|
عرار:
د. إبراهيم خليل بعد أعماله الشعرية: لا شيء يحدث لا شيء يجيء 1973 ووطن لطيور الماء 1975 وشجر العائلة 1979 وفاكهة الماضي 1985 وأيام آدم 1993 وممالك ضائعة 1999 وسيد الوحشتين 2006 وهكذا قلت للريح 2008 وذاهب لاصطياد الندى 2011 ونداء البدايات 2013 ووطن يتهجى المطر 2015 وطائر يتعثر بالضوء 2018 وفراشات لتبديد الوحدة 2021 وعدد من المختارات تصدر للشاعر العراقي المعروف علي جعفر العلاق مجموعة جديدة عن وزارة الثقافة والسياحة والآثار في بغداد بعنوان « القصائد الخمس ونصوص شعرية أخرى» 2024 ليثير بهذه القصائد السؤال القديم المتجدد، وهو: ما علاقة القصيدة بالسيرة؟ أو بعبارة أخرى: ما هي علاقة الشعر بصفة عامة بالسرد؟ فالسيرة سرد والشعر غناءٌ لا سرد، فالسرد يتطلب التفاصيل، والاطراد، وترابط المتواليات المحكية في حين أن الشعر لمحٌ تكفي إشارته في رأي البحتري: (فالشِعْر لمحٌ تكفي إشارتُهُ/ وليْسَ بالنَثْر طُوِّلَتْ خُطَبُهْ). والسائد في أوساط المهتمين بالأدب نثره، وشعره، أنّ السرد شيء والشعر الغنائي خاصّة شيءٌ آخر. بيد أن هذا لا يستقيم قطعًا إلا في الحدود الدنيا التي تحول بين القصيدة والسرد. فالشعر بالذات يغلب عليه صوتُ الشاعر، لا صوت غيره من بني الناس، إلا إذا كان من النوع الملحمي، أو الدرامي (المسرحي) وقد تقعُ القصيدة في موقع متوسِّط بين الغنائي والدرامي، وفي هذه الحال لا جرَمَ أن الشاعر مضطرٌ لاعتماد السرد في أجزاء من القصيدة، والعدول عنه في أجزاء أخرى. وهذا يتجلّى في الكثير من الشعر العربي في القديم منه، والحديث. وحتى في المعلقات لا نفتأ نجد سردًا، وفي شعر الغزليين من إسلاميين، وأمويين، نجدُ سردًا. وفي شعر أبي نواس صاحب المجالس التي تدور فيها الكؤوس إلى أن تطيح حمياها بالرؤوس، نجدُ سرْدًا. وفي شعر الحماسة، والوصف أجزاءٌ سردية. والجدير بهذه القصائد الخمس التي يروي فيها العلاق شيئا جديرًا بالرواية عن شخصيات خمس هي جبرا إبراهيم جبرا، وعبد الواحد لؤلؤة، وسعدي يوسف، ويوسف الصايغ، وعبد العزيز المقالح ألّا تدير ظهورها للسرد. جبرا إبراهيم جبرا: فأما جبرا (1919- 1994) فقد وسم القصيدة التي تتضمن ما يروى عنه، ويقال فيه، بعنوان مثير للانتباه، طريف في معناه، وهو أزحْ قليلا عتْمَة النهار. وهي عبارة يخاطب بها المتكلم حارس المقبرة التي دفن فيها جبرا في ناحية من نواحي بغداد، ويرجوه أن يتيح لنا، وللمتكلم، وللقارئ أيضا، رؤية ضريح الوسيم الأنيق جبرا، ورؤية بغداد في حدادها، وقد تركت خلفها مجدها القديم بعد أن دنستها أحذية الاحتلال الأمريكي الفاشي: يا حارس المقبرة النائية أزحْ قليلا عتمة النهار كي نرى ضريحَهُ الوسيم وكي نرى بغداد في حدادها مقبلةً من مجدها القديم ولا تخلو القصيدة من مقاطع تذكّرنا بما جاء في سيرة الشاعر الموسومة بـ»إلى أين أيتها القصيدة؟» وأخرى تذكرنا ببعض أعمال جبرا، كـ(صيادون في شارع ضيق) وبلميعة العسكري التي أحب، ومقاطع أخرى تشير لإحدى سِيَرهِ «شارع الأميرات» وهو عنوان كتاب يروي فيه المؤلف نتفا من ذكرياته ببغداد التي جاءَها بعيد النكبة، وأقام فيها كأيّ واحد من أهلها إلى أن توفي فيها ودفن سنة1994 بعد أن نهض بدور لا