|
عرار: الرباط - عرار : في إطار الأنشطة الفكرية 'للمركز المغربي للثقافة والفنون العريقة'، ألقى الأديب والباحث المغربي الدكتور حسن أوريد مؤخرا (7 أكتوبر الماضي) محاضرة في موضوع: 'سؤال الحداثة في العالم العربي'، بقاعة المحاضرات والندوات بالمكتبة الوطنية في الرباط، دعا فيها إلى إعادة امتلاك التراث عوض إحداث قطيعة إبستمولوجية معه. وأكد أن التراث لا يوجد لذاته، وإنما يتحقق بالاكتساب، مشدداً على عدم استبعاد الرؤية النقدية لهذا التراث الذي يختزن جزءا مهما من مخيالنا، حسب تعبيره. كما أوضح أنه يجب أن يكون للنخبة الثقافية دور في التفاعل الإيجابي مع المواطن والتأثير عليه ثقافيا ووجدانيا. ومن جهة أخرى، ألح أوريد على أهمية المعطى الإسلامي في أي توجه حداثي، وقال بهذا الخصوص: 'لابد من أسلمة الحداثة وتحديث الإسلام'. في مستهل محاضرته التي حضرتها شخصيات ثقافية وأكاديمية عديدة، أشار الدكتور أوريد إلى أن مصطلح الحداثة لا نجد له أثرا في أدبيات العالم العربي، حيث نجد كلمات أخرى مثل التحديث والعصرنة، لكننا لا نجد الحداثة التي ظهرت كمسمى في سياق سقوط جدار برلين وهيمنة النموذج الغربي والليبرالية الجديدة، وهو ما بات يعني ـ حسب المحاضر ـ وجود حداثة واحدة هي الحداثة الغربية، مما يؤدي ضمنيا إلى تجاهل اتجاهات أخرى، أي أن الكلمة لها حمولة معينة، تجعل الحداثة الغربية بديلا عن المرجعيات الأخرى، وخاصة تلك التي تمتح من الإسلام، فالقوى الغربية كانت تخشى من ركوب التيارات الإسلامية على الديمقراطية، لكي تقضي عليها كما فعلت القوى الفاشية. واعتبر حسن أوريد أنه منذ قرنين، وتحديدا منذ حملة نابليون بونبارت على مصر، أصبحت الحداثة مطروحة في المنطقة العربية، لكن تحت مسمى النهضة والتقدم والتحديث والعصرنة. ولاحظ أن هدف التحديث اقترن منذ البداية بهدف إقامة الوحدة العربية، حيث اعتُبرت هذه الأخيرة شرطا سابقا على النهضة، فكانت مصر سباقة في هذا المجال في عهد محمد علي، إذ نهلت من معين الغرب لتصوغ بعض مكونات النهضة من خلال قوانين جديدة، وإحداث الصحف، وتبني اللغة العربية بدل التركية، فدخلت مصطلحات جديدة إلى اللغة العربية مثل الحرية التي لم يكن لها وجود من قبل، وأصبحت مصر مسرحا لتجريب التحديث بعد هزيمة بونبارت، لدرجة أصبح معها هناك تماثل معماري كبير بين القاهرة وباريس، كما نهل المصريون من التشريعات الفرنسية. من خيبة الوحدة إلى حلم القومية وتابع المحاضر قوله إنه بالموازاة مع محاولات التحديث هذه كانت لمحمد علي تجارب وحدوية، لكنها أجهضت منذ البداية، فانكفأت مصر على نفسها، ونهلت من علوم الغرب، لينتقل التوجه الوحدوي بعد ذلك إلى الشام كرد فعل على الإمبراطورية العثمانية، حيث ظهرت تيارات علمانية مثل حركة 'تركيا الفتاة'، وأخذت هذه الحركة تدعو إلى الانفصال عن الملل الأخرى، بمن فيهم العرب، ليتوجه الأعضاء العرب في هذه الحركة إلى جمعية 'الوحدة والترقي'، إلا أن الهيمنة التركية وتغليب الجانب العثماني فيها، دفع بالعرب إلى البحث عن القومية، فانعقد المؤتمر العربي في باريس، حيث اعتبر المشاركون فيه أن 'الباب العالي' أخل بالتزاماته تجاه العرب بعد سقوط عدد من المناطق تحت الاستعمار خاصة في ليبيا والكويت والعراق. وأشار الدكتور أوريد إلى أن خطاب الوحدة العربية شهد زخما بعد الحرب العالمية الأولى بدعم من بريطانيا ضد ألمانيا حليفة العثمانيين آنذاك، فاتصلت بشريف مكة ووعدته بمملكة عاصمتها دمشق منفصلة تماما عن العثمانيين، بشرط المشاركة في الحرب