|
|
||
|
هل بالإمكان الاستغناء عن السّارد في القصّة القصيرة "العجوزان " بقلم / محمد المسلاتي
دراسة بعنوان: هل بالإمكان الاستغناء عن السّارد في القصّة القصيرة "العجوزان " بقلم / محمد المسلاتي - ليبيا =========== ============== الدّراسة : العتبات: الاستهلال: – من؟ – أنتَ – أنتِ – يا لها من مصادفة ! – مصادفة؟ إنّها أكثر من ذلك. لا. لا أصدق عينيّ، أيمكن أن يحدث هذا يا إلهي؟ ـ هكذا، فجأةً نلتقي بعد خمسين عاماً، أهي الدّنيا صغيرة إلى هذا الحدّ. أم أنّ الأمور تعيد نفسها ؟ - وأتعرّف إليكِ من دون مشقّة.
يُستهل المتن بحوار وكأنّه قُذف بنا أمام ركح مسرح الحياة، لنشهد حدثا بطله الصّدفة ومُخرجه القدر، موضوعه إعادة طرح أسئلة محيّرة منذ الأزل..
يبدو أنّ السّارد العليم قد أخّرته المواصلات ... رُفع السّتار وأوكلت المهمّة لشخصيتين، للتّعريف بوضعيتهما. هل بالإمكان أن يقود المتحاوران سفينتهما بمفردهما، من دون الاستنجاد بسارد عليم؟...هل سينجحا في تعويضه ؟...وهل يتنازل هذا الأخير عن وظيفته لفائدة الحوار في القصّة القصيرة؟ هذا ما سنحاول تبيانه في مبحثنا هذا ... *الخاتمة: "رجّع بصره، سحبت نظراتها، التقت أعينهما، بمساحات السّنوات العابرة، انعكست سحابات متلألئة تحت الرّموش، انطلقت ضحكتان في آن واحد... امتزجتا في قهقه متداخلة… مدّت يداً معروقة خشنة مرتعشة، تلقفتها يده بشراهة السّنوات الغائبة... اليدان عصفورتان مهاجرتان التقيتا، نامت يدها بين أصابعه، وثبت في أعماقها صبيّة غضّة تركض بحبور طاغ، قفز في أعماقه صبيّ مشاكس، انطلق صوب الصّبيّة يمازحها." خاتمة حرّكتها أفعال في زمن حاضر المضارع والماضي ، كماضى يتصارع، لأجل البقاء في الحاضر، قصد إثبات ديمومة حبّ، قامت بين ذاتين، انتصرت على نصف قرن، أفعال ترمز للحياة للأمل... طاقة... تتفجّر في الذّهن، لتخلق أكوانا وحيوات، لدلالات كشلّال متدفّق، تتولّد منه الحياة على الضّفاف، لها بريق كبريق عيني عاشق ولهان، يحلم بالهيام بالغوص في عيني حبيبته { سحبت/ التقت انعكست/ انطلقت / امتزجت /مدّت/ تلقّفتها /التقيتا /نامت /وثبت/ تركض/ قفز /انطلق/ يمازجها} أفعال تغازل الماضي والحاضر في دلال المدّ والجزر، تستظلّ بظلّ كالسّراب، تعانق الحياة، تشتهي الحركة في دلال، تأمل الثّبات خارج الزّمن، فوق الأرض، تتوق للطّيران في الجوّ، والسّباحة في عرض البحر، عبر خيال ومخيال، له دويّ كدويّ صرخة الحياة، تركض،تقفز، تهيم، تغيب، تنام، في سلام، تلتصق، تتمازج، تمدّ تتلاقف، تتوثّب، تشتهي رقصة.... كرقصة رعشة الخزّاف ... خاتمة غيّبت الزّمن بتجاعيده، وكلّ أخاديده، وتضاريس تفاصيله، القاسية، وغمرت الحاضر بدفق الشّعور الملتهب، تاركا المتلقّي فاتحا ثغره مشدوها، يتساءل كيف للمشاعر أن تبقى وقّادة وهّاجة، من دون أن تهرم أو تصاب بفتور؟ .... غير معترفة بسنّ اليأس! ولا بخطوط الطّول والعرض!.. وكأنّ شيئا ما، أطبق الجفون على ذاكرة، محت علامات السّنين الخمسين، بلمسة سحريّة، كجرّة قلم، هجّرت العجوزين، من زمن إلى زمن، فإذا بها تعود صبيّة ثابتة، مثبّتة، غضّة، رشيقة نضرة ترتعد، كسالف عهدها لحظة اللّقاء، افترش لها يده سريرا، داعب يدها بأصابعه، بشراهة ونهم الرّغبة من جديد، فجّرها الأمل والصّدفة المقدّرة . وتحلّلهما من كلّ رباط وثاق والتزام بعهد وقّعاه في الزّمن الغائب، وقع بفسخهما لعقدي زواج بفعل موت زوجيهما... عصفور وعصفورة، أيقظت صدفة اللّقاء فيهما رعشة الخزّاف، بعد أن حطّ بهما القدر على مرفأ الزّمن الكسير لمواصلة الرّحلة من جديد. فأدخلا على قارب حياتهما دفئا، ذوّب الجليد، الذي كاد يستبدّ بمحيطهما، فكسرا معا مسار سيرورة كينونة دائرتين، انفصلتا منذ خمسين عاما، فجاعلا من لحظة التّنوير وميضا لإشراقة بعث جديد لدائرة، كمركبة فضاء صاروخيّة، توحّد كوجيتو ذاتين تخترق الجسد الهرم بالزّمن لتعانق الخلود في مفهومه السّرمدي... وكأنّي بامرأة العزيز في ثوب جديد، يرجع لها الزّمن نضارتها الأولى حيث توقّفت عقارب ساعة زمان سعادتها لحظة الفراق ... الشّخصيات: - امرأة عجوز - رجل عجوز - سارد عليم -وجمهور حضور في وضع التلقّي والانفعال تنتظر مشاركته للبتّ في المادّة المعروضة.. - المعروض قصّة قصيرة كان عنوانها بمثابة أفيش .. اتّضحت معالمه في الاستهلال شكلا انشطر النصّ إلى نصفين الجزء الأوّل خصّص للحوار، أمّا النّصف الثّاني، فقد تولّى فيه السّارد العليم، تأطير النّص تأطيرا أدبيّا أُقحم به المتلقّي ليكون سندا معاضدا، وطرفا فاعلا، في تشكيل واقع القصّة القصيرة، بطريقته بعد أن حرّر السارد العليم الواقع من براثن الخبر الجافّ، بتفعيل الصّورة الذّهنية وتفجيرها وإيداعها في ذهن هذا الأخير ونقصد المتلقّي ليتفاعل معها ويقدّ نصّه كما بلغه ..
فكانت معادلة تجاذب أطرافها رباعيّ... أربعة وخامسهم نصّ لقصّة قصيرة
يتبع١/٤
A
الحوار في القصّة، أوهمنا بواقعيّة صدفة اللّقاء، ( الحدث)، منذ الاستهلال، من حيث كيفيّة حدوثه، والطّريقة التي صيغ بها، كان لها إيقاعا خاصا، شحن به الزّمكان، كما أعطى للأسئلة معنى، ممّا جعل القارئ، ينجذب انجذابا، أفقده الإحساس بما يدور حوله، فقد تمكّن العجوزان من لعب دورهما بشكل مقنع، منذ بداية اللّقاء، حيث حدّد مدّة الفراق بخمسين عام، مختزلا بذلك الزّمن قفزا واستردادا، للرّبط بين الفصل و إعادة الوصل من جديد بالصّدفة ...ليتناغم مع العنوان، ثم حتّى نتمكن من رسم ملامح الشّخصيتين. هي"-هكذا، فجأةً نلتقي بعد خمسين عاماً، أهي الدّنيا صغيرة إلى هذا الحدّ. أم أنّ الأمور تعيد نفسها ؟ " كما ساهما في لعبة التّشويق، والتّدرّج بالحكائيّة، بشكل متسلسل مترابط، مقنع بصدق الحكي، كما أشارا إلى صدام مع الواقع، أحدث: + صراعا خارجيّا لم يصمدا أمامه، فذهب كلّ في حال سبيله، ومارس حياته، بشكل كان يبدو طبيعيّا، مستسلمين للظّروف القاهرة، مخلّفين عشقهما وراءهما!... كأنّ شيئا لم يكن! ... هو -"...