على الرغم من كثرة مَن يلهجون بنظرية موت المؤلف لرولان بارت، فإن قلّة قليلة جداً من الباحثين والنقاد العرب، تنبّهوا إلى حقيقة تجسّد هذه النظرية بطريقة ما في كتاب (جمهرة أشعار العرب) الذي يُعد من الناحية التاريخية، ثالث مصدر موثوق من مصادر الشعر العربي القديم- ومن ثم مصادر الثقافة العربية – لكنه من الناحية المنهجية قد يكون المصدر الأول بلا منازع. إنّ هذا الكتاب الذي حاز جواز مرور ذهبي، نظراً لما اشتمل عليه من مزايا طوال قرون، يفتقر إلى أبرز العتبات التي تتكفل عادة، بإماطة اللثام عن كثير من معضلات الكتب، وأعني بها عتبة المؤلف الذي لا نعرف عنه شيئاً سوى اسمه! والأنكى من ذلك أنّ اسمه (أبو زيد القرشي) يزيد من حيرتنا ودهشتنا وشعورنا بالذنب؛ فهو ليس مؤلفاً عربياً فقط، بل هو قرشي أيضاً! ومع ذلك فقد خلت المصادر القديمة من أيّ إشارة إليه، باستثناء كتاب (العمدة في نقد الشعر) لابن رشيق القيرواني، الذي اشتمل على إشارة عابرة له! وحتى تبلغ دهشتنا ذروتها، فإنّ البياض الذي يُجلّل سيرته، يمتد ليشمل سنتيّ ولادته ووفاته على نحو فانتازي؛ فتخمينات الباحثين والنقاد على هذا الصعيد، لا تراوح بين عام وعام أو عقد وعقد، بل هي تراوح بين قرن وقرن، إلى درجة تضطرنا إلى التساؤل بمرارة: هل يمكن للجهل بسنة ولادة ووفاة شخص صنّف كتاباً أساسياً في الثقافة العربية أن يمتد إلى هذا الحد؟ إذ فيما مال بعض الباحثين إلى الاعتقاد بأنه توفي في عام 170هـ ومال آخرون إلى الاعتقاد بأنه توفي في عام 250هـ فإنّ باحثين آخرين يعتقدون بأنه عاش ما بين 350-420هـ. ولا ريب في أنّ هذه الفسحة الطويلة من الزمن التي تقارب 280 سنة كفيلة بإفراغ أي تخمين من مضمونه الحقيقي؛ لأن العادة جرت بأن يختلف الباحثون على أنّ هذا العلم أو ذاك، قد ولد أو توفي في عام 150 أو في عام 155 مثلًا وعلى أبعد تقدير، ولم تجر بإطلاق عنان التوقعات حتى تتقافز ما بين القرن الثاني والقرن الخامس. ومما يزيد الأمر غموضاً، أنّ ثنايا الكتاب تنطوي على ما يؤكد أنّ أبا زيد القرشي قد أخذ علمه عن كثير من الأعلام، ولا بد أن يكون قد زامل كثيراً من الأعلام أيضاً، فهل كان نكرة ومغموراً إلى درجة أنّ أياً من زملائه لم يتذكّره، ناهيك بأساتذته الذين امتد بهم العمر؟ وهل يمكن لأي تواطؤ على تغييب شخص ما، مهما كان شاملًا ومُحكماً ومهما كانت دوافعه، أن يصل إلى درجة شطب سيرة عالم ومثقف من الوجود؟ وحتى لو افترضنا أنّ أبا زيد القرشي قد كان شخصاً مغموراً؛ فإنّ هذا الإنجاز العلمي الفذ المتمثل في (جمهرة أشعار العرب)، جدير بأن يرفع مؤلفه – كائناً من كان – من دياجير النسيان إلى أنوار الشهرة؛ لا لأن الكتاب قد انفرد بتقسيم سباعي محكم لطبقات الشعراء الجاهليين والمخضرمين والإسلاميين فقط، ولا لأنه أطلق مسمّى (المعلّقات) لأول مرة في تاريخ الأدب العربي فقط، ولا لأنه اشتمل على مقدمة منهجية ضافية فقط، بل لأنه كان حاسماً في اختيار قصيدة واحدة فقط لكل شاعر من شعراء الطبقات، بوصفها النموذج الفني الأعلى الذي يجمل تجربته الشعرية ويبرز فرادته الذاتية، خلافاً لما عجّت به المفضليات والأصمعيّات من قصائد ومقطعات كثيرة، دون أن نعلم أسباب اختيارها بوجه عام، ودون أن نعلم أسباب اختيار أكثر من قصيدة أو مقطعة لشاعر واحد بوجه خاص. فهل بلغ الحنق بتلاميذ المفضل الضبي وتلاميذ عبد الملك الأصمعي – مثلاً – حد إحاطة سيرة مؤلف (جمهرة أشعار العرب) بسياج عالٍ ومنيع من الاغفال والتجاهل؛ لأنه بزّ من حيث المنهج والتنظيم والاختيارات مصنفيّ الشيخين؟ وهل انطوى (جمهرة أشعار العرب) على ما لم ننتبه لخطورته حتى الآن فعوقب مؤلفه بمحو سيرته؟ ولماذا نقع على ما لا يعد ولا يحصى من تراجم الحمقى والشحاذين والطفيليين وأهل الخلاعة والمجون في مصادر الأدب العربي ولا نقع على ترجمة واحدة تشفي الغليل لأبي زيد القرشي؟ أم أنه قد أقدم على تأليف الكتاب وهو لمّا يزل شاباً مغموراً ثم ألقى به إلى بعض الناسخين وغاب عن الأنظار لأسباب نجهلها؟ وهل تراه سُجن لسبب ما وطال سجنه حتى نسيه الناس ونسوا سيرته، أم تراه قُتل لسبب ما قبل أن يبزغ نجمه؟ كم هو محزن ومؤلم أن نضطر لدراسة وتحليل كتاب مُبهر مثل (جمهرة أشعار العرب) دون التمكن من استحضار سيرة مؤلفه الذي التقط بحسه النقدي المرهف، مركزية وقدسية ورمزية الرقم (7) في الثقافة العربية الإسلامية، وأقام نسقاً شعرياً محكماً جداً. وكم هو محزن ومؤلم أيضاً أن نجد أنفسنا مضطرين لاستحضار (قصة موت معلن) لجابرييل ماركيز، كلّما ورد ذكر القرشي الذي كان ينبغي أن يموت (حقيقة أو مجازاً)، حتى يلمع ذكر كتابه في مشرق العالم الإسلامي ومغربه