|
عرار: د.محمد القضاة - تجربة الشاعر راضي صدوق تجربة غنية، تقوم على حب القراءة من منابعها الأصلية، فقد قرأ صدوق كتبَ الجاحظ وأبي حيان التوحيدي و»كليلة ودمنة»، وبدأ من المنابع العربية الأصيلة حيث قرأ الشعر العربي الأصيل، وأحب العربية -هذا الحب ربطه بالتراث وأوابد الكتب القديمة- وأتقنها إتقانا كاملا انعكس في بنائه، وعاش في ثنايا التراث، وقرأه قراءة عميقة مما أبعده عن السقوط في تيارات الحداثة الوافدة. أبعاد التجربة الانسانية راضي صدوق أديب وشاعر، ولد في طولكرم وعاش في بلاد الاغتراب، دخل عوالم فكرية وثقافية متنوعة، وترك بصماته في مهنة الصحافة والثقافة والأدب، وحرك في أشعاره ضمير القارئ، ووضع حروفه في خدمة الإنسان، خصوصا القضية الفلسطينية بكل معطياتها وتجلياتها وظروفها، وأورثنا العديد من المؤلفات الأدبية؛ النقدية والشعرية والنثرية منذ مطلع الستينات حتى وفاته. رحل صدوق مع الشعر، هي رحلة الوجد والفراق والتيه والحزن والبحث عن الحياة، رحلة مليئة بالأشواك والأشواق، رحلة أشرقت في مجموعاته منذ «كان لي قلب» و»ثائر بلا هوية» و»النار والطين» و»بقايا قصة الإنسان» و»أمطار الحزن والدم» و»الحزن أخضر دائما»، ولم تتوقف الرحلة عند إبداعه الشعري؛ وإنما امتدت إلى مؤلفات ومصنّفات منها: «هوامش في الفكر والأدب والحياة»، و»نظرات في الأدب السعودي الحديث»، و»ديوان الشعر العربي في القرن العشرين»، وديوان «رياح السنين»، مما يؤكد عمق تجربته الشعرية والإنسانية والفكرية. كان صدوق مثقفا واعيا يفهم معانيه ويعيها ويعبّر عنها، وتمثل مشاركاته ونتاجاته ومطارحاته قدرته على قراءة الواقع قراءة جادة وعميقة، فضلا عن دماثته وحسن أخلاقه وتسامحه وعواطفه، وهو لم يتغير رغم رياح التغيير التي أتت على كل شيء، ولم تأخذ الدنيا منه حيويته ووفاءه وصفاء أيامه؛ لأنه كان جادا ومخلصا لذاته ونفسه وأقرانه. يطول الحديث عنه وعن إبداعاته ونقده وسرعة بديهته، وعن شعره ونثره ونقده وقراءاته، وعن ملكاته التي لا تجدها عند غيره، كان يتقن درسه ولا يقحم نفسه في ما لا يعنيه، امتلك سمات الأديب الحق، وحين عرفناه في منتصف الثمانينات كان المثقف الملتزم المسكون بروح التمرد يجاهد ليفتح مسام الوعي الإنساني بلسانه العذب وبيانه الفصيح المفعم بالفضل والكياسة والإنسانية. الرحلة في شعر صدوق رحلة غنية ومفتوحة على الاتجاهات كافة، تقرأ فيها حكاياته وأسفاره وأشعاره في منعطفات كثيرة ملونة بإيقاعات دافقة تسري كالماء الزلال في العروق، تتنفس راهن الشاعر غربة وحرقة، تدور في إهاب شاعر رقيق رغم قسوة الحياة ومفارقاتها، وقد تراكمت فيها هوامش كثيرة لا تعد ولا تحصى، وحين يقرأ المرء أعماله الشعرية الكاملة يقف على وتر طويل من