|
عرار:
أحمد البزور، أستاذ مساعد، جامعة الزّرقاء الخاصّة بعدَ قيامي بتدريسِ مادةِ تذوّقِ النَّصِّ الأدبيِّ فصولاً مُتتابعةً بجامعةِ الزَّرقاءِ الخاصّةِ، ارتأيتُ أن أكتبَ مقالاً مُختصرًا، رابطًا العلاقةَ بينَ الدّلالةِ الحسّيةِ بالمعنويّةِ، وكاشفًا صلةَ النَّصِّ الأدبيِّ بالتَّذوقِ والنَّقدِ، والخلاصة التي أَوَدُّ تأكيدها، أنَّ العلاقةَ بينَ التَّذوقِ والنَّقدِ الأدبيِّ قد أسفرت عن شكلِ تلازمٍ وارتباط. بدايةً، يجري استخدامُ كلمةِ ذَوْقٍ كَثيرًا، وعلى نطاقٍ واسعٍ في مُعظمِ الأنشطةِ والميادينِ الحياتيّةِ، من عملٍ، وتشاطٍ، ومُمارسةٍ، وتعاملٍ، وتفكيرٍ، واختيارٍ، حيثُ يدورُ في أحاديثِ عامّةِ أفرادِ المجتمعِ بأنَّ فلانًا صاحبُ ذوق، وفلانًا آخر عندهُ ذوق، وفلانًا كلّهُ ذوق، وفلانًا عديم ذوق، وغيرها من العبارات، مما يعني أنَّ هناك صفةً مُعيّنةً وملازمةً في الشَّخصِ، فإذا وُجدتْ صارَ ذا ذوقٍ، وعدمها ينفي عنهُ ذلك، وما إِعجابنا ونفورنا، وقبولنا ورفضنا في أمورِ حياتِنا إلَّا دليلٌ على أننا واقعونَ تحتَ تأثيرِ الذَّوقِ، وكثيرًا ما يُحرِّك الذَّوقُ دوافعنا الدّاخليّة، مُوجّهًا ومُحددًا، وإلَّا كيفَ نَتقبّلُ شيئًا ونرفضُ آخر؟! من هذا المُنطلق، فإنَّ الذّوقَ يُمثّلُ سلوكًا ثقافيًا، يدخلُ عبرَ مواضيعَ شتَّى من ميادين الحياةِ. ومما يوضِّح مدى سيطرة الذّوق، أنَّ لكلِّ شخصٍ ذوقهُ الخاص؛ في تفكيره، وتعبيره، وتعامله، واختياره، يمتازُ بهِ عن غيره من الآخرين. وإجمالاً، فإنَّ الذّوقَ سلوكٌ خاصٌ، ينتهجهُ الفردُ في حياتهِ، ويمتازُ به عن غيره، ويتحلّى به، ليمثّل انعكاسًا داخليًا، وإحساسًا نفسيًا، وشعورًا وجدانيًا. وعلى أساسِ ذلك، فإنَّ تربيةَ الذَّوقِ من أهمِّ ما تتجهُ إليه الشُّعوب المتحضّرة؛ فلم يعد النّظرُ إلى التَّذوقِ مجرّدَ نظرة إلى شيءٍ يدخلُ دائرةَ التّرفِ بكونهِ وسيلة تسلية للإنسانِ، وإنّما النّظرةُ إليه تؤكّد أنّهُ شيءٌ من مقوّمات وجوده(1). وأستدركُ هنا وأقولُ: بأنَّ حضارةَ الشُّعوبِ لا تُقاس بالتَّطورِ العلميّ والتّقني، بقدرِ ما تقاس بمدى تذوّق شعبها للأدبِ. كما تُعَدُّ تنميةُ التَّذوقِ الأدبيِّ هدفًا رئيسًا لدارسِ الأدبِ، وتتضحُ أهميةُ التّذوقِ بالنّسبةِ للقارئ؛ من حيث إنَّ تذوّقَ الأدبِ تستثيرُ عاطفته، وتجيّشُ انفعالاته، فيجعلهُ يتفاعلُ مع الجوِّ النَّفسيّ المسيطر في النّصِّ الأدبيّ؛ فيفرح لفرحِ الأديبِ، ويحزن لحزنه، ويتفاءلُ لتفاؤله، كما أنّ تذوّقَ النّصِّ الأدبيّ يُمكّنهُ أيضًا من الوقوفِ على ما في النّصِّ الأدبيِّ من أفكارٍ، وما يطرحهُ من قضايا، ومواضيع. عمومًا، لو تمعنّا جيّدًا في معاجمَ اللغةِ بحثًا عن مادةِ التَّذوقِ، لوجدنا أنّ الذَّوقَ مصدرٌ من الفعلِ ذاقَ، بمعنى أَحسَّ، وهو موضوعٌ خاصٌ لإدراكِ الطّعامِ والشّرابِ، والذّوقُ حاسّةٌ تميّز بها طعمَ الأشياءِ بواسطةِ الجهازِ الحسّي في الفمِّ، ومركزهُ اللسان، ويأتي بعد اختبار الطّعم وإدراكه، وذاقَ ما عند فلان، أي بمعنى خبرهُ، وتذوّقهُ، أي ذاقهُ شيئًا فشيئًا. استنتاجًا، ومما نلحظهُ، أنّ التّذوّقَ في أصله إحساسٌ وشعور، وأنّ زيادةَ التَّاء في التَّذوقِ، أكسبَ معنى جديدًا، وهو الاستمراريّة، وتذوّق الشّيء، أي بمعنى ذاقهُ مرّةً بعد مرّة. وثقافيًا، إذا ما رجعنا إلى المدوّناتِ الأدبيّةِ العربيّةِ، سنجدُ بأنّ فكرةَ الذَّوقِ فكرةٌ قديمةٌ، ترجعُ إلى بدايةِ التَّفكيرِ الأدبيِّ النَّقدي، مرتبطًا ارتباطًا عضويًا بالشِّعرِ، وقد حضرَ كمفهومٍ مركزي في النَّقدِ الأدبيِّ. من هنا، قد يتبادرُ إلى الذّهنِ سؤالٌ: لماذا حاسّة الذَّوق دون غيرها من الحواس، وما العلاقة التي تربط الدّلالة الحسيّة بالدِّلالة الفنّية؟ والجواب ببساطةٍ، أنّ اختيارها دون غيرها لما تحملهُ من معاني اللطف، والكياسة، والتّصرف اللبق المهذّب، الذي تستريح له النّفس، كما أنّ العلاقةَ قائمةٌ على الاتّصالِ المباشرِ، والإدراكِ، والاختبارِ، والقدرةِ على التّمييزِ. وفي المحصّلةِ، فإنَّ الذّوقَ حاسّةُ موجودةٌ في اللسانِ، والتي يتمُّ من خلالها التّعرف على الطَّعمِ وتمييزهُ، غير أنّ هذا اللفظ استُخدِمَ مجازًا، واستعير من المعنى اللغويّ الماديّ؛ للدّلالةِ على المعنى النَّفسي الأدبي والنّقدي، في القدرةِ على التّمييزِ بينَ الجميلِ والقبيحِ في الأشياء، والأشكال، والأفكار، والكلام، والأدب، والفنّ، والسّلوك، وقيل في مفهومِ الذّوقِ بوجهٍ عام: إنّه حاسّةٌ معنويّةٌ، يصدرُ عنها انبساط النّفس، أو انقباضها، لدى النَّظر في أَثرٍ من آثارِ العاطفةِ أو الفكر. وعلى أيّةِ حالٍ، فإنّ تعريفاتِ التَّذوقِ الأدبيّ تعددت عند الدّارسين والباحثين، تبعًا لتوجّهاتهم الفكريّة، ومن الصّعوبةِ بمكانٍ حصرها. وعلى كلٍّ، فإنَّ اختيارَ حاسةِ التّذوقِ عن غيرها من الحواس؛ «لترمز إلى نوعٍ من المعرفةِ التي يحصلها الإنسانُ بالاتّصالِ المباشرِ بالشّيء المعروف(2). أمّا التّذوقُ في الاصطلاحِ، فقد تباينت تعريفات النّقاد والباحثين له، وراجع إلى أمرين: - طبيعة الذّوق، وعدم قابليته للخضوعِ إلى قواعدَ معيّنة. - التّباين الواضح بين المدارسِ والمذاهبِ الأدبيّةِ في إدراكِ الإبداعِ الفنّي. وقد عرّف بعضُ المشتغلين في حقلِ الأدبِ الذّوقَ بأنّهُ إحساسُ القارئ، أو السّامع بما أحسّهُ الأديب، ناظمًا كان أو ناثرًا، وقد عرّفهُ بعضهم الآخر بقولهم: سلوك