تونس -عرار-"اليوم" زهور العربي :تحتفي جريدة "اليوم" بفارس من فرسان الكلمة في تونس الخضراء. قلم وشاعر له وزنه في السّاحة التوّنسيّة كما العربيّة :إنّه الشّاعر والمترجم محمد صالح الغريسي
س :أين الشّاعر محمد صالح الغريسي من المشهد الّثّقافي التّونسي؟
ج:يسعدني أن أكون ضيفا على جريدة اليوم ،ويسرّني أن أجيب على أسئلتك :
هذا السّؤال على بساطته ووضوحه يحتمل مستويات مختلفة من الفهم ،وهو بالتّالي يتطلّب أجوبة مختلفة حسب كلّ مستوى من مستويات الفهم.
إذا كان المقصود بهذا السّؤال مدى مشاركاتي و حضوري الملتقيات الثّقافيّة و الأمسيات الشّعريّة،فإنّي كلّما دعيت إلى مناسبة من هذه المناسبات إلاّ و كنت موجودا، و بهذا المفهوم يكون وجودي في المشهد الثّقافيّ محدودا بعدد الدّعوات الموجّهة إليّ.صحيح أنّني حضرت العديد من الملتقيات في تونس، منها مهرجان الأدب الحديث بتوزر ،ومهرجان الشّعر بجدليان والعديد من الأمسيات الشّعريّة بالعاصمة،ولكن هذا لا يعطي صورة واضحة عنّي وعن نصوصي،لأنّه لا يخرج عن صدى المناسبة في حدّ ذاتها والّتي كثيرا ما تلقى صدى باهتا أو تعتيما مقصودا،كان يندرج ضمن ما يسمّى بتهميش الثّقافة ،والأدب والشّعر على وجه الخصوص،لضعف التّغطية الإعلاميّة ،بل لغيابها في أكثر الحالات لا سيما في النّوادي الأدبيّة والأمسيات الشّعريّة .
أمّا إذا كان المقصود بالسّؤال عن حضوري على مستوى وسائل الإعلام المكتوبة و المرئيّة، فهو محدود لأنّني قليل النّشرعلى صفحات الجرائد والمجلاّت ،و إن كنت قد نشرت عددا لا بأس به من النّصوص على صفحات الملحق الثّقافي لجريدة الحريّة سابقا، وعلى جريدة العرب سابقا.و كانت عدد المقالات الّتي كتبت عن نصوصي قليلة لا تتعدّى الإعلام بصدور مجموعة شعريّة، أو قراءة انطباعيّة للتّعريف بها، أو حوارا حول بعض القضايا الّتي تتعلّق بالشّعر والثّقافة .أمّا اللّقاءات الإذاعيّة فهي أيضا محدودة قياسا بعمر تجربتي في كتابة الشّعر الّتي ترجع إلى سنة 1994.فمنذ ذلك التّاريخ إلى حدّ سنة 2011 لم تتعدّ مشاركاتي الإذاعيّة ثلاث مشاركات،كلّها مع محطّات إذاعيّة جهويّة، ومنذ صدور مجموعتي الجديدة : وينتصر الورد الّتي صدرت في جوان 2011 تعدّدت لقاءاتي مع إذاعة المنستير وإذاعة تطاوين ، كما صدر مقالان حول هذه المجموعة ،واحد بقلم الشّاعر شمس الدّين العوني ،نشر بجريدة الصّحافة، و الثّاني بقلم الصّحفيّ الهاشمي الخلاّدي ،نشر بجريدة"لوطون". وهذا كلّه لا يشكّل في رأيي حضورا فاعلا ، و ذلك لأسباب موضوعيّة يطول شرحها هنا، و هي لا تخصّني بالذّات بقدر ما تخصّ المشهد الثّقافيّ عموما.