أنتِ مكثتِ هنا، أنا من رحل، أجل بعد خمس سنوات من افتراقنا، تحت تلك الظّروف القاسيّة، التي مرّت بنا، حاولنا كثيرًا .. لكنّنا لم نصمد في وجهها ." نلاحظ أنّه أطّر الزّمن، وأسهب بعض الشّيء في التّحليل، والتّعليل والتّبرير .. غير أنّه في الحقيقة كان تكثيفا لموضوع الصّراع في المطلق سواء منه الدّاخلي/ أو الخارجي... + الصّراع الدّاخليّ تمثّل في حفظ العهد من جهة، وحفظ السّلالة وتلبيّة رغبة البقاء من جهة أخرى، لتحقيق توازن الذّات، بالقضاء على الوحدة، بالبحث عن الألفة، و السّكن والونس، لكسر وحشة الفقد، و الغربة، بعد الرّحيل، فكان البديل ظلّا يستظلّ.. به بحثا عن الاستقرار، قرار اتخذه بعد سبع سنوات من القحط والمقاومة، ومطاردة الفكرة ربّما... غير أنّه كان الحلّ الممكن، والأنسب، لتعويض مرار الفراق حسب زعمه، بما في رقم سبعة من دلالة... تبرير لم تقبل به الأنثى، وترى فيه خيبة خيبت آمالها، في عدم التزامه بالوفاء لحبّهما، لأنّه كان صاحب قرار حسب ظنّها، وكان بإمكانه التّضحيّة، بعكسها هي التّي كانت في وضعيّة الخاضعة للأوامر محتّم عليها الانصياع .... لذلك ردّت بانفعال : " ـ تزوّجت إذن، لم تحفظ العهد،" هو- "هاجرتُ إلى قرية نائيّة . . حاولت أن أتغلّب على آلامي، وبعد عامين تزوّجت لأقهر وحدتي، وشعوري بالغربة ." هو"-مهلاً لا تتركي الهواجس تعصف بكِ بعيدًا ، كلماتك تندفع إلى قلبي مثل الرّصاص، لماذا تلومينني . . وأنتِ ألم تتزوّجي؟ هي ـ كنت مضطرّة.." على غير عادة القصّة قد يتراءى للبعض إسهابا في التّبرير كان بالإمكان حذفه، غير أنّني أرى غير ذلك، من وجهة نظري التي تحتمل الخطأ. ولكن ألا تشاطرونني الرّأي بأنّه، على أرض الواقع، موقف تبرير الخيانة، قد يأخذ أشكالا متعدّدة... قد يصل الأمر بالمتنازعين إلى القطيعة، أشهر، وربما أعوام .. فبالتّالي الإسهاب هنا كان مقصودا وموظّفا.وإنّ أمر الاستغناء عنه لئن كان لا يغيّر شيئا بالنّسبة للحكائيّة، إلّا أنّ روحا بُثّت بفضل (لكلكتها). في هذا المقطع بالذّات : "بكلّ بساطة تجدين لنفسك العذر، أمّا أنا لا عذر لي عندك . ـ ما هو عذرك؟ ـ أنا شعرت أنّني في حاجة إلى رفيقة، إلى امرأة تبدّد وحشة غربتي في تلك القرية التي لا أعرف فيها أحدًا ." كما ساهما -أقصد العجوزين- في تمرير رؤية الأديب، في إثارة بعض الأسئلة الفلسفيّة الوجوديّة المحيّرة، للذّوات البشريّة، منها مشكلة نسبيّة الزّمان وارتباطه بجغرافيّة المكان، بالذّوات، بالتّاريخ، بالتّأريخ بالذّاكرة، بظلّها، بالتّبعيّة بالأنماط، بالنّسيان، بالأمراض الاجتماعية، بحرّية المرأة، بالحاجات الأوّليّة البدائيّة، الضّامنة للاستمرار، بالبداية، والنّهاية، وعلاقة النّقطة بالزّمن بتشكّل الدّائرة، بالحرف، وبنقطة النّهاية بالحكاية، بالواقع بالعادات بحرّية اتّخاذ القرار وتقرير المصير، بالتّسلّط بقهر الزّمان والجغرافيا، ونظام القطيع الذي يحيلنا على صيغة مفهوم جديد للعبوديّة المقنّغة للأفراد، للعنصريّة في المطلق، للجنس، للطّبقيّة للّون وللمهزومين المكلومين الواقعين تحت فعل التّسلّط بإرادتهم، أو غصبا عنهم. بين القدر والمقدّر بين لحظة الولادة والبعث من جديد... من المسؤول؟ هل الإنسان مخيّر أم مسيّر؟ وإلى أيّ حدّ ممكن للصّدفة، أن يكون لها دورا في تغيير اللّعبة؟ وهل تتقاطع الصّدفة مع القدر؟ وهل الصّدفة مطلقة أم نسبيّة؟ وإلى أيّ حدّ تتقاطع وتتتعارض مع الحتميّة؟ من حيث منطق السّببيّة، (لكلّ حدث سبب معيّن مسبق ومعروف)، "ـ من يصدّق أن نلتقي دون ترتيب أو مواعيد،" أيضا أسئلة أخرى يطرحها الحوار، كمفهوم نسبيّة معنى الإخلاص في الحبّ لهذا وذاك، ومتى تبدأ خيانة هذا وذاك. والتّبرير هل يستند على منطق مسبق، يحكمه الحلال أم الحرام، أم الشّرع، أم الشّرائع الوضعيّة،أم الوجود، أم الذّاتيّة والفرد ، أم يتحكّم فيها العرف الشّائع والتّمويه، والتمسّح على عتبة الأخلاق، والدّين لأجل حقّ أريد به باطل ... ومن يشرّع حدود درجة الوفاء؟ من الضّحيّة الفعليّ؟ الخادع! أم المخدوع!.. في هذه الحالة هل نحن أمام جريمة خيانة... تعاقب عليها الشّرائع.....أم الضّمير... وأيّ ضمير نقصد (الأنا) أم ضمير الآخر المغيّب في الحضور قسرا.... ال(هو) وال(هي)
يتبع٢/٤ B
أستحضر هنا، ثلاث أوجه نظر لمواقف بعض الشّعراء، من منطق الوفاء، والإخلاص للحبّ الأوّل أو الآخر أم الحاضر ... فأمّا أبو تمّام، فيقول وقد حسم الأمر: 1) "نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى * ما الحبّ إلّا للحبيب الأوّل " وجهة نظر، عمد الحوار على تأكيدها، ويظهر في تصريح العجوز، الذي بدا لي، فيه شيء من الظّلم و الخيانة لشريكها الفعليّ، الذي حسب الحالة المدنيّة، كان يعدّ زوجا لها، غير أنّه أثناء الدّور الفعليّ، تُلبسه من خيالها جبّة الذي كان رفيقها... من دون علمه، ولم تذكر أنّه انتبه لذلك، فأغلب الظّنّ، أنّه عاش ومات مغفّلا، وربّما كان يعتبرها أعفّ من العفّة نفسها، ولا يمكن أن تخونه، ولو في خيالها...غير أنّ الواقع كان غير ذلك، حسب اعترافها هذا، لحبيبها الذي سكن قلبها وأعمى بصيرتها: هي " - لأنّني أحبُك بصدق. لم تسقط من ذاكرتي لحظة واحدة. حتى مع زوجي كنت أراك أنت، أسمع صوتك، أشعر بيديك، كنت الحاضر الغائب..". وكأنّي بالكاتب عند توسّله بالفعل (سقط) في المضارع "تسقط"، لم يكن بفعلته هذه بريئا، بل قد تكون إشارة أيقونيّة، تحيلنا على فعل سقوطها بالفعل، في الخطإ، ويؤكّد زعمي هذا ردّ العجوز الهو: ـ "لكنّه هو ولست أنا ". علما أنّ هذا الأخير، في علاقته مع الأخرى، ومع ذاته، كان أكثر اتّزانا، وضوحا، وواقعيّة، مارس حياته، بشكل واع ومدرك، يفرّق بين هذه وتلك، فلكلّ موضعها ووضعها، وقد حرص على حفظ مقام كلّ منهما، لم يخترق الحدود، كان حاسما جازما في حفظ الودّ، يفرّق بين الإحساس والشّعور، والشّغف والاحترام، والفعل بالفعل، والحركة، والهدف، والنّتيجة، ذلك أنّ قراره كان بدافع حاجة، بعد تأمّل في واقع حاله، بعد أن أدرك، وتأكّد لديه أنّه لا يمكن أن يلغي الرّغبة، ولا الونس بشريك يستند عليه، يؤنسه في وحشته، ويتّكل عليه في رحلة وجوده الفعليّة، قراره ذاك، كان نتيجة وعي...