشعر أن طائرا يعيش بداخلي/ لكنه مثلي/ لا يطير". ص13. لكن المظهر الأكثر هيمنة في نصوصها، هو الضجيج الصامت ؛ وهي تستحضر الضدين بحثا عن التنوع الدلالي المبتكر، وعلى القارئ المدفوع بمتعة القراءة أن يتجاوز تمنُّع النّصِّ، للبحث عن أدلة توصله إلى فك تضادهما، وأحيانا تنافرهما.. "فالانزياح الكتابي في الشعر الحديث يحاول أنْ يستعيضَ بالتنويع البصري مِنْ خلال التعبير بالصورة، وقد تجلت مظاهرها بأشكال مختلفة منها: 1-تمزيق أوصال الكلمة الواحدة من خلال فك ارتباطها الطباعي أو تفتيت الكلمة من خلال بعثرة حروفها على الصفحة 2- تقنية الفراغ و النقاط في جسد النصّ الشعري 3-- تضمين ألفاظ أو عبارات من لغات أخرى 4- توظيف الأشكال المختلفة والاهتمام بالفنون التشكيلية في نسيج النص الشعري. هذه وغيرها يعتمدها المبدع، باعتبارها إمكاناتٍ تعبيريةً، ليدخل على النص مظاهر لافتةً، قد تسهم في إثراء دلالاته وتنويعها، تعبيريا وتشكيلا جماليا. وبعد حين يصبح لليل رداء وللشمس جلد ورائحة الألوان تُجمع من بين الأصابع وزخارف الفستان تُجمع على الكف والطائر يعيش في داخل الانسان وحين يزغرد تصل زغرداته الأذنين ويصبح الكائن فارغا من كل بريق يطفئ فجره ويمتص بريق شهوة غافية في طينه ويسطو على رداء متروك في بئر لا ترِدُها دلاء، وهو كما هو مشروع ابتلاء لكنه يعرف كيف يقطف توهجه من عين الشمس ويتسلل إلى اخضرار العشب في عينيها ... وتكشف المبدعة عن رغبة في أن تُقلِّم ليلها، وأن تفتح فيه فتحة تسع وجهها الذي ما عاد يشبهها. وتفرد شعرها فتتطاير خطايا زمنها المثقوب فتستيقظ فيها امرأة تشبهها. تقول : لأنك مليء بعواء الذئاب/ ولأني شجرة/ تحرس غيوم الخريف إذا داهمتها الرياح. وهي تسأل قرطاجة : هل ترى يحمل البحر ملحا نقيا ؟ هي التي طوت طريق الحياة ووضعت البحر تحت وسادتها... وهي تعبيرات انزياحية تنضاف إلى معجمها حيث تتجسد صورا ناطقة لمظاهر من الانحراف الأسلوبي التي تنضح دلالات ومعانيَ، توظفها العامرية في سياقات مختلفة تثري حتما التجربة الإبداعية العامة، تعبيرا وإيحاءات وتخييلا. الكاتب: هيئة التحرير بتاريخ: الجمعة 28-01-2022 12:22 صباحا الزوار: 428 التعليقات: 0
|
|