س: كمثقّف وشاعر تعيش في العاصمة هل تلاحظ أن السّاحة الثّقافيّة تغيّرت عمّا كانت عليه في عهد المخلوع؟
ج : أوّلا أفضّل مصطلح المشهد الثّقافيّ على مصطلح السّاحة الّذي يحيلنا على غوغائيّة الشّارع و ما قد يشوبه من بعض المظاهر السّلبيّة الّتي نعرفها جميعا.أمّا عمّا إذا كان المشهد الثّقافيّ بالعاصمة قد تغيّر أم لا،فإنّ المشهد الثّقافيّ التّونسيّ لا يمكن أن تحدّده صورته في العاصمة،فكثيرا ما نلحظ أنشطة فاعلة داخل الجهات ،ولا نجد مثيلة لها في العاصمة،فالمسألة هنا نسبيّة تحكمها الكثير من العوامل
دعنا نتحدّث عن المشهد الثّقافي في العاصمة .في رأيي أنّه لم يتغيّر كثيرا عمّا كان عليه من قبل ، و ليس من الممكن أن يتغيّر جذريّا بين عشيّة وضحاها في ظلّ التّجاذبات السّياسيّة القائمة ،و الّتي تحكمها عوامل عدّة و قوى عديدة .ورغم تحرّر بعض الأقلام من الرّقابة الرّسميّة الّتي كانت في عهد النّظام السّابق ،فإن الكثير منها يمارس على نفسه رقابة ذاتيّة في ظلّ ضبابيّة الرّؤية حول نوعيّة النّظام الّذي يحكم أو سيحكم البلاد في المنظور القريب.
أمّا من حيث الممارسات ،فإنّ مقاييس تنظيم التّظاهرات الثّقافيّة ،والأدبيّة على وجه الخصوص لا يزال على حاله ،لأنّه يقوم على مقاييس ذاتيّة أكثر منه على مقاييس موضوعيّة تقوم على مبدإ تكافؤ الفرص بين الجميع،و مبدإ التّعريف بمختلف الإنتاجات الأدبيّة للأدباء المعروفين ، وللنّاشئين منهم على حدّ سواء؛ و ذلك في غياب ضوابط واضحة وعادلة تحكم الأنشطة الثّقافيّة من حيث توزيعها وتنظيمها.كما أنّ الدّولة في وضعها الحاليّ ،يبدو أنّها لا تعطي للثّقافة نفس الأولويّة الّتي تعطيها لاستحقاقات التّشغيل مثلا ،أو لقطاع الاستثمارات أوغيرها ، ولا نفس الأهميّة ، و هذا في تقديري خطأ فادح وخاصّة في هذه المرحلة.فما من ثورة على الأرض إلاّ و تسبقها ،أو تصحبها ثورة ثقافيّة،فلا تتغيّر الشّعوب إلاّ بالفعل الثّقافيّ ،و لا تغيّرها القرارات السّياسيّة مهما كانت صائبة،لأنّ الفرد ليس كائنا اجتماعيّا فحسب - فحتّى الغاب له مجتمعه وقوانينه الّتي تحكمه - بل هو كائن ثقافيّ متطوّر ، و ليس أدلّ على ذلك من تطوّر العقليّات ، وتطوّر العادات والتّقاليد، وتطوّر أساليب العيش في المجتمعات عبر العصور.