يَخفى، ولا يُنْكرُ، في الحياة الأدبية والفنية والثقافية بما فيها الترجمة، والانفتاح على تياراتٍ جديدة في الشعر، وفي الرواية، والقصة، والنقد، وفي الفنون: من رسم ونحت وموسيقى. وممن أفادهم وأفادوا منه كثيرًا على جعفر العلاق الذي يدين لجبرا ولذائقتهِ الرفيعة بنشـر أولى قصائده في مجلة «النفط والتنمية» وإلى هذا يشير قائلا: وثمَّ حلمٌ للصبي كوردة العاقولِ ينمو أو يغيبْ يفضّ عنْ غدهِ البعيد علامة. درّاجة مجروحة. ودَمْ طرقتُ هونا مثلما في النوم بابَه ُ دنوتُ. أيّ نبرةٍ هذي حميمًا كانْ معتَّقًا مثل شذى الحنين للكتابَةْ. لم تخل القصيدة أيضا من إشاراتٍ لعلاقة الشاعر بجبرا، ولعلاقة جبرا بالفنون، خمرة الكتب، فتنة اللون، تحفّ به اللغات، وهذه إشاراتٌ تتناغمُ مع ما ذكره الشاعر في سيرته المذكورة(1)، ولا سيما موقف جبرا من قصيدته الأولى « إلى صديقة مسافرة « وهي القصيدة التي رأت النور في المجلة، مع تقديم جبرا لها على سائر القصائد المنشورة في العدد، في قرينة تنمّ على إعجابه الشديد بها، وتفضيلها على هاتيك القصائد. عبد الواحد لؤلؤة: وهذا الأديب (1931- ..) غير بعيد عن جبرا، ولا مراءَ في أن لؤلؤة هو الوجه الثاني لجبرا، فبينهما قواسم مشتركة كثيرة. يتشابهان في الاهتمامات. ويبدو أن لؤلؤة كان على علاقة وطيدة بجبرا، فقد التقيت به سنة 2000 عندما كان في جامعة فيلادلفيا، وحين قدمت له نسخة من كتابي الذي صدر في ذلك العام « جبرا إبراهيم جبرا الأديب الناقد» فرح به كثيرًا، ووصف جبرا بعبارة شقيق الروح. ويومئ العلاق لبعض خصال هذا الأديب الذي غلب عليه النقد، وغلبت على جهوده الترجمة. فهو الأديب القادم من فجر آشور تارة، وتارة من واسط، وطورا من الموصل، ويبدو تأثيرهُ عميقا في شاعرنا العلّاق، بدليل ما يقوله فيه: قلت لي: واصل ِالشوْطَ قالت بفتنة أنثى: تعالِ فكأنه، بعد أن أصغى لصوتهِ الشعري، وأعجب به أيَّما إعجاب، حثه على مواصلة الطريق، فاستجابت القصيدة التي ساعدَت باستجابتها على: يصغر الوقت ما بيننا وتضيق المسافات في كلّ ثانية نتوهمُ ما زال في الوقت متسعٌ هل سنبلغ خاتمة الوهم؟ والمعروف أنَّ لعبد الواحد لؤلؤة علاقة متينة بالشعر، فقد ترجم الكثير عن الإنجليزية، ولا سيما قصيدة إليوت المشهورة «الأرض الخراب « وصنف كتابا عن جبرا، بعنوان «شواطئ الضياع». وتوقف فيه عند نباهته، ومقدرته على اقتناص الألفاظ العربية التي تقابل بدقة نظيراتها في الإنجليزية. وهذه القصيدة، بما فيها من ظلال تلقي بها على علاقة الشاعر بهذا الأديب، تضيف لما تقدم إضاءة جديدة لسيرة شاعر لم يكتفِ قطْعًا بما كتبه من نثر عن ذكرياته الماضية، وعلاقته بهؤلاء النابهين. سعدي يوسف: أما سعدي يوسف (1934- 2021) فمُختلفٌ عن عبد الواحد لؤلؤة، وعن جبرا، فهو شاعر ذو موقف إيديولوجي قد لا ينسجم، ولا يتفق، مع مواقف العلاق، أي أنَّ لكل منهما وجهة نظر تختلف عن الأخرى. بيد أن العلاق، في رؤيته السردية هذه، تجاوز ذلك الخلاف، وغضّ النظر عنه والبَصَر، مؤكدا أن سعدي «بابلي لا يلين». فهو الذي «فتنته المنافي»، وصادق المفلسين الذين تتفصد جباههم «عذابا وعسفا». وندماؤه في الغالب من المعدمين الذين «يقاسمون النبي شقته» في إشارة