تأملات في ديوان «يا حياة، أتوق إليكِ... فتجيبني: أتوق إليك»
عرار:
ناظم ناصر القريشي في البداية، أن تحاول اكتشاف ما يمكن أن يتضمنه ديوان جديدة يحمل عنوانا شاسعا عبارة عن نداء واجابة ومابينهما يشبه أن تحفر عميقا في ذاكرتك عن كل الابداعات التي مرت بك وتتخيل ماذا سيكون وماهي الحياة التي يحتويها هذه الديوان. فالمسافة بين النداء والاجابة هي القصيدة وما يحتويهما هو موج الكلام.. سيمفونية الحياة، فالعنوان «يا حياة، أتوق إليكِ، فتجيبنى: أتوق إليكَ»، قد يعطيك الانطباع ذاته الذي وصفه، الديوان الصادر عن دار المتوسط للنشر – إيطاليا، الذي يحتوي على سبع وسبعين قصيدة تجاوز فيه الشاعر مفهوم الشعر بمعناه المعروف إلى شكل أكثر مرونة عبر سردية تعبيرية وسخاء نثري وشعرية كونية، فهو ليس رائعا فحسب لانحيازه للحياة بل لأنه يحتوي دوماً عناصر بسيطة ومتجانسة تشعرك بالحيرة لجمالها. قراءة موسيقية (علينا أن نقرأ ونستمع ونرى ونتأمل) فنقرأ شغف الشاعر فيما دونه من كلمات في مفتتح ديوانه قصيدة (قد نكون في تدافع ماشِين من دون أن تتلامس خطواتنا) فنجد أن الشاعر يتأمل بياض الورقة بياضا شاسعا كالولادة، ويدون عبر افكاره المتدفقة سيمفونية لا تروضها سوى متعة الكتابة، تبدأ مسافتها الزمنية بكلمة (مرةأخرى) وهذه الكلمة متوالية لما قبلها وتكرار لما بعدها مضارعه في حضورها تتوافق مع تواترها واتساقها وتنتهي هذه المسافة بكلمة (في تمتمات خفية) هذه السيمفونية بثلاث لوحات، وسنجد تلميحات هنا وهناك بقصد الإيحاء نثرها الشاعر تساعد على التوزيع الموسيقي للقصيدة. اللوحة الأولى ماقبل التكوين والإيحاء بفكرة قد يكون مجال الشعر والموسيقى هنا واسع لا للاحتواء فحسب بل للبحث والاكتشاف في بدء البدء، فيبدأ بهذه العبارة (مرة أخرى، تَطلب مني الظهور من دون هيئة) اي الحضور في الكلمات دون شروط واشتراطات وهذا يحيلنا الى الانطباعية في فن التشكيل الذي يحضر الرسام بذاته وليس كريشة ثم ينتقل الى العبارة التالية: (ليستْ في يدي خريطة، ولم أضعْ رسمًا لخطواتي)، ثم يوضح ما يمتلك (فقط هذا النَّفَس. هذه الرغبة في القول التي تسبقني فأجدني أستقبلها من دون معرفة مسبقة). ثم تنتهي هذه اللوحة بهذا المقطع: (باب يصطفق على عابرِيه من دون أن يُحسنوا حساب الوقت الداهم أو المنقضي... ألهذا تبدو ساعة الحائط رتيبة في رنينها فيما يبلع الشارب ريقه أمام ما يعبر أمام عينيه الخافتتَين؟). نلاحظ عبر المسافة الزمنية للقصيدة ظهور كلمات او مقاطع صوتية مثل باب يصطفق او ساعة الحائط رتيبة في رنينها وهذا ما يعادل انخفاض وارتفاع النغمات في النوته الموسيقية في تناظر وانسجام مع الكلمات وفي سلمها الكثير من النغمات التي تحاول الوصول الى الذروة وتجسم ذاتهافوق ورقة القصيدة وكان العالم كله من حولها يراقبها وكما قلنا في مقال سابق ان الشعر هو