تجارب تمتد في أفق بعيد، وقد تتلمذت على نصوص ونماذج من الشعر العربي ونثره؛ قديمه وحديثه: «شاعرٌ أسقمه الوجدُ فتاها في دروبٍ لا يعي الوهمُ مداها إنه شاعرٌ حيران في خاطرهِ ألفُ ذكرى يملأُ الأنف شذاها». يطل في هذه البدايات على تفاصيل الحياة، وفيها اتخذ لنفسه مكانة في المشهد الأدبي؛ حيث تقرأ فيها النكبة بمناخاتها وأحزانها بصبره ودأبه وتواضعه، وقد اتسمت مواقفه بالحماسة والثورة على الظلم والاحتلال، وقد أشار إلى ذلك الكثير من النقاد، وعلى رأسهم عبد الرحيم الحايك الذي قال في حفل تكريم راضي صدوق في «الاثنينية» في دارة عبد المقصود خوجه: «تبارى الشعراء والأدباء في البكاء على فلسطين شعرا ونثرا، أما هو فنجد شعره في تلك الفترة يلهب الحماسة في النفوس ويبعث الأمل في الصدور ويميط سحابة اليأس عن العقول، وقد توقع قيام ثورة فلسطينية جديدة لرفع الظلم وإعادة الحق إلى نصابه». التصق صدوق بالحياة والناس، عاشرهم وحاورهم وسمعهم، علّمهم وعلموه، ومضى يحمل رؤيته بوعي وأنفة، وشارك في البناء الثقافي والفكري والإعلامي حتى عُدّ علما في وطننا العربي الكبير، وكان مدرسة بحق، لم يعرف الزخرفة في حياته الشعرية والكتابية، ولم يسقط في متون الحداثة؛ لأنه يؤمن أنّ الشعر هو ديوان العرب، وهو النوع الأدبي المميز في الأدب العربي، وقد حظي بعناية خاصة عبر الأجيال العربية المتلاحقة، ولذلك كان يرفض قصيدة النثر ومنجزاتها، ويتساءل عن انحسار القصيدة العربية بقالبها الموروث، يقول: «أشعرُ أنّ مدعي الحداثة يسيطرون الآن على المنابر الأدبية والثقافية والإعلامية، وهم لا يفسحون مساحة ولو بسيطة للشعر العربي الأصيل». ترك الشاعر بصماته في عالم الأدب من خلال مجموعته الشعرية الكاملة وموسوعة ديوان الشعر العربي الحديث، وجميعها تؤشر على أبعاد تجربته الإنسانية ومواقفه من الإنسان والزمن والمرأة والوطن ورؤيته التي تتجاوز الإبداع الشعري إلى النقد والاهتمام بالتراث، كل ذلك بعبقرية البساطة التي انماز فيها؛ إذ لم يتكلف في تطويع قصائده ومواقفه وقوالبه الشعرية، وانحاز إلى السلاسة والسهولة والصدق في تجربته الشعرية والأدبية. أبعاد الرؤية والمضمون - الموقف من المرأة: قراءة الأعمال الشعرية لصدوق بتجلياتها واتساعها وامتدادها عبر عقود عدة تؤكد مواقف كثيرة يعاينها المتلقي، من مثل موقفه من المرأة التي بدت حاضرة ومتداخلة في كثير من قصائده، حيث ربط صدوق بين المرأة والقصيدة، وهيأ لنا بذلك موقفه منها داخل تجربته الشعرية، فهي نموذج حياته وينبوعها في وعيه ولاوعيه، بها يبدع الشعر ويبلغ مداه، ولذلك قدم نماذج كثيرة لنساء حضرن وغبن في حياته، والمتلقي لا يستطيع أن يقبض على واحدة منهن، لأنّ المرأة في شعره -وإن أزهرت شعرا وغدت جزءا من عروق الحياة- لا تبدو واقعية؛ أي أنها ليست امرأة بعينها، بقدر ما هي مستويات من المواقف والقضايا والاحتمالات، فهل هي وطنه وأرضه وبلاده وأمه وحياته؟ أم هي من تهبه قول الشعر؟ أم هي حالة كتابية يعيشها لحظة ولادة القصيدة؟ حملت مجموعات صدوق إجابات واضحة عن هذه الأسئلة، وقد انبثقت من ذاته وعروقه، وأتاحت له الهروب من واقعه تارة، والهروب من وجده وسلاف أيامه تارة أخرى، وكانت المرأة حاضرة في شعره، كما حضرت في الشعر العربي منذ الجاهلية إلى اليوم، وقد شكل موقفه من المرأة بداياته الحقيقية في عالم الشعر، ومن لا يقرأ المرأة لا يقرأ شعرا، ومن لم يذق وجدها وسموها لم يذق معنى الحياة، ومن لم يقرأ كيف تذوب المرأة في شعره صورا وفراقا وشعاعا لا يعرف كيف تتحرك حروفه إلى علقم وكآبة: «عندما نفترق تتلاقى العيون ويسيل الشفق في مجاري السكون قد دعانا الفِراقْ هل نُلبي دُعاه ولذيذُ العناق أنُواري رُؤاه؟». علاقة الشاعر بالمرأة علاقة إنسانية، أساسها الوجدان النقي والتواصل الخلاّق بعيداً عن الابتذال، لأنها روحه وأنفاسه وذاته المتشظية، هي عالمه وأحلامه وطهره وكونه الفسيح ورباطه المقدس ولظى دموعه وظمأه في السنين الحالكة: «أحببتها لأنها إنسانة ندية كالزهرة الفينانَة! فقلبها الخفاقُ لا يحتوي من تلهبُ الأيامُ أحزانه طويتها في القلبِ أغرودةً غزيرةَ الإلهامِ مرنانة!». لقد شكلت المرأة مصدر رسائل صدوق وإلهامه وحنانه وعطائه، وهي إنسان وكائن يحمل كل القيم النبيلة، تمد الحياة بوهجها، وتمد الشاعر بتمرده على واقعه، ولا تختلف صورتها عنده عنها عند درويش مثلاً؛ إذ كانت عند درويش رمزا للوطن والانتماء والدفء والحنان والقداسة، غير أنها غالبا ما تأتي عند صدوق ضمن موضوعات متعددة في نص القصيدة، تأتي رمح الطريق ودربه الطويل وقلبه حين تظلم الدنيا وأرضه الحيرى: «يا حبيبي أظلم الليــلُ فـــذرني لا تسلني عن حياتــــي لا تسلني يا حبيبي ما زلنا على الأرض حيارى وهوانا لم يزل غضّاً كأحلام العذارى». المرأة عند صدوق أيضا فكرة ملهمة، يقطف من سحرها عبق شعره وثمار فنّه، فهي عالمه شأنها شأن كلّ إنسان يعيش وجودها بتناقضاته، إنها الضوء في الظلمة والحزن والدنيا والشراب، وحين تغيب يمضي إلى التراب إلى اللحد والحتم المجاب: «تقولين: من نحنُ بين البشرْ؟ ومن نحنُ في عالم يحتضرْ؟ شقيّانِ فوق بساط الحياةِ تُقلّبُنا زعزعات القدر! وتبكينَ، يا أختُ، لكن لماذا؟ أنقضي ضحيةَ هذا البكاءْ؟ ألسنا من الأرض، أم الوجودِ، وأنا سنمضي لتلك السماء؟ ألسنا من الشمسِ نوراً وناراً، ومن زفرات الحيارى هباء؟» (ص 76). إن قراءة مجموعته الشعرية الكاملة تكشف لنا كيف يتناوب الحوار بين الشاعر وابنة الحب، وهو حوار يشي بعالم يحتضر؛ عالم تائه ترحل منه ألحان الصباح وتعزف فيه قيثارة بؤس تمضي إلى المستحيل، وعلى الرغم مما يلاقيه الشاعر من صد وجفاء، إلا أنه لا يجد خلاصا من حبها وإن جر ذلك عليه العذاب والألم والسخرية، والرسائل الخمس تلتقط ذلك بألفاظها ومعزوفاتها ونبضاتها: «ألا يا ابنةَ الحب.. هيا معي وخلي البُـــــــكاءَ، ولا تجزعي» (ص 77). هذه المرأة الحاضرة الغائبة تهيمن على مشهد الشاعر؛ فالوداع يطفئ ضوء الحياة ويُغرق العيون بالدموع والأحزان، حتى الزمن يحار من مشهد الرحيل: «وقلتُ وداعــــــــاً فأطفأتِ من عالمي كلّ شمعة وفي مُقلتيّ بَدتْ ألفُ دمعَــــة ورحْتُ وحيداً.. على شفتي يطوفُ العَدَمْ وماضيّ ينَصبَّ في ناظريّ: لهيبــاً ودمْ وفي كبدي النارُ تغفو، وألفُ رُؤىً مفجِعَة فيا لقساوةِ تلكَ الرؤى ويا لمرارةِ هذا الألَمْ!» (ص 123). وهذه واحدةٌ من تجاربه يحتفظ فيها بوهج الوجد؛ وكأنه يستسلم لحتمية الفِراق: «وما كنتُ أدري بأن الخــــريـف وراءَ السنينْ تُطلُّ عليْنا أعاصيرُهُ مُروِّعـــةً كاحتدامِ المنونْ» (ص 124). وثمة عوالم يستمدها من مجاهيلها وكنهها؛ فهي سؤال لا ينقطع، وذكريات تعيد له وهج أيامه، وظلال صومعته وربيعه، وبريق حضوره: «أهواكِ مقبلةً في زَيّــــكِ الذَهَبي مزدانةً بعقــودِ اللؤلؤِ الخَضِبِ أهواكِ في صمتكِ العذّريِّ راهبةً أوتْ إلى الديرِ في أثوابها القُشُبِ مياسةَ القدِّ في صمتٍ وفي حَذَرِ تنسابُ روحُـكِ في أعماقِ مُضطربي» (ص 119). لقد شغل الموقف من المرأة حيزا مهما في شعر صدوق، حيث ملكت قوافيه وصوره وأخيلته، وشكلت فيض معانيه، وتجسدت في صور متباينة نظرا لطبيعة المواقف المتنافرة التي عاشها؛ ولذلك، تراه يعيش غربته الحقيقية في أثناء غيابها، وربيعه حين يتنفس رؤيتها، ويغالبه الشوق والأمل ألا يطول الغياب لكي يعود يختال في عالمه الفسيح، وتبقى المرأة في شعره ربة الشعر الذي يهرب إليه كلما حل طارئ، فهي كائنه الذي يهبه الدفئ والفرح والحزن؛ خصوصا أنها امرأة خارج الجسد، وكائن إنساني يجسد معاني الحياة كلها، هي الأم والأرض والحبيبة والحديقة والزوج والطفولة والبراءة، هي حضور إنساني بهي متفرد: «يظل الحزن مسحوبا على عينيكِ يا أماه يلوِّنُ جرحكِ الدامي.. بألوانٍ من المأساة يظل الحزن هذه الصخرة الشوهاء.. يفغر فاه ويخنق في ثراك السمحِ كلَّ جداول الأمواه» (ص 203). ثم يقول: «يا أنتِ، لو تدرين أيّ الدُّنى يتوقُ أن يرقى إليها الفؤُادْ وأي فجرٍ غامرٍ بالضياء أريُده يطلعُ خلـــف الرّمادْ» (ص 526). هكذا كانت المرأة مصدر صوره وأخيلته وملاذه وقوته ورحلته ورحيله، تدفعه إلى البحث عن كل جديد، تقدم له الأمان الذي ينشده في صدر أمه وفي وهج الحياة، وقد حاورها باضطراب وقلق حتى ارتوت حروفها بالاغتراب والاحتراق والأشواق. - الموقف من الوطن الوطن؛ المكان والأرض والإنسان، لم يغب عن عينيّ الشاعر وفكره لحظة واحدة، والحنين إلى الوطن علامة رقة القلب ورشده، لما فيه من دلائل الأصالة وتمام العقل. وقد بين الله تعالى في كتابه الكريم فضل الوطن وتعلق النفوس به في قوله تعالى: «..وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً» (النساء، الآية 66). وعرف العربي منذ العصر الجاهلي حب الوطن والحنين إليه، وحمل لنا الشعر العربي صوراً كثيرة من أشواق الشعراء وحنينهم إلى أوطانهم وأطلالهم ومرابع صباهم، ويندر أن تجد قصيدة عربية؛ خصوصا في العصر الجاهلي إلاّ وبها شيء من هذا الحنين إلى أطلال تلك الديار. يقول ابن الرومي: «ولي منزل آليت ألا أبيعـــه / وألاّ أرى غيري له الدهر مالكا عمرت به شرخ الشباب منعما / بصحبة قوم أصبحوا في ظلالكا فقد ألفته النفس حتى كأنه لها / جسد، إن غاب غودر هالكا». لا يعرف معنى الحنين إلى الوطن إلا من ذاق مرارة البعد وقسوة الاغتراب، وراضي صدوق عاش الغربة وتجرّع مراراتها، وفيها رصد تجاربه الاجتماعية وهمومه الوطنية وأحلامه الإنسانية، وقد حلت فيه وحل فيها، وكيف لا تحل في شاعر يعيش وطنه محنة الاحتلال والاغتصاب، والشاعر ذاته من ذاق معنى التهجير والاغتراب؛ ولذلك بقي هذا الوطن في ذاكرته بقاء الروح في الجسد، يحاصره حيثما حلّ وارتحل، وتتوحد مأساة الوطن مع مأساته، فالوطن والشاعر كانا في ماض من الزمن يتفجران سحرا ونضارة، بينما الواقع المعيش أنهما يعيشان حالة غريبة، فقد سقطا في امتحان الواقع المرير ومراراته وإحباطاته التي تحول بينه وبين تحقيق حلم الحرية والاستقلال؛ لكنه لا ينسى أصوات المعذبين وهمومهم؛ خصوصا في بقايا قصة الإنسان، حيث الرحلة الطويلة المجهولة في غياهب الزمن، باقاتها أزهار من الدم والغربة، وحصادها المنافي وطريقها المآسي: «وكنتُ على شفير النارِ أغنية ربيعية! دمي يبكي، ولحنُ الحبِّ في القيثار يسكب ضوءَ أغنيَة! كتبتُ على الرمال حكايتي بالماءِ هبَّ الريحُ جفَّ الماءُ قيلَ: حكايتي في التيه راحلةٌ وقيل حكايتي في الغيبِ مطوية! عيونُ الأمسِ ما انطفأتْ وأحداقُ الزهورِ نديةُ الأجفانْ وما زالَ العبيرُ يندُّ.. ما زالَ الصباحُ مورد الخدينْ! أنا وحدي الذي انطفأتْ رؤاه.. وذابَ في النسيانْ» (ص 211). وفي غمرة هذا الرحيل الطويل، تطل علينا أوجاعه وأسئلة المنفى والتيه في كثير من قصائد صدوق التي يعبّر فيها عن عصر النار والحنجرة الخرساء، وها هنا يسقط الشاعر الحدود بينه وبين الوطن؛ إذ يحل كل واحد منهما في الآخر، ويصبح الوطن منزله والمنزل وطنه، والوطن ينبض بالحياة؛ وكأن هذا الكائن المكاني ينبض بين يديه بأدق المشاعر وأرق الأحاسيس، والشاعر الذي يحس بمرارة الفقد والمنفى يشعر بغربة مزدوجة، فهو غريب بين الأوطان، وهو غريب بين مجايليه: «أنْ أكتب بالحبر على ورقٍ من لحم الشهداء أنْ أصرخ بالكلمة في الأرض الصماء من يسمعُ.. من يسمع؟ مات الشاعرُ والسمار والشعرُ بوار هذا عصرُ النار لا كلمة إلا المدفع لكن ماذا يملك منفيٌّ ملقىً في التيه بغيرِ سلاح لا يملك إلا حنجرة خرساء؟» (ص 227). لقد التزم صدوق الوطن في شعره، حيث يهيمن على حواسه ومشاعره، حتى نزفت عيونه الدمع والوجع والحرقة والانكسار والزفرات، وتتجلى شاعريته من خلال رصده للحظات الدافقة بين اللهفة والتوق والانقباض والبكاء والجراح، ثم الاستسلام حين وجد الفجر والأمل والكلمات البيضاء كلها كاذبة: «أبداً ترحلُ عبر الليل طال الليل يا منفياً بين الأهل شد القلبُ على الكلمات حذار تبوحْ حتى الكلمات انطفأت.. سقطت.. ضاعت بين عجاج الريحْ قلبي طوَّف.. هاجر.. عاد جريحْ حتى الفجر المشرق كاذب حتى الأمل المورق كاذب حتى الكلمات البيضاء رياء» (ص 244). وحين تقرأه، وتحوم في ثناياه، تسمع مواويله الحزينة الشفيفة، يعزفها من قلب النار إلى يسوع عند الشريعة، إلى إرم ذات العماد، حتى الرماد يورق أزهاراً، وحين تعصف الغربة في خبايا روحه، تعيش معه قصة الفلسطيني التائه وهو يقف على «الشريعة» في وداع وبكائية تتجاوز جسور الآفاق إلى رحلة المجهول، ولا ينسى -طال الزمن أو قصر- تلك العيون الحزيرانية التي غابت في ظلال النكسة والانكسار: «أنا وحدي على نهرٍ من الأحزان أنتظرُ قباب لم تزلْ خرساءَ.. لا كلمةْ شفاهي أطفأتها الريح.. لا بسمةْ سمعتُ صراخكم في الليل يطوي غربة الآفاقْ فضجَّ الشوقُ في صدري وقلتُ أُهدْهِدُ الأحزان والأشواقْ: - تُرى يأتون من خلف الليالي موكباً من نورْ؟ ترى يأتونْ؟» (ص 273). في هذا المنفى يكتشف صدوق أنه وحده من يمتلك الحزن والهموم، وأنه وحده من يجتر الإحباط، حتى إنه لم يعد يحس أنّ للحياة أي معنى، ويبقى الحنين يشتعل إلى الوطن والذكريات والصبا؛ ذكريات الأصحاب والخلان، غير أنّ ليل الغربة يتأجج عاصفا ببقايا الروح، يقتلع الحب وأيام الصفا إلى جدار الزمن حيث المدن المنسية في الظلام حزينة مقهورة موحشة، والبراكين من حوله تفوق البصر بحكايات الطين ولياليها الكئيبة بالسراب الذي ليس له غير السلام على الأرض، بساعات الفراق وأحزان الغريب وهو وحيدٌ يقف ينتظر أرض القداسات: «يا شاعري!.. أشعلتنا باللّظى أيقظت في الأعماقِ غافي الرجاء ذكَّرتنا القــدسَ، وأحزانـها.. وفتنــــة الباغين والأدعياء.. كأنها في صمتها.. طفلةٌ رغم التهاب الجرحِ، فوق البُكاء تنتظرُ الفجرَ على صهوةٍ من غضب النار وطهر الدماء» (ص 394). هكذا غنى صدوق الوطن وبكاه، وسكب