يعبّر به القارئ أو السّامع عن فهمه للفكرةِ التي يرمي إليها النَّصّ، وللخطّةِ التي رسمها للتّعبيرِ عن هذه اللحظةِ، ومشاركته في الحياةِ التي تجري فيه، وتأثره بالصّورِ البيانيّةِ والبلاغيّةِ التي يحتويها، وإحساسه بالوقع الموسيقي لألفاظه، وتراكيبه، وعرض عيوبه أو مزاياه. وإجمالاً، فإنَّ التّذوقَ في عُرف الأدباءِ والنّقاد: «تلك الملكةُ أو الموهبة التي يستطاع بها تقدير الأدب الإنساني، والمفاضلة بين شواهده ونصوصه، أو تلك الحاسّة الفنّية التي يهتدي بها من العمل الأدبيّ، وعرض عيوبه، أو مزاياه(3). وباختصارٍ، فإنّ التّذوقَ الأدبي ممارسةٌ ذهنيّةٌ ونقديّةٌ، يتطلّبُ ثقافةً، ومعرفةً، وسعةَ اطّلاع. الأدبيّ. نشيرُ إلى أنّ الأدبَ بحكمِ طبيعته موضوعٌ غير دقيق؛ بحيث لا يمكن إخضاعه كالأحكامِ العلميّةِ المطلقة، وكثيرًا ما تختلفُ أحكامُ القرّاء والنّقاد حوله. ومن المهمِّ أيضًا أن نشيرَ إلى حقيقتينِ: الحقيقة العلميّة والحقيقة الأدبيّة، فالحقيقة العلميّة موضوعيّة، وهي التي تصحُّ واقعيتها إذا صحّت فكرتها الذّهنيّة، مثبتةً بالمنطقِ والتّجربةِ الماديّةِ الملموسة، في حين، أنّ الحقيقة الأدبيّة ذاتيّة وفرديّة، ونضيف بأنّ النّصَّ الأدبي ليس كالمسألةِ الحسابيّة، بحيث إذا جمعنا الرّقم (1) إلى الرّقم (2) كان حاصلُ الجمعِ اثنين. وهذا تمامًا ما يؤكّد أنّ النّصَّ الأدبيّ نصٌّ حيويٌّ، ومتجددٌ، لا يقاس بمقياس الواقع(4). تبعًا لهذه الحقيقة، كثيرًا ما تختلف أذواق وأحكام القرّاء والنّقاد حولَ النّصِّ الأدبيّ الواحد. فالنصّ الأدبي بوصفه ظاهرةً عبرَ لُغويّة، هو ما أبدعتهُ مخيّلةُ الكاتب أو الأديب، في التّعبيرِ عن تجربته الشُّعوريّة بصورةٍ موحيّةٍ، ويتلقاهُ المتذوّق سماعًا أو قراءةً، والنّص الأدبي لا قيمة لوجوده دون متلقين متذوقين، ويعدُّ المتلقي أو المُسْتَقْبِل منتجًا وشريكًا للمبدعِ في النصِّ الأدبي لا مستهلكا؛ من خلالِ ما يُضفي عليه من خلفيته، ومعرفته، وثقافته، وإسقاطاته ما يجعل النصَّ يظهر في حُلّةٍ جديدةٍ، وباختلافِ خلفيّةِ المتلقين والمستقبلين الثّقافيّة والمعرفية والفكرية سيختلف طبعًا فهم النصِّ. ولعلّهُ من المفيدِ أيضًا أن أضيف، بأنّ النّصَّ الأدبي مفتوحٌ، يسمحُ بالتعدديّة، والتأويلات، والإضافات، وبوسعنا القول هنا: بأنّ النّصَّ بوصفه مدونةً كلاميّةً أو كتابيّة، يهدفُ إلى المتعةِ، وتوصيلِ المعرفةِ والخبرةِ عن طريقِ نقلِ التّجربةِ الشّعورية التي عايشها إلى المتلقين، على أنّ الجديرَ بالإشارةِ إليه هنا، أنّ النصَّ الأدبيّ شعرًا كان أو نثرًا، منطوقًا كان أو مكتوبًا يتكوّن من خصائص فنّية وجماليّة، من شأنها أن تدفعَ المتلقي