س:ماذا تقترح كحلول لتغيير هذا المشهد الثّقافي ليواكب هذه الثّورة ؟
ج: في واقع الأمر ،لا توجد وصفة سحريّة لإحداث تغيير جذريّ في المشهد الثّقافيّ ،بحكم كونه إرثا قديما لعهدين من الاستبداد والحكم الشّموليّ على امتدّاد أكثر من نصف قرن ، و لهذا ففي رأيي أنّ الثّورة الحقيقيّة لم تحصل بعد ، ما لم تحصل ثورة ثقافيّة يتولّد عنها تغيّر للعقليّات ، وتغيّر للمفاهيم.فطالما ظلّت العقليّات على حالها، والمفاهيم على ما هي عليه ،فلا يغيّرها ميلها إلى اليمين أو إلى اليسار ، و إنّما يغيّرها الفعل الثّقافيّ الأصيل المتفتّح على الواقع، وعلى المتغيّرات العالميّة دون الانصهار كلّيا في سلبيّات تيار العولمة الجارف ،أو الانكفاء على الذّات في منأى عن كلّ ما يجري من حولنا،وهو أمرغير ممكن بالمرّة،و هو إن حصل يجعل المجتمع والدّولة في مهيع من الفوضى العارمة .و بالتّالي لا بدّ من فسح المجال للفعل الثّقافيّ ليقوم بدوره الحقيقي،لتكون السّياسة هي البوصلة الّتي تعدّل مسار البلد في الاتّجاه الصّحيح ،في كنف حوار متمدّن يقوم على حسن الإصغاء، في ظلّ حقّ الاختلاف ، واحترام الآخر.
و لكي نكون صريحين مع أنفسنا ،ينبغي أن نعترف أنّ مساهمة المثقّفين في (الثّورة) كانت محدودة جدّا لكي لا نقول منعدمة،وأنّها بعد الإطاحة بالنّظام السّابق لم تتخلّص بعد من القيود النّفسيّة القديمة،في ظلّ انصراف الدّولة المنشغلة بإعادة تنظيم هياكلها ، عن المسألة الثّقافيّة.و لهذا فإنّ دور المثقّفين ،قد أصبح ملحا في هذه المرحلة أكثر من أيّ وقت مضى.
و يتعيّن عليهم المبادرة، وعدم الاستكانة إلى المطلبيّة ،و محاولة استمالة النّظام الحاكم إلى جانبهم ،ليتبنّى مطالبهم،لأنّنا سنكون قد وقعنا في نفس الفخّ الّذي كنّا فيه سابقا.
س:قرأت لك كثيرا ولعلّ أهم المواضيع التي تناولها قلمك المتمكّن هي عروبتنا وهوّيتنا وكلّ انكساراتنا ..إلى متى ستظلّ هذه القضايا تُدمي أقلامنا ولا من مجيب؟
ج:هذا السّؤال جوهريّ ،و هو يمسّ عمق المسألة الثّقافيّة الّتي هي جزء من الهويّة إن لم يكن لها الحظّ الأوفر.
لسوء الحظّ مفهومنا للعروبة ليس متطابقا.وهنا أقصد الأنظمة العربيّة الحاكمة، وبعض المجموعات غير المعنيّة بهذا الموضوع أصلا،وحتّى المثقّفين في مختلف البلاد العربيّة.
فثمّة من ينظر إلى هذه المسألة من زاوية قوميّة عرقيّة،وهذا ما يجعل غير العرب الصّرحاء من الشّعوب الأخرى الّتي تنتمي إلى العروبة بالتّاريخ،تابعة للأولى ، و هي في نظرها من الدّرجة الثّانية، وهذا أيضا ما يعمّق مأساة بعض الأقلّيات في هذا البلد أو ذاك.
و هذا ما يلمسه المتأمّل للواقع في نظرة أهل المشرق - و هنا أقصد دول الخليج بالذّات - إلى أهل شمال إفريقيّة.