إلى جانب بريطانيا وضد ألمانيا وحلفائها. كان هذا ظاهر الأمر ـ يلاحظ أوريد ـ أما باطنه فكان هو رسم خارطة الشرق الأوسط وفق المصالح البريطانية وليس مصالح العرب، فتم التوقيع سنة 1916 على معاهدة سرية سميت 'سايكس بيكو' بين كل بريطانيا وفرنسا وروسيا وإيطاليا؛ لكن عقد الثورة البولشفية التي شهدتها روسيا أدى إلى فضح تلك المعاهدة وانسحابها منها. واستطرد المحاضر قائلا إنه بعد نهاية الحرب العالمية الأولى وتوقيع اتفاقية 'فرساي' واتفاقية 'سان ريمو' أصبحت المناطق العربية خاضعة للانتداب، فألحقت سورية بفرنسا، مع تخصيص وطن للمسيحيين الموارنة هو لبنان. ثم جاء وعد 'بلفور' لفائدة اليهود متضمنا التعهد بإقامة وطن لهم في فلسطين، على أن يسلم العراق والأردن لبريطانيا، وكان الشرط الأساسي لهذه الأخيرة، من أجل السماح بتأسيس دولة عربية، هو قبول دولة لليهود في المنطقة، وهو ما وافق عليه الأمير فيصل، ووقع في فرنسا التزاما بإقامة وطن لليهود، لكنه كتب بقلمه أن هذا الاتفاق لن يكون ساريا إلا بعد استقلال العرب استقلالا تاما والوفاء بالوعود التي تلقوها؛ فكان سياق ما بعد العشرينيات متسما بالنكبة، حيث بدأ تطبيق التوزيع الذي قام به الكبار، أي وطن للموارنة وآخر لليهود وآخر للعرب، وإسناد العرب للأمير فيصل. ورأى حسن أوريد أن واقع الخيبة والنكبة أفرز رد فعل فكري، من أجل القفز على مرارة الواقع والخيبات المتتالية. ومن الأسماء التي برزت حينها: أنطوان سعادة الذي كان ينظّر لسورية الكبرى بعدما عاد إليها من البرازيل، وراح يروج لفكر وحدوي، وأسس حزبا يدعو إلى توحيد سورية الكبرى، والمحدد عنده كان هو الجغرافيا وليس اللغة. وقال أوريد إن المثير في مشروع سعادة هو أنه كان يضيف قبرص إلى خارطة سورية الكبرى، وليس الجزيرة العربية أو مصر! كما أن فكره كان موجها بالدرجة الأولى ضد كتائب بيير الجميل الانفصالية والهادفة إلى تحقيق وحدة جبل لبنان كوطن للموارنة، فطلب هؤلاء من سورية تسليمهم أنطوان سعادة، وهو ما تم ليعدم رميا بالرصاص. وأردف الدكتور أوريد قائلا: غير بعيد عن سورية، ظهر إلى جانب الملك فيصل في العراق، ساطع الحصري الذي زاوج بين العمق الثقافي والعمل الميداني، وقد كان مستشارا للملك فيصل، وتولى مهمة الثقافة والتعليم في العراق، وكان ـ للإشارة ـ هو أول من صاغ مصطلح 'المغرب العربي'، وكان يستوحي من التجربة الوحدوية الألمانية، باعتبارها تحتاج إلى عناصر موضوعية، هي اللغة والثقافة والتاريخ، فنحت الحصري مصطلحا جديدا هو 'القومية'، باعتبار أنها ليست اختيارية، بل مثلها مثل الجنسية، لا يمكن للمرء أن يرفض انتماءه للقومية العربية، وإذا رفض فإما أنه جاهل أو غافل أو خائن، لكنه لم يكن يعتبر الدين أساسيا في القومية، بل كانت هي نفسها دينه. وذكر المحاضر أن ميشيل عفلق تجاوز ساطع الحصري، إذ بدأ من حيث انتهى، أي من اللغة والتاريخ والثقافة، لكنه أضاف إليها عنصر الإرادة، فبدونها لا يمكن أن تكون القومية فاعلة، إلا أن عفلق اشترط القيام بانقلاب، وكانت هذه أول مرة تستعمل فيها هذه الكلمة، لكنها لم تكن بالمعنى الحالي، وإنما بمعنى أعمق يشمل الجوانب الفكرية والسياسية والاجتماعية، لكنه اشترط أن يسبق هذا الانقلاب فكر، وتأسيس حزب يحقق أهداف الوحدة والحرية والاشتراكية، والحرية لم تكن بمعناها الحالي، بل كانت تعني حرية الدول تجاه الهيمنة الغربية. والاشتراكية كان لها أيضا معنى إنساني وليس ماركسيا. ولاحظ أوريد أن ما ميز عفلق هو اعتباره الإسلام نتاجا للحضارة العربية، وأنه