|
عرار:
سعيد يعقوب تتجلى المنزلة الحقيقة لأي كتاب من الكتب، بالقيمة المضافة إلى المعرفة الإنسانية التي يتضمنها هذا الكتاب، وإذا كان هذا المعيار هو المعيار الذي تتفاضل به الكتب عن بعضها وتتمايز، فإن كتاب جوانب منسيَّة من الحضارة الأندلسية، للأستاذ الدكتور صلاح جرار، جاء محققا لهذا المعيار، وموفيا بهذا الشرط، فمن بين الآلاف المؤلفة من الكتب التي تدفع بها المطابع في كل عام، يقلّ أن تجد بينها كتابا ينطوي على تلك القيمة المضافة، وإن صحّ في تعريف الإبداع هو الإتيان بجديد على غير مثال سابق، تتأكد لنا حقيقة ما ذهبنا إليه، وهذا يكثر في الكتابة الإبداعية الأدبية نثرا وشعرا، فماذا عن الكتابة البحثية؟! إنها ولا شك ستكون أكثر ندرة وأشد فقرا، إذ إننا نجد في كتابة الباحثين، اتكالا واضحا على جهود السابقين لهم، ولا نريد أن نقول إنها تجميع وحشد لما تعب به مَن سبقهم، وقد وفَّرت لهم وسائل التقنية الحديثة، عن طريق النسخ واللصق، مجالا كبيرا لذلك، فهم يصلون لما يريدون دون عناء يذكر، بالسطو غير المسلح على جهود الآخرين، مع ترتيب جديد وتغيير طفيف في المادة المأخوذة من هنا أوهناك، وللأسف يكثر ذلك بين طلبة الجامعات في بحوثهم أو رسائلهم الجامعية الساذجة، التي لا تقول شيئا، فإن قالت فهو مكرور معاد، في أحسن أحواله، في غفلة شديدة من المشرفين عليهم أو بتكاسل وتراخ واضحين من أساتذتهم، للأسف الشديد. ولكن ما الذي يدفعني لمثل هذا القول وما مناسبة الحديث عنه هنا وأنا أعالج بهذه المقالة الحديث عن أحد أهم الكتب التي وقع بين يديّ مؤخرا، ممهورا بتوقيع ومتشحا بإهداء مؤلفه الأستاذ الدكتور صلاح جرار، إن ما يدفعني للإشارة إلى ما أشرت إليه، هو أنني بعد قراءة هذا الكتاب النفيس الذي يتضمن تلك القيمة المضافة التي أشرت إليها آنفا، وجدتني أقف موقف المقايس والمقارن، بين تلك الكتب التي لا تقول شيئا، وبين أمثال هذا الكتاب الثمين الذي بذل فيه الكاتب جهدا مضنيا شاقا، ليضيء جوانب خافية ومنسيَّة، من الحضارة الأندلسيَّة، التي اعتدنا أن نقرأ فيها عن الطب والهندسة والفلك والفلسفة والفلاحة والعمارة، والناس على اختلاف ثقافاتهم، يلمُّون بشيء أو أشياء، كثيرة أو قليلة من تلك المجالات السابقة، ولكن يندر جدا أن نجد أحدا من هؤلاء المثقفين، قد اطلع بشيء من التوسع، على تلك الجوانب الغائبة، من هذه الحضارة العظيمة، حضارة العرب في الأندلس، لم يكتفِ الباحث بالرجوع إلى ما يزيد عن مئة وستين مرجعا ومصدرا، من المراجع والمصادر العربية والأجنبية، من أبرزها كتاب آخر أيام غرناطة، وكتاب الإحاطة في أخبار غرناطة، البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، والذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، وتاريخ علماء الأندلس، وغيرها ممّا لا مجال لذكره هنا، ولم يترك المؤلف الكتاب دون ذكر الحواشي والتعليقات، على ما ورد في الكتاب، وقد زادت عن الأربعمائة عددا، للتسهيل على القارئ والباحث، في الرجوع للمراجع والمظان الكثيرة، التي حفل بها الكتاب، وذلك بذكر اسم الكتاب ورقم الصفحة، وإنما كانت سِمَة العالِم الباحث الثَّبَت، هي السِّمة المسيطرة عليه، على امتداد صفحات الكتاب جميعها، فهو لا يكتفي بذكر المعلومة، وإنما يشبعها بحثا ودراسة وتحليلا ومناقشة، واستنتاجا واستنباطا ومقايسة ومقارنة، ويلتفت إلى الإشارات الخفية بين السطور، واللمحات الخاطفة، والإشارات الدقيقة في ثنايا المتون، ويبني عليها ويثريها ما وسعه الجهد. ويذكر الدكتور جرار في مقدمة كتابه أسماء الكتب والباحثين الذين كتبوا في الحضارة الأندلسية، ولكنه يلفت إلى الجِّدَّة والإبداع والتميز، الذي ينطوي عليه كتابه، حين يقول : «أما هذا الكتاب فيهدف إلى تسليط الضوء على جوانبَ خفيَّة، أو مَنْسيَّة، من الحضارة الأندلسية، لم يعرِض لها الباحثون، إلا عرَضا أو لم يلتفتوا إليها، وهي ممَّا ورد متفرقا، في المصادر التاريخية والأدبية، وكان له صدى باهت، أو واضح أحيانا، في ما وصل إلينا من النصوص الأدبيّة...» وحين ينبري أكاديمي معروف ومتخصِّص متعمِّق كالدكتور صلاح جرار عُرف بولعه الشديد بالحضارة الأندلسية، والكتابة عنها، حتى كوفئ مؤخرا على جهوده في هذا الصدد بوسام ملك إسبانيا برتبة قائد، تقديرا وعرفانا بهذه الجهود، وأصدر عددا من الكتب في هذا الباب منها : دراسات جديدة في الشعر الأندلسي، مدينة مالقة أردن الأندلس ، زمان الوصل دراسات في التمازج الحضاري والتفاعل الثقافي في الأندلس، صلاة في أروقة الزهراء قراءة في المشهد الحضاري الأندلسي في القرن الرابع الهجري، وغيرها كثير، فإننا نطمئن كل الطمأنينة، ونثق بما نقرأ كل الثقة، وننصت إليه، وهو يتلو علينا الأخبار العجيبة ، والأنباء الطريفة، والمواقف الغريبة، والحكايا المدهشة، التي تصوِّر أحوال أهل الأندلس، وحضارتهم الراقية، التي كان من الممكن أن يغيب عنا كثير من جوانبها، لولا حديث الدكتور صلاح جرار عنها، في هذا السِّفْر المهم، وقد جاء كتاب الدكتور صلاح جرار في مئة وأربع وسبعين صفحة، من القطع المتوسط، وقد صدر عن دائرة الثقافة والسياحة في دولة الإمارات العربية المتحدة /أبو ظبي /دار الكتب عام 2019 وتناول فيه المباحث التالية : استعمال العربات والأندلسيون، ومصارعة الثيران، الأندلسيون وخيال الظِّل، قبة عباس ابن فرناس الفلكية، الرقص على الحبال في الأندلس، الزرزور الناطق، استخدام المدافع والبارود في الأندلس، شخصية المرأة الأندلسية الشاعرة في السياق الحضاري الأندلسي، كريمة المروزية شيخة علماء الأندلس، وغيرها، وفي كل مبحث من هذه المباحث، يتحدث الدكتور صلاح جرار عن جانب مهم كان غائبا، وخافيا عنا في الحضارة الأندلسية، مشيرا إلى أن لأهل الأندلس كان فضل السبق في هذا المجال، أو ذاك، وحسبنا هنا أن نعرِض لمبحث واحد من هذه المباحث، لندلِّل من خلاله على يقية المباحث الأخرى : من أمتع فصول هذا الكتاب، وكل فصوله ممتع ومدهش، هو الفصل الذي يتحدث فيه الدكتور جرار عن قبة عباس بن فرناس الفلكية، فابن فرناس « ت 274» اشتهر عند الناس بأنه صاحب محاولة الطيران المعروفة، ولكنه في الحقيقة كان فيلسوفا وشاعرا وموسيقيا ونحْويا وعروضيا، ومنجِّما ومحقِّقا لكثير من الاختراعات، منها الميقاتة وهي آلة لمعرفة الأوقات، ومن عجائب هذا الرجل صناعته القبة الفلكية، التي اشتملت على النجوم والغيوم والبروق والرعود، وهي قبة واسعة وكبيرة تسمح للمتفرجين أن يجلسوا تحتها، ويراقبوا ما تشتمل عليه من ظواهر فلكية، مما يعني أن ابن فرناس استخدم تقنية خاصة لتشغيلها، بحيث يجعلها تصدر أصواتا كالرعد وأضواء كالبرق ولمعانا، وحركات كلمعان النجوم وحركاتها، وبخارا أو أشكالا تشبه الغيوم...» إن مثل هذا الخبر العجيب، وغيره من أمثاله، يصور لنا جانبا من الجوانب الخفيّة والمنسيّة من الحضارة الأندلسية التي كانت غائبة عنَّا، وقد وفِّق الدكتور جرار بجلائها وتسليط الضوء عليها، لقد كتب المؤلف كتابه، آملا أن تكون دراسته هذه ملهمة لدراسات أخرى تتبعها، في البحث والتنقيب عن أمثال هذه الجوانب، التي تزخر بها الحضارة الأندلسية، التي لا زلنا نشعر بظمأ شديد لمعرفة الكثير منها وهي إلى جانب ذلك دعوة رقيقة منّي، للباحثين والمهتمين والمثقفين عموما، للاطلاع على الكتاب والإفادة من معينه العذب. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الأربعاء 01-07-2020 10:01 صباحا
الزوار: 755 التعليقات: 0
|