و ثمّة من ينظر إلى مسألة العروبة ، من وجهة نظر استراتيجيّة ،لكنّها محدودة ، تقوم على عدم إلمام بواقع الحال في مختلف البلاد العربيّة ، لا من حيث حاجياتها من التّنمية ،ولا من حيث نسق نموّها الاقتصاديّ،ولا من حيث تنوّعها الجغرافيّ و الثّقافيّ ، ويكتفي بالنّظر إلى الماضي ، أي إلى التّاريخ.وكأنّ الأمر لا يتعلّق بمصير شعوب، و إنّما يتعلّق باستعادة أمجاد غابرة.و لذلك ظهرت عديد الزّعامات ،ولكنّها لم تكن منسجمة فيما بينها، إذا لم نقل إنّها كانت متنافرة، بل متصارعة على الزّعامة ،وهذا ما جعل مفهوم القوميّة العربيّة بهذا التّصوّر يفشل إلى حدّ الآن.أمّا ما يمكن قوله : إنّ سبب هذا الفشل يعود إلى مؤامرات خارجيّة،فهذا صحيح إلى حدّ ما، لأنّ المؤامرة الحقيقيّة هي في داخلنا، وفي ضعفنا ،وسوء تقديرنا للأمور، وهذا ما يغري الآخرين بالتّآمرعلينا حفاظا على مصالحهم. ومن السّخافة أن نفكّر بأنّنا نعيش في المدينة الفاضلة حيث الخير المطلق والعدل المطلق والجمال المطلق.
والمؤلم أنّه ليس ثمّة من نظَرَ إلى المسألة من زاويتها الثّقافيّة، وهيّأ لها موضوعيّا ، من الأسباب ما يحقّق اتّحاد هذه الشّعوب على أساس التّكامل ووحدة المصير، ولا من خطَّطَ لإقامة بنية تحتيّة صلبة وسليمة تشكّل نسيجا متجانسا يسهّل تحقيق هذا الاتّحاد على مراحل، وعلى أساس تبادل المصالح وتكاملها ،ضمن مشروع اقتصاديّ استراتيجيّ مدروس يأخذ بعين الاعتبار كلّ العراقيل الّتي يمكن أن يواجهها هذا المشروع، ويعدّ الحلول لكلّ مرحلة من المراحل الّتي قد تعترضه فيها صعوبات، بما يتناسب مع المشاكل المطروحة في كلّ مرحلة.وهذا يتطلّب تقاربا في سياسة الدّول العربيّة الّتي لم يكن لحكّامها لا الرّغبة ولا الإرادة لتحقيق هذا الحلم الّذي تشترك فيه أغلب الشّعوب العربيّة على اختلاف أعراقها وثقافاتها وأديانها ومذاهبها ،ماعدا أصحاب المصالح الضيّقة الّذين يعملون لأجندات داخليّة محلّية ، وآخرون ممّن يعملون لفائدة أجندات خارجيّة ،يحكمهم في ذلك الخوف والطّمع.
س :ما هي مؤلّفاتك الورقيّة ؟
ج: لي من الكتب المنشورة مجموعات شعريّة ثلاث :
الأولى بعنوان : سيمفونيّة العشق الأخير . صدرت سنة 2003
الثّانية بعنوان : دموع المحار .صدرت سنة 2005
الثّالثة بعنوان : و ينتصر الورد .صدرت سنة 2011
كما أنّ لي أكثر من مجموعة شعريّة ، و عدد هامّ من القصائد المترجمة من الإنجليزيّة إلى العربيّة ، و أخرى مترجمة من الفرنسيّة إلى العربيّة ، و مجموعة قراءات نقديّة لنصوص متفرّقة لشعراء مختلفين، لم يتسنّ لي نشرها لأسباب تتعلّق بظروفي المادّية ، وصعوبة ظروف النّشر ومحدوديّة مسالك التّوزيع.
س: ركّزت في الآونة الأخيرة على التّسجيلات الصّوتيّة ولاحظت تفاعل العديد من عشّاق شعرك مع هذه التّجربة خاصّة وأنت تتقن فنّ الإلقاء
هل تفكّر في انجاز ديوان صوتيّ ؟
ج: في ظلّ التّقنيات الحديثة الّتي تتطوّر من يوم إلى آخر ، يواجه الشّعر كغيره من الفنون تحدّيات خطيرة تدفع الشّاعر إلى مواكبة هذا التّطوّر التّقني، و لكن ليس على حساب النّصّ و جودته ، ولا على حساب النص المنشور ورقيّا،فلكلّ وظيفته، ولكلّ لذّته الخاصّة في التّعامل معه.فالقصيدة عندما يصاحبها صوت معبّر عمّا فيها من اختلاجات النّفس،وترافقها موسيقى تصويريّة معبّرة ، وتعاضدها صورأو مقاطع حيّة ؛كلّ ذلك يجعل من النصّ الشّعريّ وجبة دسمة تغذّي السّمع والبصر و الرّوح .وهذه التّجربة تشجّعني على إنجاز ديوان صوتيّ.وإن كنت أعتبر أنّ ما أنجزته من مقاطع الفيديو هام من حيث عدده ، و لكنّه في ئالواقع ليس حِرَفيّا ،أي تنقصه الصّنعة والإتقان،فأنا مبتدئ في هذا الميدان.و كما ترين سأواجه إذا فكّرت في إنجاز هذا المشروع ،نفس الصّعوبات الّتي ألقاها في النّشر الورقيّ.
س:لو خيّرتك بين محمّد صالح الغريسي المترجم والشّاعرأيّها ينتصر ؟
ج: ما أنا متأكّد منه أنّ الشّعر هو الّذي سينتصر، سواء أكان كتابة أم ترجمة.أوّلا لأنّي اخترت أصعب مجال في التّرجمة ، ألا وهو ترجمة النّصوص الشّعريّة ،ثانيا لأنّ الشّعر لغة إنسانيّة مهما كانت اللّغة الّتي يكتب بها.فاللّغة في حدّ ذاتها شكل ،و لكنّ الشّعر هو الجوهر.

س :أعرف انّك من الأسماء التي تكتب في المواقع الإلكترونيّة فهل تعامل هذه المواقع كلّ الكتّاب بنفس الدّرجة من الاهتمام أم أنها تنحاز إلى أسماء دون غيرها خاصّة في التّكريم والتّثمين؟.
ج: أنا شخصيّا لا أؤمن بأنّ دور المواقع الإلكترونيّة ، هوالتّثمين والتّقويم ،فهي في تقديري ورشات للكتابة ، و لتبادل التّجارب ، و للتّعريف بما يكتبه الأدباء و الشّعراء و المفكّرون ، ومن هنا فإنك تجدين تفاوتا في مستوى جودة النّصوص ،حسب تمكّن الكاتب من تقنيات الكتابة ، ورسوخه فيها .و لذلك فإنّ كلّ محاولات التّثمين لا تتجاوز بعض الآراء الانطباعيّة ، والّتي يقوم بعضها أو أغلبها على المجاملة . بل إنّ ما يقوم به المديرون لهذه المواقع من تكريم للكتّاب ،إنّما هو من باب التّنشيط للموقع و تحفيز الكتّاب على التّنافس .وهذا في حدّ ذاته أمر محمود ، ولكنّه غالبا ما يحيد عن الموضوعيّة ،لأنّه لا يستند إلى مقاييس مضبوطة وعادلة .
و الحقيقة أنّ الكاتب الجيّد يحتاج إلى ناقد جيّد، يساعده على تحسين منتوجه الأدبيّ، ويوجد القارئ الجيّد الّذي يتفاعل مع ما يكتبه.و لعلّ هذا ما نفتقر إليه ،سواء في مواقعنا الإلكترونيّة، أوفي ما ينشر من كتب ،أو مقالات .فالحركة النّقديّة وحدها ،هي الكفيلة بتنشيط الحراك الأدبيّ والفكريّ على حدّ سواء.و لأهمّية هذا الفنّ ، ولتأكّد الحاجة إليه، أصبحنا نتحدّث عن نقد النّقد.فإذا كان النّاقد هوالمثمّن لعمل الكاتب، فناقد النّاقد هو المثمّن لعمل النّاقد.وهذا لعمري من مكتسبات هذا العصر، الّذي يقوم على الاختصاص وعلى مراقبة الجودة، وهي فكرة اقتصاديّة بالأساس ، ولكنّها في عصرنا هذا..عصر العولمة أصبحت تطبّق في كلّ مجالات الإنتاج.