غير أنّ الحبّ وما يهواه القلب، احتفظ بهما لحبيبته الأولى، تلك التّي احتلّت ذاكرته، تسبَح بين شغاف قلبه، وتُسبّح بنبضاته، تتمدّد على شاطئ الذّكرى. فبالتّالي، علاقته مع ال(هي) الحاضرة ساعة الفعل، لم تُسبغ بالخيانة... اكتفى بالتّلفّظ بالقول بأنّه (لم يكرهّا)، كما أنّ العلاقة لم ترتقي بينهما، إلى درجة أن يحبّها، كما أحبّها هي، مبرّرا لها فعل زواجه: "لم أحبّها كما أحببتك". هنا، قد يخيّل لنا، أنّه أحبّها فعلا، ربّما، بدرجة أقلّ من حبيبته الأولى، أو لعلّه، فعلا بدأ الحبّ يتسرّب إلى قلبه رويدا رويدا، لولا أنّه كان قد حسم الأمر منذ البداية بجزمه أنّه (في الحقيقة لم يحبّ امرأة بعدها )، ولكن في المقابل، كان يقدّرها، ومازال... مازال يحفظ لها ودّه، ويكنّ لها احتراما، حتّى في غيابها، يليق بالعشرة والألفة التي ألفها معها، بحكم المصالح المشتركة بينهما، النّاشئة عن رباط الزّواج الذي جمعهما، لم ينس أنّها كانت السّكن والونس في سنوات غربته .. هو" - في الحقيقة لم أحبّ امرأة بعدك . هي ـ لكنّها امرأة . هوـ لا يمكنني أن أقول إنّني أحببتها، لكنّني احترمتها، حملت لها في قلبي ودّ المعاشرة، كانت طيّبة، لم نختلف، نشأت بيننا ألفة. اعتياديّة الحياة قرّبت بيننا، روابط مشتركة ربطتنا لكنّك كنتِ تعيشين في الذّاكرة، تستلقين وسط دماء القلب، لم أنس ملامحكِ، تفاصيل وجهكِ ، كنتِ الحبّ، وكانت الألفة، وهناك فرق بينهما، كنتِ الذّكرى والحبيبة، وكانت الحاضر والزّوجة، لم أكرهها، ولم أحبّها مثلما أحببتك." نرى الكاتب هنا تعمّد التّغافل على ، كذبة وهم الحبّ الذي عاشه كلّ منهما، مع الطّرف الآخر ذينك المغفّلين، اللّذين ملآ الفراغ في الزّمن الضّائع، حيث لم يجرّم ولم يؤيّد أيّ طرف -بطريقة مباشرة- بل فسح لكلّ منهما، أن يطرح وجهة نظره، من دون حذر، ولا مراوغة، رغم أنّنا لو أخذنا بظاهر الفعل، بقبول كلّ منهما الزّواج من آخر، وأخرى، فمن هذا المنطلق فإنّهما قد طبّقا مبدأ صاحبي الأبيات التّالية ، وبذلك يتّفقان معهما : 2) "دع حبَّ أوّلِ من كلّفت بحبّه* ما الحبّ للحبيب الآخر" ما قد تولّى لا إرجاع لطيبه* هل غائب الذّات مثل الحاضر ؟
3) "أنا مبتلي ببليتين من الهوى * شوق إلى الثّاني وذكر الأوّل"
هذا الموقف من الأديب فيه من الذّكاء، بما يحسب له، في فسح المجال لتشريك القارئ معه، إذ اكتفى بالإشارة في المضمر، عملا بمبدإ الحذف (كلّما ضاقت العبارة اتّسعت الرّؤيا )، حتى يحفّز المتعة بالمشاركة في إبداء الرّأي فيما لم يصرح به علنا على الورق ...