فيه أروع مشاعره وأحاسيسه، ودفقاته كأنها تمطر من عروق قلمه حنينا وجراحا حتى تهرب منه الذاكرة إلى المكان الأثير، حيث فوانيس وأحاديث الزمان بألقها البهيّ، ومواويلها وأناشيدها، أناشيد الأهل والأحبّة، إلى طولكرم مدينته الجميلة البعيدة القريبة من القلب، وقد اشتد وجده بها أكثر حين سقطت في غياهب الجب في يد العدو الصهيوني: «السهل الساحلي ممتدٌ إلى أعماق اللانهاية.. والربوة الخضراء متكئةٌ على كتفي ذلك السهل هناك تنطلق ملائكة الأبدية.. ترفرف في سماء تلك الربوة الخضراء وتحوِّم بأجنحتها الهفهافة تحت قبابٍ زرق تمرح بها الشمس في وضح النهار.. حتى إذا جنَّ الليل، وأسدلت الظلمة أجفانها على الكون.. التمعت من وراء الظلمة نجومٌ منتشرةٌ هُنا .. وهناك كأنها مصابيحُ سحرية تنيرُ لأحلام الليل، الطريق إلى المجهول هذه هي المدينةُ الصامتة» (ص 474). هكذا كان راضي صدوق يعشق الكلمة والوطن والحياة، وقد توزعت أشعاره بين همومه ووطنه وإنسانه وخصوصياته، حتى كأنها خلاصات يتحرك فيها الشاعر إلى عتبة المستقبل، وحمل فيها بصماته وسماته الشعرية، وقد استدعى فيها لغة خاصة وشحنها بدلالات جديدة تتجاوز مستواها الحرفي القاموسي، ومستوى التقرير والمباشرة والتحليل والصور القريبة، وتسير سيراً طبيعياً لتنمو من داخلها كما ينمو النبات. وصبغ صدوق شعره بصبغة فكرية وشعورية واحدة، وقد تبلورت هذه السمة بشكل بارز في أعماله منذ مجموعته الأولى التي تتوالى فيها الأنغام الشعرية الواحدة تلو الأخرى حتى تصل إلى عالمه الواسع الذي ينعكس في صور الشاعر وتجاربه وقيمه؛ وكأني براضي صدوق هذا الشاعر الجاد الذي قضى حياته في الكتابة؛ كتابة القصيدة تلو الأخرى طلباً لتلك القصيدة العزيزة الوحيدة التي تشع في الذهن ولا تأتي. إن راضي صدوق صاحب تجربة شعرية واسعة ورصينة نابضة بالحيوية، ابتدع لها تجربة لغوية خاصة وشكلاً شعرياً خاصاً، خرج على التقليد ودعا إلى الإبداع والفكر الحر في كل ما كتب، وكانت رسالته احترام الإنسان والدفاع عنه ضد التعاسة والحرمان والفقر. إنه شاعر له صوته الذي تأمَّل فيه واقعه واسترجع صورة وطنه المسلوب في شعرنة عبر موضوعات تتكلم بنفسها عن نفسها ونصبح نحن في مواجهة مباشرة مع منطقه في الحياة والوطن والإنسان لكي نبقى نردد كل شيء في لا شيء: «لكَ منّي.. من فؤادي.. كلَّ شَيءْ / فاطْوِ لي ذكرى زماني أيَّ طَيْ أنأ قد أسْـــدَلْــتُ أَستاري على ظُلمةِ / الحزْنِ الذي أَخنى عَلَيْ ولقد طَوَّفْتُ في الدّنيـــــا.. وفي كلِّ / مجهولٍ.. وفي كلِّ قَصِيْ باحثاً عن أيِّ شيءٍ، إنِّما / لم أجدْ في كلِّ شيء أيَّ شيءْ!» (ص 583). الكاتب:
اسرة التحرير بتاريخ: الجمعة 16-12-2011 05:30 مساء
الزوار: 2599 التعليقات: 0
|