لديوان «الأخضر بن يوسف». فهو، أي: سعدي يبتكر الشِعْر كما يشتهي يعبُر من جيل إلى جيلٍ، ومنْ مكيدةٍ شعريَّةٍ كبرى إلى مكيدةٍ لكنّه في لحظةٍ يُصبحُ مَحْضَ اثنين رؤية غريبة هذه الرؤية من العلاق لنظيره سعدي يوسف، الذي لا يطيقُ «المكوث على قافية واحدة». فهو شاعر كثير التوتر، قلق، ذو مزاج متقلب، سرعان ما ينتقل في الشعر من موقف إلى موقف ضده، لا يتدثر بعباءة الاستقرار، شديد التوق للمنافي التي لا تجود عليه إلا بنعمة اللايقين: لا طريقَ إلى الضوء لا قشرةُ الأرض ريّانة لا نخيلُ السماوة يشبه نخْلَ السمواتِ بل جنة من شقاقٍ ومنْ نائحينْ لا شكوكَ مؤكدةٌ لا يقينْ ومع هذا كلِّه، يرى العلاق في سعدي شاعرًا قاسى من غربته الأبدية الكثير، ومن فوضاه، ومن الكوابيس، التي تتنقل به من هفوة إلى هفوة أخرى، شاعرًا لم يملّ الحنين إلى السماوة، وغيرها من مغاني العراق: ليس إلا القصيدةُ خضراءَ إلا التلفتُ صوبَ السماوة إلا السماوةُ حمراءَ إلا النبيُّ الذي كنته ذاتَ يومٍ وما تحت جبَّتك الصوفِ غيرُ الحنين يوسف الصائغ: في قصيدة بعنوان « ما الذي ظلَّ في يده من غبار البلاد « وهو عنوان يعبر تعبيرًا مأساويًا عن خيبة المسعى، تلك التي انتهت بها حياة الشاعر يوسف الصايغ (1933- 2005)، فالمتكلم يروي لنا بعض ما كان من شأن هذا الصائغ الذي فارقنا في العام 2005 وهو لا يبتعدُ بنا كثيرًا عن يوسف الصدّيق وبئرهِ وإخْوتهِ الحَسَدَة: يوسف يرفع الكأسَ ريّانة من على المنضدة تتنفس الخمْرُ في يده، فيرى في قرارتها ثمّ منحدرًا للغيوم على جَبَل ويرى امرأة يتناثرُ تفّاحُها في الجهاتِ أكان يرى حلمًا حافيًا أم يرى البئرَ والإخْوَةَ الحَسَدَةْ وهذه الوحدة من القصيدة تبدو لنا كما لو كانت سردًا ، بيد أن الشاعر يتخلى عن سرده، ومرويته هذه، ليطرح تساؤلا عمّا رواه، ولذلك تنتهي الوحدة بما ينمّ على غموض: أيرى يوسفٌ أمْسَه أمْ يرى غدَهُ ثم يستأنفُ حكايته مشيرًا لعلاقة الصايغ بصحبه، وبما اعتراهُ من حيرة وتخبط وشكوك ورثاءٍ وشعور بالاشمئزاز، وما اعتراه من إحساس بالنفور من بعض الأيديولجيات التي تغرقه في مماحكاتٍ تصل حد الاشتباك بالأيدي. مثلُ هذا السرد في القصيدة لا نجده في الثلاث التي سبقت. وذلك لأن الصايغ شاعر عاش متأرجحًا بين نعم ولا.. وهو لا يعرف إن كان عليه أن يبكي نفسه، أم يبكي مالك بن الريب، في إشارة من العلاق لقصيدة كتبها الصايغ عام 1972. ثم يترك الشاعرُ سرده هذا لتساؤلات: ومن أبقاك حيًا ميتا ندمانَ مَزْهوًا أيا يوسفُ ابنُ الريب ثم يعود متذكّرًا ما كتبه الصايغ تحت عنوان «الاعتراف الأخير لمالك بن الريب» فيروي شيئا عن علاقته بهذا الحائر القلق، كان قد اعتاد أن يَرْقب أيامه يوما تلْوَ الآخر، وهي تتوهج بين اعتراف واعتراف، بين لغة تتقدم خطوة، وأخرى تتأخر خطوة، فلا الشعر يكفي، ولا النثر يشفي: ولا الضوءُ والظل ُّ يجترحان ملاذًا له، أو مَصير فالقصيدة تتضمَّنُ صورة ليوسف الصايغ تنم على الإحساس المُفعم بالكوارث، فجلّ ما كان يحاول أن يصل إليه تمخّض عن قبْضِ كقبْضِ الريح: محضُ عينين تائهتين وبحَّة ترتيلةٍ ومعلقةٌ من ندىً وَرَمادْ عبد العزيز المقالح: والشاعر الأخير الذي يقفنا العلاق بين