|
|
||
|
النزعة الرومانسية في ديوان (تغريدات) للشاعر براء الشامي.. قراءة للناقد محمد الحراكي
يعتقد البعض – مخطئاً – أن عالمنا الماديّ اليوم، ولهاث الناس خلف تفاصيل الحياة اليومية، قد ضيّق المساحة على الأدب، وجعلها على هامش الحياة، وخصوصاً الشعر. لكن الحقيقة غير ذلك، فالمتتبع لحركة الشعر المعاصر يجد أنه ما زال حاضراً بقوة، وعلى اختلاف مستويات النصوص الشعرية فإن زخماً كبيراً تشهده الساحة الأدبية في عدد الشعراء والنصوص المكتوبة. في زحمة هذا العالم، وضجيجه وجدت نفسي أمام نصوص شعرية تأخذني أثناء قراءتها بعيداً عن هذا الصخب، إلى عوالم من الهدوء والسكينة والجمال، نصوص كانت توقَّع باسم شاعرها الأستاذ (براء الشامي). وما كان مني إلا أن حرصت على اقتناء ديوان لهذا الشاعر الذي جذبني بلغته الرقيقة وعبارته الأنيقة، وملأ قلبي بمحبة شعره دون أن يلجأ إلى التعقيد واستعراض المهارات التي تذهب بأجمل ما في الشعر.. وهو الإحساس. الأستاذ (براء الشامي) شاعر من مدينة أريحا السورية، وهو مؤسس مجموعة النخبة الثقافية، ومن خلالها عمل على إصدارِ المشروع التاريخي الكبير (الشعراء الألف) الذي جمع فيه ألف شاعر من الدول العربية في كتاب واحد، وهو المشروع الأهم، وله مشروعات أخرى تعد من أفضل ما تم إعداده على الساحة الثقافية العربية في الأدب المعاصر. صدرَ لهُ ثلاثة دواوين بعنوان : بلا وطن ـ رباعيات ساهرة ـ تغريدات. و ديوان (تغريدات) للأستاذ الشاعر براء الشامي من مطبوعات دار النخبة في مصر عام 2018م. وهو ما سأتناوله في قراءتي هذه. إن العلامة الفارقة التي يمكن لقارئ ديوان (تغريدات) أن لا يبذل جهداً في اكتشافها هي تلك النزعة الرومانسية في قصائده؛ فأنت منذ الصفحات الأولى تجد نفسك في عالم من الإبداع لا يغوص في تفاصيل الحياة المادية وجزئيات وجودها، وإنما ينحو بك بعيداً حيث تجد واحةً لروحك وملاذًا لنفسك المتعبة ومرتعًا لمشاعرك التي تتوق إلى الانطلاق والانعتاق. ولعل من أول سمات الرومانسية في قصائد الديوان، هو ما يشهده القارئ من طغيان المفردات ذات النزعة العاطفية في التركيب اللغوي لهذه القصائد. ولأن الكلمة روح وجسد، فالمعنى هو روح الكلمة، واللفظ جسدها، لذا لا يمكننا أن نتحدث عن طبيعة المفردات ذات الطابع الرومانسي الواضح دون أن نجدها مقترنة بعاطفة جياشة قوية صادقة. ها هو الجرح السوري إذ يطالعنا في أولى قصائد الديوان والتي حملت عنوان (دمي للشام) ولم يخرج الشاعر في ملامسته لهذا الهم الكبير عن تجسيد المعاني بألفاظ تحمل من الحب ما يضيق القلب عن احتوائه، وتتناثر في أبياته ألفاظ من مثل: حبّ، القلوب، العاشقون. وفي قصيدته (شام العلا) يقول الشاعر: إذا كتبتُ عنِ الفيحاءِ أغنيةً ظلَّت تراقصني الأزهار في الحُلمِ ما زلتُ أرقبُ يومًا كم سهرتُ لهُ حتَّى الصباحِ أناجي واسعَ الكرمِ يا قبلةَ الروحِ ما خطَّتكِ أوردتي إلا لأشربَ نخبَ الحبِّ في الكَلمِ
نلاحظ مفردات: أغنية، تراقصني، أوردتي ، الحلم، أناجي، نخب ، الحب. وهي مفردات تعكس اشتعالاً عاطفيًا، وإحساساً كبيراً بالحب، حب الشام، التي تبدو في أبيات الشاعر محبوبته الأولى ولها ولاؤه وانتماؤه، وبقدر هذا الحب كان أثر الجرح كبيرًا في نفسه. ومن أبياته التي حملت عنوان (عرج على الشام) اخترنا هذين البيتين، وفيهما نجد الألفاظ تفيض بالحب والشوق، يقول: عرِّج على الشامِ تلقَ الدرب أقداحا واشرب من الحب راحًا يتبع الرَّاحا هناك شوقٌ ينوء الصارمون بهِ يفوق في الحِملِ صندوقًا ومفتاحا