س: صدرت لك سنة 2011 مجموعة ( وينتصر الورد )...أيّ ورد كنت تعني؟وضدّ ماذا انتصر وردك ؟
ج: مثلما هي نصوصي غير مغرقة في الرّمز والإغلاق،فإنّ العنوان موح و لا يشكّل رمزا مغلقا يحتاج إلى تفكيك شفرته.فالورد كان عبر العصور و لا يزال رمزا للحبّ و الجمال ، و هما أهمّ قيمتين يحتاجهما الإنسان ليحقّق إنسانيته على الأرض . والخير في عموم مفهومه ،هوالمحمل الّذي ترتكز عليه هاتان القيمتان.فأغلب نصوص المجموعة في مجملها تتغنّى بهذه القيم و تدعو إليها، و تبغّض إلى القارئ القيم الهدّامة ، الّتي نعاني منها في مجتمعاتنا.
ففي النّهاية .. وهي النّهاية الطّبيعيّة ،لا انتصار إلاّ لقيم الحبّ والخير والجمال.و ما قامت الثّورة أو الانتفاضة إلاّ من أجل أن ننتصر على الظّلم و التّسلّط و الكراهية.فهل تمّ هذا بالفعل ..؟ هذا ما ستبديه الأيّام ..لكنّي متفائل بما سيأتي به المستقبل رغم الظّلمة الّتي كانت تلفـّنا ، والضبابيّة التّي تكتنف واقعنا الرّاهن.و يدلّ على ذلك ، صيغة المضارع الواردة في عنوان المجموعة ( و ينتصر الورد...) ، و الّتي تعني مضارعة الفعل لزمن التّكلّم و ملازمته له، ليدلّ على الحاضر ، أو ليدلّ على المستقبل في مطلق دلالته، أو على ما يشبه القاعدة ،أو الحكمة الّتي تصلح لكلّ زمان.
س:أعلن الإتّحاد أخيرا عن اختيارك ضمن الوفد الذي سيسافر للجزائر
ما سبب هذه السّفرة؟وما رأيك في نشاط الإتّحاد بهيئته الجديدة؟
ج:الجزء الأوّل من السّؤال يحمل إجابته في طيّاته و لا يحتاج إلى توضيح : شاعر يسافر إلى الجزائر مع ثلّة من الشّعراء ليشاركوا في أمسية شعريّة في نطاق التّبادل الثّقافيّ بين اتّحادي الكتّاب التوّنسيّن والجزائريّين، و قد وقع الإعلان عن ذلك صراحة على صفحات الفايس بوك،إلاّ إذا كان السّؤال: لماذا أنا بالذّات ،عندها يوجّه إلى الهيئة المديرة ،فأنا لا أعلم، سوى أنّه وقع اختياري مع شعراء آخرين من فروع مختلفة، و سيكون الدّور مستقبلا لشعراء آخرين .
أمّا عن رأيي في نشاط اتّحاد الكتّاب التّونسيّين بهيأته الجديدة ،فهو يتوقّف على ما ستنجزه هذه الهيئة مستقبلا من وعود قطعتها على نفسها خلال المؤتمر الأخير.و في تقديري ،ليس ثمّة اتّحاد ولا هيئة مديرة ،إذا لم يكن ثمّة مبادرة من الكتّاب والشّعراء بالحضور ، و إبداء الرّأي وإسداء النّصح، و ممارسة حقّ المتابعة و المحاسبة.وهذا يصح على اتّحاد الكتّاب التّونسيّين كما يصحّ على الجمعيّات الأخرى، كما يصح على الوطن ككلّ فلا حكومة ولا دولة دون شعب يتابع و يشارك و ينقد ، ويعمل ويبادر.