يمكن أن يكون أداة للتحرير، وأن المشكلة في طريقة فهم الدين، لكن المهم ـ باعتقاد عفلق ـ يبقى هو الأمة وليس الدين. خطابات الوطنية والناصرية ومآلات التحالف ثم انتقل المحاضر إلى تحليل معطيات تاريخية وفكرية أخرى مستجدة، فقال: كان الجانب المهيمن في مصر هو الجانب الوطني فكرا وممارسة، وبعد انهيار العثمانيين تحول الذين كانوا يميلون إليهم إلى تنظيم 'الإخوان المسلمين'، إلى جانب القوى الوطنية التي لا تؤمن بشيء اسمه العالم العربي، وقدّم كل من طه حسين وعلي عبد الرازق الآليات النقدية لكسر كل ارتباط بالأمة الإسلامية والقومية العربية. وبعد الحرب العالمية الثانية، ظهر واقع جديد مازالت معالمه طاغية إلى الآن، وهو نتاج لحلف 'كِنسي' (اسم باخرة أقلت كلا من الرئيس الأمريكي آنذاك روزفلت والملك السعودي عبد العزيز) وبمقتضاه ضمنت السعودية تدفق إمدادات البترول إلى الولايات المتحدة الأمريكية وتعهدت هذه الأخيرة بضمان أمن السعوديين، فلم يعد الفاعل الأساسي هو بريطانيا، إذ كان العرب ينظرون إلى الولايات المتحدة الأمريكية على أنها مختلفة عن بريطانيا، وأنها مثالية، لكن سيتبين فيما بعد أنها تتبعت حذو النعل بالنعل، سياسة بريطانيا في المنطقة. هنا، يقول أوريد، برزت مبادرة الجيش المصري، بقيام الضباط الأحرار بـ'ثورة' على ما سموه نظاما بائدا. والمثير في تلك الثورة أنها استعملت نفس مصطلحات الثورة الفرنسية، من قبيل 'النظام البائد'، ليسلك أولئك الضباط الأحرار سياسة مترددة تجاه البعد العربي، إذ كان جمال عبد الناصر شارك في حرب 1948 ضد إسرائيل وإلى جانب جيوش عربية، مما ولد لديه شعورا بآصرة تجمع العرب، وراح موج القومية يحمل عبد الناصر، ليتخذ مواقف مؤيدة لقوى التحرر في الجزائر وفلسطين والأردن، مما أثار غضب فرنسا وبريطانيا وإسرائيل، ووقع العدوان الثلاثي، لتصبح مصر زعيمة للاتجاه القومي العربي. ورأى حسن أوريد أن الناصرية لم تكن نظرية، ولم تكن لها مرجعية فكرية في القومية، بل كانت مرتبطة بزعامة عبد الناصر، واتسمت بقدر كبير من البراغماتية، وأخذت الناصرية بعضا من مبادئ البعث، وأدمجتها داخل أولياتها وتوجهاتها، فأصبحت هذه الأولويات هي الحرية، بمعنى تحرير الشعوب ثم الاشتراكية ثم الوحدة. لذلك، لم يصمد البعد الوحدوي لدى مصر بعد هزيمة العرب في حرب 1967، وسرعان ما نحا الرئيس الراحل أنور السادات منحى آخر، وكانت حرب 1973 لدفع إسرائيل إلى طاولة المفاوضات، ولم يستثمر نصف النصر الذي تحقق، ودخل في خلاف مع القيادة العسكرية، ثم أقدم على زيارة القدس وتوقيع اتفاقية 'كامب ديفيد' مع إسرائيل. ولاحظ أوريد أن خروج مصر بهذه الطريقة أضعف الصف العربي، لكن الحلم الوحدوي انتقل من ضفاف النيل إلى ضفاف دجلة، حيث استلم حزب البعث الحكم بعد الملكية، على غرار ما تحقق له في سورية، وظهرت هناك قراءات نقدية للناصرية، باعتبار أنها لم تكن تملك وسائل سياستها، وأن الحلم القوي يحتاج إلى برامج تنموية تسنده، والتحكم في ثروات العرب، وجعل البترول عاملا من عوامل التنمية والتحرر، وهو ما حاول العراق فعله من خلال سياسة اقتصادية وتنموية كبيرة، في أفق تحقيق سوق عربية مشتركة، لكن ذلك تزامن مع وقوع الثورة الإيرانية، ذات المرجعية التي تقول باستحالة تحقق الزعامة الإيرانية على أساس القومية الفارسية، وتستثمر بالتالي في البعد الإسلامي من خلال تقارب السنة والشيعة. وواصل المحاضر تحليله للتنازع الإيراني والغربي حول العالم العربي، فقال: كان علي شريعتي، أحد منظري الثورة