لقراءته، وتأمّله، والميل له، وتذوّقه، وتتمثّلُ المكوّنات في الألفاظِ، والأفكارِ، والصُّورِ الفنّيةِ، والعاطفةِ، والخيالِ، والصّياغةِ اللغويّة والأسلوبيّة، والموسيقا. وخلاصة القول في كلّ ذلك، أنّ طبيعةَ النّصِّ الأدبي كما أشرنا تسمحُ بحريّةِ اختلافِ المتلقين في النّصِّ، من حيثُ القبول أو النّفور تبعًا لرغباتهم وتوجّاهاتهم المعرفيّة والثّقافيّة، وهذا الكلام يعني، إذا صحّ فهمنا له، أننا لو قدّمنا نصًا أدبيًا مكتوبًا لسبعةِ متلقين، وطلبنا منهم رأيهم وتعليقهم من حيث تحليله وتفسيره، سنجدُ سبعةَ آراء وتعليقات، وهذه الآراء والتّعليقات قد تتقارب مع ما قصدهُ صاحب النّص، وقد تفترق عما أرادهُ، فمتلقي النصّ الأدبي يتلقّى النّص ويفهم دلالاته على قدر استعداده. وعليه، وعلى الجملةِ، فإنَّ كثيرًا ما تختلفُ أذواقُ النّاسِ كما أشرنا، تبعًا للمسائلِ التي تشغلُ بالهم واهتماماتهم، تمامًا كاختلافِ أحكامِ القرّاء والنّقاد على النّصِّ الأدبيّ شعرًا كانَ أو نثرًا. ومن هذه النّاحيةِ، فإنّ المتلقي يُعدُّ طرفًا أساسيًا من أطرافِ منظومةِ الاتّصالِ الأدبيّ، ودورهُ لا يقلّ أهمية عن دورِ المبدعِ، بمعنى أنّه يسهمُ من خلالِ القراءةِ إعادة إنتاج النّصِّ الأدبي، بناءً على خبراته، وثقافته، ومعرفته، فكلّ قراءة من شأنها أن تخلق نصًا جديدًا، وإذن، فإنّ المتلقين المبدعين يتجاوزن حدودَ القراءةِ التّذوقيّة إلى آفاقِ المشاركةِ الفاعلةِ في إبداعِ النّصّ الأدبي. وبكلمةٍ، فإنّ التّذوقَ الأدبي يُعدُّ من الأهدافِ الأساسيّةِ لتدريسِ الأدبِ؛ فنحن عندما نصدرُ حكمًا على نصٍّ أدبي ما بالجمالِ والقبح يكون صادرًا أساسًا عن ذوق، وعلى هذا الأساس، فإنّ عمليّةَ التّذوقِ الأدبيّ عمليةٌ انطباعيّة أوّلية، تحتاجُ إلى عدّةِ قراءات، وهي تسبقُ العمليّةَ الكبرى التي تسمّى التّحليل والنّقد الأدبي، ولا نظنّ أننا نذهبُ بعيدًا إذا قلنا: بأنَّ النّقدَ الأدبيّ، هو القدرةُ على تذوّقِ أساليبِ النّصِّ الأدبي، والحكم عليها، على أنّ التّذوقَ المقصودَ والمرادَ قائمٌ كما أشرنا على أصالةِ الحاسّةِ الفنيةِ، والدّربةِ، والمرانِ، والتّثقيفِ. وتكمن أهمية التّذوق بالإضافة إلى ما سبق ذكره، في إدراكِ وإحساسِ الإنسانِ ما في الحياةِ والكونِ من جمالٍ، وتناسبٍ، وانسجام، كما يُعَدُّ التّذوقُ إلى جانب ذلك، أنّه الوجهُ المقابل للأدبِ، ليمثّل حلقةَ وصلٍ بينَ الأديبِ والقارئ. علاوة على ذلك، فإنّ أهميةَ التّذوقِ لدارسِ الأدبِ تتمثّلُ في محاولةِ فَهْمِ النَّصِّ الأدبيّ، وتحليله، واستنباط خصائصه الفنّية، والقدرة على الموازنةِ بينَ نصٍّ أدبي وآخر، وزيادةً في التّأكيدِ، أنّه من العبثِ محاولة تجريد القارئ وهو ينظرُ إلى النّصِّ الأدبي من ذوقه الخاص، وميوله النّفسيّة والشّعوريّة. وعلى كلٍّ، فإنّ التّذوقَ حاسّةٌ فنّية لا يمكن لدارسِ الأدبِ الاستغناء عنها؛ بوصفها مرحلةً تسبقُ النّقدَ في فَهْمِ النّصِّ الأدبيّ، وإدراك ما فيه من قيمٍ وخصائص، لتشكّل عنصرًا مهمًا وأساسيًا في النّقدِ من حيثُ تقويم النّصّ الأدبيّ من النّاحيةِ الفنّيةِ والجماليّةِ، وبيان قيمته الأسلوبيّة والموضوعيّة. وبالإجمالِ، فإنَّ التّذوقَ الأدبيّ يرتبطُ ارتباطًا عضويًا بالأدبِ، ويُعَدُّ الخطوةَ الأولى من خطواتِ الدّرسِ النّقديّ الأدبيّ، من حيثُ تقديرُ النّصِّ، وتمييزه، والحكم عليه، كما يشكّلُ التّذوقُ إحدى القضايا النّقديّة التي تتناولُ الجميلَ والقبيحَ في النّصِّ الأدبيّ اعتمادًا على المعاييرِ الجماليّة(5). ووظيفة النّقدِ الأدبي إلى جانب ما سبق ذكرهُ، تتلخّصُ في تحديدِ أسلوبِ النّصِّ الأدبيّ، وطرائق أدائه، ومن ثمّ تقويمه من النّاحيةِ الفنّيةِ، والموضوعيةِ، والتعبيريّةِ. ويمكن إجمال التّذوق الأدبيّ بالملكةِ أو الحاسةِ الفنّية التي يتمتّعُ بها أصحابُ الفطرةِ السّليمةِ التي تمكّن من تقديرِ الجمالِ والاستمتاع به، ثمّ إصدار الأحكام عليه. كما أنّه قدرةُ المتعلّمِ على تناولِ النّصّ الأدبيّ بالتّذوقِ، والتّحليلِ، تتمثّل من خلال إدراك نواحي الجمال، ودقّة المعاني، وفهم التّراكيب ودلالاتها، وتحديد قيمة الصّور البيانية، مع التّفطنِ إلى العبارات المبتكرة والأسلوب الجديد، والتّحليل الأسلوبي للنصِّ، ونقد عناصر التّجربة الشِّعريّة، والقدرة على إصدار الأحكام على النّصِّ. ومن الممكن أن نشيرَ إجرائيًا، أنّ تذوّقَ النّصِّ الأدبيّ يمرُّ من خلالِ أربع مراحل، هي: - مرحلة الملاحظة، من حيث معرفة قائل النّص، ونشأته، وثقافته، والعوامل المؤثّرة في تجربته، وأعماله، ونوع النّص، شعرًا كان أو نثرًا. - مرحلة القراءة الشّاملة أو التّصفحيّة، وتهدف جمع فكرة عامة عن النصِّ الأدبي، ويشمل إلى جانب ذلك عنوان النّص. - مرحلة القراءة التّأمليّة، من حيث تفكيك النّص إلى وحدات دلاليّة، أو قضايا، أو أفكار، أو صور، ويتمّ تلخيصها وتكثيفها في جمل مركّزة. - مرحلة تقدير النّص الأدبي؛ بإصدارِ حكمٍ على النّص، من خلال إبراز نقاط القوّة والضّعف في النّص. وعلى ضوءِ ما سبق، يبقى السّؤالُ قائمًا: هل بالإمكان إخضاع التّذوق الأدبي للمناهج العلميّة الموضوعيّة؟ وهل الذّوق يُعدُّ ميزانًا دقيقًا في الحكمِ على النّصِّ الأدبي؟ وبالمحصّلةِ، فإنّ الذّوقَ الذي نتحدّثُ عنه في الحكمِ على النّصِّ الأدبي ليس الذّوق الشّخصي الانطباعيّ، وإنّما هو الذّوقُ مرده أصالة الحاسّة الفنّية، والدّربة، والمران، والتثقيف. لهذا، من الخطأ الظّن، بأنّ شرحَ النّصِّ الأدبيّ هو التذوق، والحقيقة أنّ تذوقَ النّص خطوةٌ أعمق من الشّرح، فالشرح يسبقُ عملية التذوق. كما يظنُّ بعضُ الدّارسين أنّ التّذوقَ هو معالجة النّص من النّاحية البلاغيّة فحسب، والواقع أنّ المعالجة البلاغيّة للنصِّ جزءٌ مهم في التّذوق، على ألّا تكون المعالجة سطحيّة قديمة، مقتصرة فيها على إجراء الاستعارات، أو استخراج الجناس، والطّباق، وما أشبه ذلك، ومن ثمّ فالتّذوق يشتملُ معالجةَ النّص الأدبي بلاغيًا، ولُغويًا، ونحويًا، وصرفيًا، وأسلوبيًا، وموصوعيًّا، وموسيقيًا إذا ما كان شعرًا، ومنعًا لإساءةِ فهمِ النَّصِّ الأدبي، يحسن بي أيضًا أن أضيف، بأنّ التّذوق لأي نصٍّ لا يمكن حصره أو استقصاؤه، ومن ثمّ فإنّ دارسَ النصَّ المدروس يجب ألا يبحث عن جميع أوجه هذا التّذوق، بل عليه أن يكتفي بما يحويه النّص فقط، وألا يفتعل الجوانب الأخرى التي يخلو منها النّص. غير ما يحسنُ التّأكيد عليه هنا، بالإضافةِ إلى ما ذكر، أنّ على الدّارسِ عند معالجته النّص الأدبي أن يطلع على كلّ ما كتب عن النّصِّ، والإفادة من الآراءِ المختلفةِ فيه. وأخيرًا، نستطيعُ أن نقررَ في النّهايةِ وبكلمةٍ مختصرةٍ، بأنّ التَّذوقَ مقترنٌ بمادةِ الأدبِ، ومن أهمِّ مفاهيم النّقد الأدبي، وقد تحوّلت المفردةُ من كونها حاسةً ماديّةً ارتبطت بتذوّقِ الطّعامِ والشّرابِ إلى حاسّةٍ معنويّةٍ وفنيّةٍ نقدية، وفي رأيي، بأنّ استعارةَ مفردةِ الذّوقِ ونقلها من الدّلالةِ الحسيةِ الماديّةِ إلى الدّلالةِ المعنويةِ النقديةِ يستلزمُ توسيعَ المصطلحِ في حقلِ النّقدِ، ولو أردنا أن نجملَ لقلنا: إنّ النّقدَ الأدبي يتأسسُ على الذّوقِ، والتّذوق الأدبي بوصفه استراتيجيةً قرائيّةً، يُعدُّ منطلقًا أساسيًا ومهمًّا في النّقدِ الأدبيِّ. ////////// الإحالات (1) عبد اللطيف عبد القادر: فعاليّة استخدام مدخل الطّرائف الأدبيّة في تنمية مهارات التّذوق الأدبي، مجلة كلية التّربية، مج 12، ع 50، 2002، ص 260. (2) زكي نجيب محمود: في فلسفة النقد، دار الشّروق، ط2 - 1983، القاهرة، ص 25. (3) انظر، محمد علي أبو حمدة: في التذوق الجمالي، 1982، مكتبة الأقصى، عمان، ص5، وانظر، أصول في تدريس العربيّة: عبد الفتاح البجة، 1999، دار الفكر، عمان، ص 109 - 111. (4) انظر، محمد زكي العشماوي: قضايا النّقد الأدبي بين القديم والحديث، دار النهضة العربية، 1984، ص 13-14. (5) انظر، طه حسين، وآخرون: التّوجيه الأدبيّ، دار المعارف، القاهرة، 1981، ص 227. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 06-05-2022 10:17 مساء
الزوار: 646 التعليقات: 0
|