يديه فيصفه بالصحابي، هو عبد العزيز المقالح (1937- 2022). فقد تقاذفت المنافي شاعرنا العلاق، واضطر للإقامة في صنعاء مدة حيث الصحابي الذي يقود جامعة صنعاء منذ زمن غير قصير. ففي اليمن يمرُّ الشاعر بتجربة جديدة لا تصقل مواهبة الصقيلة أصلا، ولكنها تضيف لمفرداتها ما هو لافتٌ للنظر، جالبٌ للانتباه. فها هو ذا في «الصحابي» يرسم لنا بريشة الفنان مشهدًا تطغى عليه البروج المشيدة بالطين على القمم الصخريّة في ذرى الجبال الشُمّ، والجموع البائسة تهيم في المنحنيات، والأودية، وهي تمضغ أيامها، وتحتسي قهوتها المرة: في المقيل الذي لا يظل بروج من الطين، منحنيات وظلّ لأودية من بهار المسراتِ ثمَّ جموعٌ تجوع، تمضغ أيامها وتغني لتصنع لله قهوته حيثُ الندامى النبيّون تثملُ منها البيوتُ ومن سيهيمون في كلّ وادٍ وحيثُ البلادُ شذى دَلَّةٍ لا تُملّ بعد هذه الصورة المركبة التي تتجلى فيها مفردات لم نعهدها في شعره، يبدأ العلاق سرده لحكاية من حكايات القصائد الخمس، فشرع يحدثنا عن هذا الصحابي حديث الراوي. فلطالما أصغى للوطن متقلبا «بين ماءَين»، مستذكرا في هذا المقام بعض شعر المقالح، وما تركه فيه، وفي غيره، من أثر لا تمْحوهُ الأيام: كان يمسح حزْنَ القصيدة إذ تتصلَّبُ قشرتها مثلما السُلحفاة ويجلس بيني وبيني يذودُ التجاعيدَ عن لغتي ويُنقّي من الحَسَكِ المُرِّ حُزْني مِرارًا بكيْنا فقد أتاح هذا السرد الجزئي في القصيدة للشاعر أنْ يصل بين صنعاءَ، وبغداد، وهذه هي غاية المرثية، فهو – أي المقالح- ينتظر على مهلٍ موْته الصعبَ، وهو يردِّدُ في نفسه « صنعاء لا بد منها»، و» بغداد لا بد من حلمها المستحيل» إذ كان ينشد على مسمع من الشاعر: ليس في لغتي اليومَ متَّسعٌ للضحايا وليس لقيثارتي الحَجَريَّة غيرُ الصّهيل تذكرنا هذه القصائد بقصيدة لمحمود درويش تشبه قصيدة العلاق بجبراـ وبسعدي، وبالمقالح، وبالصايغ. وهي قصيدةٌ تطرق فيها درويش للشاعر الشهيد راشد حسين، وعنوانها فيما نذكر» كان ما سوف يكون «(2). وهي قصيدة مزج فيها الشاعر بين الغناء الشعري والسرد مزجا لافتًا، وبين المقاومة والرثاء، ففيها يستذكر الكثير من التفاصيل المتعلقة بحياة الشاعر الشهيد، وبعلاقتهما في الماضي قبل أن يغادر درويش الأرض المحتلة للقاهرة، مشيرًا لموقف راشد حسين: والتقينا بعد عامٍ في مطار القاهرةْ قال لي بعد ثلاثين دقيقة: ليتني كنتُ طليقًا في سُجون الناصِرَة وفي كلٍّ من قصيدة درويش وقصائد العلاق لم تخسر القصيدة الغنائية من قوتها، ومن مزيتها الفنية، والإبداعية، لتضمينها مقاطع سردية، بل العكس هو الذي نجده. فكل من العلاق ودرويش سارا على النهج الذي عرفته القصيدة العربية منذ المعلقات إلى يومنا هذا: سرد كأنه غنائي، وغنائي كأنُّه سرْد. *** 1.أنظر كتابنا قراءات في كتب السيرة، ط1، عمان: دار الخليج، 2024 ص 105 2.انظر كتابنا محمود درويش قيثارة فلسطين، ط1، عمان: فضاءات للنشر والتوزيع، 2011، ص ص 227- 229 والقصيدة في جامع الأعمال الشعرية، ط1، دار الهدى، كفر قرع - فلسطين، 2003 ، 1/ 298 جريدة الدستور الاردنية الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 17-01-2025 08:29 مساء
الزوار: 30 التعليقات: 0
|