وفي قصيدته (عشق الشام) تَرِد مفردات: القلب، عشق، الجمال، سحره، خريدة، الحبيبة، الجوى، للعشق، عشقه، يتلذذ، القلوب، فؤادك، بحبك، الغرام، عشقت. ولكَ أن تتخيل أن هذا الكم من الألفاظ التي تحاكي المشاعر وتعبر عنها وتدور في فلكها جاء في طيات سبعة أبيات فقط!!!! ولا شكَّ أنك لو اطلعتَ على هذا المفردات خارج سياقها في النصّ لما ترددت لحظة في أن هذه الألفاظ إنما هي بناء لغوي في قصيدة تتحدث عن عشق عظيم لامرأة عظيمة.. فقد شكلت هذه المفردات حاملًا فنيًّا للإحساس المتَّقد في طياتها. وإذا كانت القصيدة الوطنية تحفل بهذا الكم من المفردات التي تنم عن رومانسية واضحة في طبيعة الشاعر، فمن الأَولى لقصيدة الغزل أن تكتنز بمفردات كهذه. وفي أبيات الشاعر براء الشامي، التي حملت عنوان (يا ريم) نحس اتقادًا عاطفيًّا كبيرًا تعكسه مفردات النص، ونتلمس تأثيره البيّن في قارئه، فالأبيات التي تصف حالة الفراق، تحمل القارئ ليعيش مع الشاعر حالة الحزن العميق وحرقة القلب ودمعة إن لم يصرِّح بها الشاعر علنًا فقد فضحتها مشاعره في الأبيات. يقول: اليوم لا شعرَ لا أشواقَ تنسكبُ الريح غابت ومرسال الهوى تَعِبُ يا ريم حسبكِ أن الروح عاكفةٌ في بحر عينكِ والخفَّاقُ محتسِبُ ردِّي عليَّ صلاة الروح كيف لها أن تعبرَ الماء والأمواج تضطربُ ما كان منّي سوى ما قلتُ فارتحلي إلى القصيدة كي تحيا بها الكتبُ
وأنت تقرأ بيتين مخاطبًا بهما محبوبته، تحت عنوان (نيران حبك)، لا تملك إلا أن تَرِد إلى خاطرك لواعج الحب العذري في تراثنا الشعري العربي، فأنت أمام حالة صدق في العاطفة وبساطة في التعبير تجتمعان لتجد نفسك أمام شعر غزليٍّ كالذهب الصافي. يقول: نيران حبكِ لم تحرق مدينتنا لكنها أحرقت في القلب بنيانا تحيا البلاد بنار العاشقين وقد يموتُ قلبٌ بلفح الحبِّ أحيانا ثمة أمر آخر تجده حاضراً بقوة في قصائد الشاعر (براء الشامي) في ديوانه (تغريدات) وهو تجلي عناصر الطبيعة في شعره بشكل لافت، وهذه سمة من سمات الرومانسية في الأدب، فالشاعر يجد نفسه ملتفتاً إلى الطبيعة يرى فيها المؤنس والمسامر والصديق فيعبر لها وبها عن كلِّ ما ضاقت به نفسه من المشاعر العظيمة، ولذا تجد مثلاً: القمر، الغزلان، الليل، السَّحر، الشمس، الهلال، الغروب، الريح، السماء، الأمواج، غصون، بستان، نهار، العنب،....... وغير ذلك كثير كثير. ومن أبيات حملت عنوان (رأيتكَ) يقول الشاعر: كأنك ليلٌ والنجوم تضيئهُ وقهوة حبٍّ من دياجيكَ تشربُ رأيتكَ بحراً كلما اختال موجهُ أتاكَ ضياءُ الشمسِ في الخد يغربُ وفي أبيات بعنوان (تغار من الزهور)، يقول الشاعر براء: تغار من الزهورِ أنتَ فلُّ وتطلبُ بعض ما.. ولديكَ كلُّ وقد كنتَ الحكايةَ للخزامى فذكركَ في الحدائق لا يُمَلُّ إن الحديث عن (النزعة الرومانسية) في ديوان (تغريدات) للشاعر براء الشامي، أشبه بنزهة في بستان مليء بمعالم الجمال، غنيّ بعناصر الفتنة، وهو لا يبهر النظر ويدهش العين وحسب، بل إنه يتغلغل في أعماق النفس وطيّات القلب حتى يجذبك بكل ما في كلماته من تفاصيل أشبه ما تكون باللؤلؤ المنثور. حسبُنا أن أشرنا إلى زاوية نَضِرة زاهية في شعره، ووقفنا على معلم من معالم شاعريته، وعرفنا أن شعره مرآة نفسه التي لولا ما تتصف به هذه النفس من النقاء والجمال لما فاضت علينا بكل هذه القصائد الرائعة. الكاتب: هيئة التحرير بتاريخ: الأربعاء 05-05-2021 04:12 صباحا الزوار: 531 التعليقات: 0
|
|