يتبع٣/٤
C فجأة، حضر السّارد العليم، فأسكت الأبواق، بعد أن استنفد البطلان ما بجعبتهما، وحتّى لا يدخل الحوار في جدل عقيم، جاء هذا الأخير لينقذ الحدث، من مأزق كاد على إثره أن يغادر بعضهم القاعة، بعد أن بدؤوا يتململون نتيجة شعوروهم بالملل جرّاء ما اعتقدوه خطأ رتابة وترهلا ، في حين أنّه كان تكثيفا خدم لحظة التّنوير ودفعت بالحكائيّة، جيء بالسّارد كبوصلة تثبّت للمركبة مسارها، حتى تعيد للرّكّاب ثقتهم وللجمهور بهجته بالاستمتاع بجمال الوصف ولذّة لغة السّرد. والبلاغة والاستعارة بأنواعها، التي تزيد للمشهديّة بهاء. وهذا يحملنا، إلى أهمّية وصف المناخ وما انصبغت به الأحاسيس من مشاعر، وتأثيرها على دغدغة مخيال المتلقّي، وقدحه. أعاد السّارد العليم للحكائيّة الرّوح بعد أن أثبتت (أنا) ، (الهو )و(الهي) قصور هما في سبر أغوار نفس الآخرين، رغم أنّهما نجحا في استنطاق كلّ منهما الآخر ، غير أنّهما لم يفلحا في نقل حقيقة ما يجري من حولهما، من ذلك مثلا ما كنّا لنعلم أنّ المارّة لم يهتموا بالبطلين ولم يكن يعنيهما أمرهما كما تصوّرا. كما نقل لنا أحاسيسهما في الحاضر مضمّخة بفيض من المشاعر الجيّاشة، عبر ترجمة حركاتهما وتصرّفهما، الذي عجز الحوار، عن نقلها رغم اجتهادهما. وهكذا حصل الاتساق، والانسجام، بين الظّاهر والباطن، بين المحبّر والمضمر،والمتشظّي بين إيقاع السّرد، وقفا واستردادا واسترجاعا، وصلا وتواصلا مع اللّفظ، الذي أعطى للملفوظ والمسرود معنى، تناغم مع سلاسة الأسلوب، وحلاوة البلاغة في فصاحة... تم ٤/٤
سهيلة بن حسين حرم حمّاد الزهراء / تونس في 22/01 /2021
========= ============
النص: • العجوزان / قصّة قصيرة بقلم / محمد المسلاتي - ليبيا – من؟ – أنتَ ! – أنتِ ! – يا لها من مصادفة ! – مصادفة؟ إنها أكثر من ذلك، لا.. لا أصدق عينيّ، أيمكن أن يحدث هذا يا إلهي؟ هكذا، فجأةً نلتقي بعد خمسين عاماً، -أهي الدنيا صغيرة إلى هذا الحد، أم أن الأمور تعيد نفسها ؟ - وأتعرف إليكِ من دون مشقة. - وأنتَ ألم تشدّني ملامحك وسط عشرات العابرين ؟ ـ أين . . أين اختفيتِ كل هذه المدة الطويلة؟ ـ أنا لم أغادر هذه المدينة، أنتَ الذي توارَى بعد أن حدث ما حدث . ـ صحيح، الذاكرة بدأت تشيخ أيضاً، أحياناً نخلط بين الأمور، أنتِ مكثِّ هنا، أنا من رحل، أجل بعد خمس سنوات من افتراقنا تحت تلك الظروف القاسية التي مرّت بنا، حاولنا كثيرًا، لكنْ لم نصمد في وجهها .. هاجرتُ إلى قرية نائية .. حاولت أن أتغلب على آلامي، وبعد عامين تزوجت لأقهر وحدتي وشعوري بالغربة . قاطعتْه بانفعال: ـ تزوجت إذن، لم تحفظِ العهد، كنت أعتقد أنّك لن ترتبطَ بامرأة بعدي، ألم تقل لي ذلك ؟ وأحببتَها كما أحببتني في يوم ما، شغفتَ بها، لاشكّ أنها كانت جميلة، أليس كذلك ؟ أكانت تشبهني؟ ـ مهلاً لا تتركي الهواجسَ تعصفُ بكِ بعيدًا ، كلماتك تندفعُ إلى قلبي مثل الرّصاص، لماذا تلومينَني، وأنتِ ألم تتزوجي؟ ـ كنت مضطرةً.. ـ بكل بساطة تجدين لنفسك العذر، أما أنا فلا عذرَ لي عندك . ـ ما هو عذرك؟ ـ أنا شعرت أنني في حاجة إلى رفيقةٍ، إلى امرأة تبدّدُ وحشةَ غُربتي في تلك القرية التي لا أعرفُ فيها أحدًا . ـ لكنك أحببتَها لا تُنكِر ذلك. ـ تغارين! لم يتبدلْ فيك شيءٌ، أنتِ كما أنتِ . ـ لا تُغيرِ الموضوع، أحببتها مثلي أم أكثر مني ؟ ـ في الحقيقة لم أحبَّ امرأةً بعدك . ـ لكنها امرأة . ـ لا يمكنني أن أقول أنني أحببتها، لكنني احترمتُها، حملت لها في قلبي وِدّ المعاشرةِ، كانت طيبةً، لم نختلفْ، نشأتْ بيننا أُلفة، اعتياديةُ الحياة قرّبت بيننا، روابطَ مشتركةٌ ربطتنا لكنك كنتِ تعيشين في الذاكرة، تسْتلقين وسطَ دماءِ القلب، لم أنسَ ملامحكِ، تفاصيلَ وجهكِ ، كنتِ الحبَّ، وكانت الألفةَ، وهناك فرق بينهما، كنتِ الذكرى والحبيبة، وكانت الحاضرَ والزوجة، لم أكرهْها، ولم أحبّها مثلما أحببتك. ـ لكنها شغلت حيّزًا من تفكيرك . ـ الغيرة تتحولُ عندكِ إلى أنانية. - لأنني أحبّك بصدق، لم تسقط من ذاكرتي لحظة واحدة. حتى مع زوجي كنت أراكَ أنت، أسمع صوتك، أشعر بيديك، كنت الحاضرَ الغائبَ.. ـ لكنه هو، ولستُ أنا . أنتَ أيضاً لم تتغيرْ مازلت كما أنت، طريقتُك في التّخلص من أيّ موقفٍ صعبٍ، نفْسُها، مراوغتُك في الحديث.. السنواتُ لم تؤثّرْ فيك، خمسون عاماً مرّت دون أن تسلُخَ منك أيّ شيء.. ـ وأنتِ أنتِ، صوتُكِ ، النبرات التي سمعتُها أول مرة .. عيناك تتألّقان بالجُرأة والصّفاء، تبدوان واضحتين عميقتين كما عرفتهما عند أولِ لقاءٍ بيننا، هل تبقى الأُشياءُ كما هي بالرغم من مُرور الزمن؟ ـ أنت تبالغُ، أنا تغيرتُ كثيرًا كل الذين يعرفونني لاحظوا زَحفَ الشيخوخة عليّ، العينان انطفأتا منذ زمنٍ ـ أنا لا أبالغُ صدّقيني، أراكِ الآن كما عرفتكِ منذ خمسين عاماً . ـ أنتَ الذي لم يتغيّر، أراك كما أنتَ الرجلَ الذي التقيتُه منذ تلك السنوات. . أيُّ قدرةٍ جعلتك تحتفظُ بنفسك دون تبدل؟ ـ حدّثيني، حدّثيني عن كل شيء ، أريد أن أختصرَ الزمنَ كله في لحظة، أنجبتِ أولادًا، أليس كذلك؟ ـ ثلاثُ بناتٍ وولدين. فقدت بنتًا في عامها العاشر. كبر الباقون . .تزوجوا كلهم . . أنجبوا . . تصور أنني صرْت جدّةً لعشرةٍ أحفادٍ، يا للأيام مرت بسرعة بالرغم من قساوتها! وأنتَ ألم تنجبْ منها؟ ـ ثلاثةُ أولاد، تزوجوا أيضًا . . أنا جدّ مثلكِ ولكن لأربعة أحفاد. ـ أين تعيش الآن؟ - هنا في هذه المدينة. ـ هنا! منذ متى؟ ـ منذ شهرين تقريباً ـ لماذا لم تبقَ حيث الأولاد؟ - دوري انتهى بالنسبة إليهم ، ليسوا في حاجة إليّ الآن، وهناك حنينٌ دفينٌ لهذه المدينةِ. ـ تعود إلى المدينة لالتقيَ بك من جديد ، من يتوقع هذا ؟ ـ كل شيءٍ محتملٌ في هذه الحياة. ـ كل شيء يعود لنقطة البدءِ .. أتذكر منذ خمسين عامًا التقينا، وها نحن نلتقي . . هه نسيت أن أسألك أين زوجتُك؟ هل جاءت معك أم أنّها فضّلتِ البقاءَ هناك؟ ـ لم يعد بوسعها أن تختار، رحلت عن هذه الدنيا منذُ سنتين.. ـ يا إلهي، أنت وحيدٌ مثلي، توفِّي زوجي أيضًا منذ سنة، ألم أقل لك أن كل الأشياء تعود إلى نقطة البدء . ـ لقاؤنا الآن يعيدني إلى أول لقاء بيننا. ـ أتفق معك، كأن الزمن توقف عند تلك اللحظةِ.. أُنظرْ، ألا تبدو الشمس كما بدت يوم التقينا منذ خمسين عاماً، السطوعُ نفسُه. ـ السماء لها الزرقةُ نفسُها،أشياءٌ كثيرة لم تتبدّلْ ،المدينة وحدَها اتسعتْ، كبُرت بميادينها، وشوارعها، البيوتُ تزاحمت لكن اللّحظةَ لم تتغير، أليس كذلك؟ ـ بلى! بلى! . - هل تصدقين أنني أرتجفُ الآن كما ارتجفتُ عند أولِ لقاءٍ بيننا . – عاوَدني الارتباكُ، الخجلُ، الحيرةُ، كنت وقتذاك أبدو مثل طفلةٍ لا تجيدُ التصرفَ حتى أنني لم أقوَ على النظرِ في عينيك ـ النظرةُ الشغوفةُ ذاتُها، الباحثةُ وراء خجلِها عن عشرات الإجابات لأسئلة حائرة. ـ قلبي ينبضُ متسارعًا. ـ يلاحقُ نبضَ قلبي.. ـ آه لو لم يحدثْ ما حدث لكنّا معًا . ـ هنا نحن معاً الآن . ـ صحيح أننا معًا . . لكن بعد خمسين عاماً. ضاعت أحلى سنواتُ العمر، لم يتبقّ إلاّ القليل.. ـ خمسون سنة مرت مثل لمح البصر . ـ من يصدقْ أن نلتقيَ دون ترتيبٍ أو مواعيدَ، أتذكر عندما كنتُ أختلِقُ الأعذار لأميِّ كيْ تسمحَ لي بالخروج لأراك . - وكنت أكذبُ على الأصدقاء، أتهرّبُ منهم لأقابِلَك. ـ أعينُ الناس طاردتْنا كثيرًا . ـ وفضولهُم كان يبحث عنا دائمًا . ـ دعنا من الماضي . ـ لا نستطيع أن نتخلصَ منه هو الذي دفعَنا إلى الحاضر . ـ آه منك، ألا تتركُ عادتَك لتعليلِ كل الأمور؟ هبّت بينهما رياحٌ باردةٌ .. لاحظ أنها ارتعدت .. خلعَ سِترتَه الباهتة، قرّبها من كتفيها، يداه ترتعشان ، انتبهت لارتباكِه ، طفحَ فؤادُها بحنانٍ بالغٍ، كل ما فيها يذوبُ لتصرفِه المباغت، انتابها شعور طفلة، منذ سنوات لم يحضرها هذا الشعور، دنا منها، استقرت السترةُ على كتفيها، سرى في جسدها النحيلِ دفءٌ خفي تسرب إلى القلب ، تمنت لو أن يديه استقرّتا على كتفيها للأبد . داهمَها خجل غريب، شعرت كما لو أن العيونَ ترمقُهما بفضول، لاشكّ أنهم رأوا ما فعله معها، المارة كثيرون ،خَطتْ للخلف تاركةً مسافةً بينهما، سارقت النظر نحو العابرين، لا أحد ينظر إليهما، لا أحد . . لم يلتفتوا إليهما قط ، كانوا يمضُون من قربهما غير منتبهين لوجودهما، انتقل إليه خوفُها وخجلها، ركض في أعماقه طفل مذنب، تراجع إلى الخلف متواريًا عن الأعين ، صوّب نظراته حيثُ نظرت ،أدرك ما تعنيه؛ أمعن النظر في المارة، خُيّل إليه لأول وهْلةٍ أنهم يرمِقونَهما بفضول، سرعان ما تلاشت ظُنونه.. صحيح، لهم أعينٌ تحملقُ في كلّ الأشياء إلا هما. فلم ينتبه إليهما أحد، فهما بالنسبة إلى الآخرين مجردَ عجوزين مهمَلين ليس إلاّ. رجّع بصرَه، سحبت نظراتها. التقت أعينُهما بمساحات السنواتِ العابرة، انعكست سحابات متلألئةٌ تحت الرموشِ، انطلقت ضحكتان في آن واحد ، امتزجتا في قهقهةٍ متداخلةٍ، مدّت يداً معروقةً خشنةً مرتعشةً، تلقّفتْها يدُه بشراهةِ السنواتِ الغائبة.. اليدانِ عصفورتان مهاجرتان التقيتا، نامت يدُها بين أصابِعه، وثبَتْ في أعماقِها صبيّةٌ غضّةٌ تركُض بحبورٍ طاغٍ، قفز في أعماقه صبيّ مشاكسٌ، انطلق صوب الصبيّة يمازحها. #محمد_المسلاتيدراسة الكاتب: هيئة التحرير بتاريخ: السبت 23-01-2021 07:38 مساء الزوار: 221 التعليقات: 0
|
|