الإيرانية، شخصية فذة، ودعا إلى استعادة الدين واستثماره في التأثير على المجتمعات الإسلامية، وزاوج بين خلفيته الدينية وفكر عصره، وما كانت الثورة لتنجح لولا هذا التوليف. وكان الهدف الأساسي هو شيعة الخليج، فنشبت الحرب مع العراق، وكانت أفضل هدية لقادة طهران، لأنها حجبت التناقضات الداخلية، فوقع إنهاك العراق ورهن إمكاناته لتسديد ديونه الثقيلة. وبعد نهاية الحرب، حاول العراق التفاوض مع الأطراف العربية بعد التقارب الذي وقع بين التقدميين والمحافظين العرب، وعوّل العراق على هذا التقارب. لكنه جوبه بتصلب الأطراف العربية التي اعتقد أنه كان يدافع عنها ضد إيران. فاندلعت الحرب بعد اجتياحه للكويت، لترسم نهاية تلك الحرب معالم العالم العربي كما نعرفه اليوم. وتولت الولايات المتحدة الأمريكية رسم خريطة الشرق الأوسط، مع توزيع وعود بإقامة السلام، وهي الوعود التي لم تصمد طويلا، وما سمي بمسلسل السلام كان مجرد تمرين دبلوماسي للإسرائيليين. وأضاف قوله: تحوّلٌ أساسي في هذا المشهد وقع على أرض المغرب، يتمثل في تأسيس السوق المتوسطية في مؤتمر الدار البيضاء عام 1994 بإيعاز من الولايات المتحدة الأمريكية من أجل ضم أعداء الأمس في هذه السوق. إلا أن إسرائيل لم تكن جادة في السلام. وكتب توماس فريدمان عام 1995: إن الصهيونية الأولى اشتغلت على الإنسان اليهودي، وإن عليها الآن أن تشتغل على الإنسان العربي، من خلال إثارة عنصر الأقليات، وهي أساسا الأكراد والأقباط والأمازيغ، والعنصر الثاني الذي اشتغل عليه فريدمان هو عنصر الصحافة، والثالث هو المرأة. إلا أن النفاق لم يدم طويلا، حيث كان أمن إسرائيل أول مبادئ كلينتون، بالإضافة إلى ضمان تدفق البترول واحتواء كل من إيران والعراق، باستعمال كل منهما ضد الآخر، مع ضمان أمن الدول الحليفة. وكانت هذه السياسة وراء ظهور تيارات متطرفة وممارسات عنيفة، أكبرها عملية 11 سبتمبر، مما أفرز تصورا جديدا إزاء المنطقة، باعتبارها ثقافيا غير مؤهلة للديمقراطية، وأنها تحتاج إلى عملية جراحية، وانتهى الحديث عن العالم العربي، وبدأ التفكير في فرض الديمقراطية على العرب. الربيع العربي ثورة حقيقية كما خصص حسن أوريد جزءا من محاضرته لما أصبح يعرف بـ'الربيع العربي'، ملاحظا أن العالم العربي كان يعيش قبل هذا الحدث وضعية ما قبل الثورة، ولم يكن يحتاج المرء إلى نظر ثاقب لكي يشعر أن أشياء كثيرة لم تكن على ما يرام في كل أرجاء العالم العربي مع اختلافات، وأن العالم العربي قد أسلم أموره تماما إلى أصحاب قرار الرأسمال العالمي من أجل رسم معالم هذا العالم. وأضاف أنه 'إذا قال الشارع لا للاستبداد، فإن على المفكرين أن يفرزوا الميكانيزمات التي من شأنها أن تحد من الاستبداد. وإذا قال لا للفساد، فإن ذلك ليس برنامجا سياسيا، ولكن على المفكرين والنخبة السياسية أن تفرز الميكانيزمات التي من شأنها أن تحد من الفساد.' واستطرد قائلا: إن العالم يعيش حاليا سياقا مغايرا لما ساد زهاء قرن، حيث لم يعد الغرب كما كان، وبَدَا أنه ـ ولأول مرة ـ بحاجة إلى العرب، خاصة وأنه يعيش أزمة بنيوية ـ حسب تعبير المحاضر. كما ظهر للغرب نفسه أن الرهان على إسرائيل رهان خاسر وغير مأمون العواقب. وأكد المحاضر أن الثورة التي شملت العالم العربي ثورة حقيقية، وأنه كان من الضروري أن تقع هذه الرجة التي حملها الشارع، لافتا الانتباه إلى أن الشارع لم يكن مؤطرا برؤية وبمرجعية. عن القدس العربي الكاتب:
اسرة التحرير بتاريخ: السبت 26-11-2011 12:46 مساء
الزوار: 1784 التعليقات: 0
|