الحالة الأيونية للكلمات وعلينا ان نتخيل ماذا بعد ذلك اللوحة الثانية ليبدأ بعدها مقطع صغير يهيئنا الى اللوحة الثانية والتي تعبر عن الامساك بالفكرة ولغتها التكوينية، فتمرير الفكرة عبر ديناميكية الكلمات وحركتها المستمرة وضخامة العمل الشعري الاوركسترالي للامساك بالانفعالات وتحويلها الى موجات متدفقة تنبض بالموسيقى عبر احتمالات عديدة تقدمها تلك الموجات في التعبيرعن الأفكار والاكتشافات التي تتلوها، مع التأكيد على العلاقة التفاعلية بين جماليات الصورة والموسيقى: فوق طاولة، تتداول الورقةَ أكثر من يد، من دون أن تعرف جملة السابقِ فوقها من جملة الوافد إليها. يتناوبون عليها. يسجِّلون وحسب مرورهم العابر. فيما تخطفُها منهم بيدك الخفية، ورقةً تلو ورقة، وتُبقي غيرها لمن يظن أنه وصل إليها بعد طول سفر. لتنتهي هذه اللوحة بهذه العبارة: فهي ليست طريدة وأنتَ لست قنَّاصًا ما دام أن بينكما ما يشمُّه الحبيب في الحبيبة، والحبيبة في الحبيب، قبل أن ينعطف الخصر إلى الخصر وتلتقي الشفتان بأوسع مما تسعان اللوحة الثالثة التكوين الانتهاء ثم البحث من جديد لتكتمل دورة الحياة في يقين حضورها في القصيدة وتكتمل القصيدة في يقين الحياة وحضورها والتعبير عنها بقوة الشعر القادر على التعبير عن جوهر الإنسانية الخالص فتبدأ: - أأنتَ تكتب أم تحبُّ؟ أأنتَ تكتب إذ تحبُّ أم تحبُّ إذ تكتب ؟ = ألي أن أجيب أو أشرح أو أبرر ما أعيش، وأن أفصل لساني عن أصابعي، ودفقَ دمي عما ينشب في غفلة الحروف عن قوامها؟ - ها أنتَ تداور من جديد وتتخفى خلف بريق ألفاظ تنتهي: فتتقدم شفاهي لتلاقي شفاهها وأصابعي لتوافي أصابعها مثل واحد في اثنين. فتتنصتُ عصافير فوق أغصانها وتحلو حبات ليمون في بريقها المتراقص. فلا يسع الفضاء غير أن يلفَّهما في عرائهما الأبيض مثل ستارة عرس. ستارة ما يكشف رمحًا لعنفوانها وقبضةًلعزمهما الرقيق وقبلةً لما يتصاعد في تمتمات خفية. أكيد أن هناك مستوى من الشعور لا تدركه الكلمات، لكن إذا حولنا هذا الكلمات الى موسيقى فإنها تتكلم في بعد آخرفسنرى الشعر بكل جماله،الشعر الحقيقي الذي لا يزنه أي شيء، هذا ما يبتكره موج الكلام في الموسيقى وماتتعاكس به الافكار. قراءة افتراضية عنوان هذه القصيدة يحيلنا الى العالم الافتراضي وأكوانه المتوازية الذي يقترب منه الشاعر كثيرا ،فسنجدورقة القصيدة عبارة عن جدار وهذا الجدار يتحول الى شاشة والشاشة تتحول الى ورقة تدور وهذا ما نتداوله في عالمنا الحاضر في حياتنا والذي تقاسمنها مع العالم الافتراضي باستخدام الحاسوب والهاتف المحمول وحتى طريقة الكتابة تغيرت كثيرا فنحن نضغط على ازرار او نلمسها لكي نكتب ، وعندما نكتب نكون قد انتقلنا الى العالم الافتراضي فنحن امام الشاشة وداخلها في نفس الوقت ورقة تدور فيقرها الكثير لذا(قد نكون في تدافع ماشِين من دون أن تتلامس خطواتنا) و لا نستغرب دهشة الشاعر حينما يتسأل عن منطق اللغة الرقمية في العالم الافتراضي: =أهذا جدار أم شاشة؟ - لعله جدار لشاشة. =لا، هو ورقة تدور... - لعلي ورقة تدور. ويقول ايضا: هذا يأكل وهو يعاين هاتفَه، ويشرب وهو يعاين هاتفَه، ويمسح فمه بهاتفه من دون أن يفترق عن ملاحظته، فقد تصلُه رسالة صاعقة من قارىءٍ أكيدٍ يقرأ ما يكتب البحث عن الزمن المفقود «النزول» إلى بيروت وفي قصيدة «النزول» إلى بيروت نجد أن الشاعر شربل كما مارسيل بروست يبحث عن زمنه المفقود في استرجاعات عديدة يحاول الشاعر أن يستدرك ما فاته والقبض على سر الزمن والتعبير عن قلقه الوجودي، فهو يضعنا امام زمنين الواحد بموازاة الأخر، ففي الوقت الذي يظهر فيه الماضي حاضراً امامنا في القصيدة يبدو وكأنه ليس من هنا كأنه ينتمي إلى مكان وزمن آخرين يستحيل الولوج من جديد لان حضوره يشكل علامة غيابه رغم أنه يظهر مرئياً بكلمات الشاعر على اعتبار انه شكلاً من الأشكال التي ترويها النفس، لكن في اللحظة التي يندمج فيها الزمننا ليصبح هذا النداء (يا حياة، أتوق إليكِ... فتجيبني: أتوق إليك) الزمن المطلق في القصيدة الذي يتحقق في هذا الديوان الذي لدينا و في هذه القصيدة بالذات وربما ضاهى بها الشاعر صورة الفنان في شبابه لجيمس جويس لتصبح صورة الشاعر في شبابه: «نزولُ ما تخفُّ حمولته في السَّير/ ما يتصاعد في أنفاس حلم/ ما تتحرَّى عنه القصيدة، فلا تجده... إذ ما استبقى النزولُ/ غيرَ ما نثرَه في قصيدة مفتوحة. هكذا لا أتوانى عن النزول. من دون أن أتقدم. أتمشى فقط. من دون أن أتراجع... أصعد إلى عالي العمارة، وأصيح: يا حياة، أتوق إليك/ فتجيبني: أتوق إليك. التجربة الشعرية واقتفاء ملامح القصيدة لدى الشاعر شربل داغر عندما دون يوهان شتراوس سيمفونية (الدانوب الازرق) ولظروف معروفها جعل منها موسيقى للحياة وتحاكيها، والناظر الى تجربة الشاعر شربل داغر خلال ديوانه (يا حياة، أتوق إليكِ... فتجيبني: أتوق إليك) سيجد أن الشاعر يكتب للحياة أيضا والفرق في أن تكتب للحياة او تكتب عنها هو أنك جميل جوهريا، والشاعر شربل داغر هو كذلك، لذا نجد الجمال ينبع من خلال كتاباته وحتى يجعلها تليقُ بالحياة، عزف لحناً أنغامه جلية وغامضة في آن تنبعث منه جاذبيّة ساحرة، تؤكد خلاله الكلمات حضورها الرقيق بفضل حيويتها وسعة خيال الشاعر الذي يمنحنا الفرصة الى ان نتسلل الى الحلم الى خلف الكلمات الى أصل الاشياء يرافقنا نهر من اللون الاخضر، الذي ينفتح على ما تبقى من برأتنا الأولى، والشاعر جعلنا نتساءل كيف نصل الى الشعر المطلق المستغرق دائما في كمال ذاته وإذا كان وصفه بعيدًا عن فعل الروح التي نأسرها في الكلمات و التي تدرك أن ما نعتقده نهائي هو بحد ذاته ابتدأ للغة شعرية بالغة الحضور والتأثير مفتوحة على الحياة و احتمالات المرور من الشعر الى الموسيقى إلى الواقع.