س:ما رأيك في المرحلة التي تمرّ بها بلادنا على كافّة الأصعدة ؟
ج: هذا سؤال يحتاج إلى تشخيص دقيق وتحليل مستفيض تتداخل فيه عديد الاختصاصات الّتي تتجاوز مكتسباتي العلميّة ،الّتي لا تخوّل لي أن أقدّم جوابا موضوعيّا عليه. و لكنّي كمثقّف متابع لما يجري ، يمككني القول، إنّنا نمرّ بمرحلة صعبة ومعقّدة لم نكن مهيئين لها من قبل.وأنّ ما يبدو من تحالفات بين أحزاب سياسيّة ، أو صراعات بين تيّارات يمينيّة وأخرى يساريّة ،إنّما هو الظّاهر من المشكل، فالمشكل الحقيقيّ هو صراع بين قوى بعضها ظاهر و بعضها الآخر خفيّ،صراع على السّلطة والنّفوذ..صراع من أجل المصالح بعضها لأطراف داخليّة وبعضها الآخر لأطراف خارجيّة .بل يمكن القول، إنّ ثمّة نوع من الانفلات على أصعدة عديدة ،ولكن بالمقابل ثمّة إدراك لدى الجميع أنّ الحسم لن يكون لطرف بعينه على حساب بقيّة الأطراف،فالمطلوب طوعا أو كرها ،نوع من التّوافق و الالتقاء عند الحدّ الأدنى الّذي يضمن الخروج بالبلاد من عنق الزّجاجة.وفي تقديري إنّ كلّ هذه التّجاذبات على شكلها الحاليّ،مضيعة للوقت و هدر للطّاقات و استنزاف لما تبقّى لدينا من مقدّرات.
إنّ البلاد في الوقت الرّاهن في حاجة إلى إنجاز الدّستور الجديد ، و إعداد القوانين المنظّمة للاتّجاه العام لسياسة الدّولة،كقانون الانتخابات وقانون الصّحافة والقوانين المنظّمة للأحزاب ، والسّعي إلى تنظيم انتخابات رئاسيّة في موعد معقول وانتخابات تشريعيّة محكمة التّنظيم.و لكنّ المؤشّرات تدلّ على أنّ الوضع ماض نحو التّعقيد، ورغم ذلك فإنّ الشّعب التّونسيّ الّذي انتفض على الظّلم و أطاح بعرش الرّئيس السّابق وبنظامه، أراه يقظا ..متحفّزا ..مصمّما على بناء الدّولة الدّيمقراطيّة الوطنيّة رغم ما قد يبدو من خلافات بين التيّارات السّياسيّة ،وأنّ إرادته هي الّتي ستنتصر في النّهاية مهما كان الثّمن باهضا.
س :سعدنا بمحاورتك شاعرنا التونسي محمد صالح الغريسي، هل من كلمة أخيرة لجريدة "اليوم" الإلكترونيّة ؟
ج:الأخت زهور العربي..شكرا على ما قدّمته من أسئلة ،أرجو أن تجد أجوبتي عنها ،ما ينال رضى قرّاء هذا الحوار.
شكرا لجريدة اليوم الّتي تشق طريقها بعزم و ثبات وسط هذا الزّخم الإعلاميّ المتنافس، الّذي يخضع لكثير من الضّغوط و يواجه الكثير من التّحدّيات..شكرا لإدارتها لما أتاحته لي من فرصة التّعبيرعن رأيي .و كلّ ما أرجوه أن تظلّ على نهج الكلمة الحرّة الهادفة النّظيفة بعيدا عن الولاءات ،و أن لا تخضع للضّغوط مهما كانت ،فعهد العبوديّة و الخضوع قد ولّى بدون رجعة.واللّه الموفق.
زهور العربي