|
عرار:
سعدالدين شاهين/ شاعر وروائي ليس من السهل أن يكون للأديب الباحث مشروع بحثي متسلسل ما لم يتصف بالملاءة المعلوماتي، والمثابرة والجلَد على البحث والتقصّي، ويحمل هدفا أسمى يحركه، ومحركات بحث ومراجع موثوقة تعينه، وشواخص وشواهد ملموسة، وشخوصا وأماكن يقف على أطلالها وينبش في أثرها. وأعتقد جازما أن الدكتور عبد الحميد المعيني تحصن وتحصل على كل ذلك وإلا كيف له أن يركب هذا المركب البحثي الصعب في اعتقادي والذي لم يتطرق له أحد من قبل ولا تفسير لدي عن سبب هذا التقصير في هذا الجانب من قبل الدارسين والباحثين والأكاديميين عموما. إلا أن ذلك يعود إلى الحاجة إلى نفس طويل لا يعرف الملل له ومقدرة عالية في فهم الشعر القديم واستقراء شرحه ودلالاته وتأويلاته ليستخدمها كشواهد لما يقدم له ويوصله الى مرماه، ولأجل ذلك فقد استنَّ الدكتور عبد الحميد لنفسه مشروعا ثقافيا تنويريا إبداعيا فرضه على ذاته خدمة ووفاء لوطنه فلسطين أولا وخدمة للثقافة عموما وليترك أثرا للدارسين بعده للاستزادة وفاء لرسالته الأكاديمية وخبرته الطويلة فيما يتعلق بفلسطين التاريخية ومن ثم دحض السردية العدوانية التي تنفي وجود فلسطين كحاضرة ثقافية حضارية فبدأ مشروعه بكتابه الأول (القدس في القصيدة العمودية جدل الاسم وجمال الدلالة ) ثم في كتابه الثاني ضمن سلسلته في هذا المجال دخولا إلى ميدان جديد للبحث والتجوال بأريحية في نماذج للشعر الحديث والمعاصر بما يحقق مشروعه الثقافي الوطني فكان بحثه الثاني كتابه بعنوان (القدس ترسم صورتها في شعر سعد الدين شاهين الدلالات والجماليات ) ولم يتوقف وأصدر كتابه الثالث في خدمة مشروعه الإطلالي حول ما حفر عنه في شعر الشاعر الإماراتي حول فلسطين بعنوان (فلسطين تنسج نهار السنين في شعر حبيب الصايغ جمال الرؤية). هذا المزج الشفيف بين ما كتب عن فلسطين في عصور طويلة بين الحداثة المعاصر وبين الموروث القديم حفز الأديب الأستاذ د. عبد الحميد للتغلغل في التنقيب والبحث والحفر ليعمم جهده ويوسع الآفاق أمامه ويفتح دائرة الفرجار كثيرا بمثابرة وجلد وروح شابة قل نظيرها ليصل إلى ما وصل إليه في كتابه الذي نراه بين أيدينا الآن (فلسطين في الشعر العربي القديم قراءة المكان والإنسان) وأعترف أن هذا الكتاب الموسوعي الذي قرأته مرتين لما فيه من زخم معلومات جغرافية تاريخية ثقافية عن فلسطين وأحوال الحكم والناس والاقتصاد والتجارة والصناعة وأحوال الشعراء والشخصيات المؤثرة في فلسطين كل ذلك من شواهد الشعر والشعراء لأستطيع تلخيصه في قراءة اعترف أنها ستكون ناقصة ولن تفي الكتاب حقه حين تكون القراءة بغرض تحريضي للقراءة والاستفادة مما جاء فيه. اعتمد الكاتب منهجا استقصائيا تتبعيا معمقا لكل ما جاء ذكره على فلسطين مكانا وإنسانا في الشهر العربي القديم مما لم يسلط الضوء عليه سابقا لنفس الغرض الذي هدف إليه كاتبنا فالإنسان والمكان مكونان حضاريان وأي التفاتة لهما في هذا الجانب تسجل في ميزان السردية الفلسطينية التاريخية أولا والحضارية ثانيا وهذا مما جاء في أهداف الكاتب الأساسية فعمّق البحث والتنقيب حتى وضع يده على نماذج وازنة في ذكر فلسطين صراحة حينا ودلالة حينا آخر قسم أ. د. عبد الحميد المعيني كتابه هذا إلى أقسام مناطقية ثلاثة ولكل قسم ملفاته: أولا: فلسطين المنطقة الداخلية. ثانيا فلسطين المنطقة الغورية. ثالثا فلسطين المنطقة الساحلية. وفي كل قسم من الأقسام الثلاثة عالج ملفات: الاسم والتاريخ الموقع والزمان، المكان والإنسان، وأشعار مناطق الإبداع الشعرية. ومن هنا بدأ تحليل عنوان كتابه كلمة كلمة مبينا المقصود والدلالة لكل كلمة في العنوان ليفتح بعض المغاليق أمام القارئ ففي معرض تحليله لكلمة فلسطين أولا استنتج أن الشيء بلا اسم هو فضاء بلا معنى له ولا أهمية لوجوده وفي معرض ذلك استشهد بذكر اسم فلسطين بعدد من الشعراء القدامى المشهورين على مدى العصور الثلاثة منذ بدء العصر الإسلامي والعصر الأموي والعباسي مؤكدا على زخم التراث الفلسطيني الحضاري تاريخا واقتصادا واجتماعيا وسياسيا وعسكريا في الشعر العربي القديم. فمثلا الفرزدق هنا يتحدث عن الجيش العربي الإسلامي الذي أرسله الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك بقيادة الحجاج وزحفت جنوده من مدينة القدس عاصمة فلسطين إلى مدينة واسط لحفظ الأمن في العراق... وفي ذلك ترسيخ للمكان وأهميته الحضارية وترسيخ للبعد العسكري في فلسطين آنذاك. يقول الفرزدق: ولو أن طيرا كلفت مثل سيره/ إلى واسط من ايلياء لكلّتِ/ سما بالمهاري من فلسطين بعدما/ دنا الفيء من شمس النهار فولتِ. ومن تأثير الجانب السياسي في فلسطين انه عندما ثار أهل فلسطين على الخليفة الأموي أواخر حكمه وأعلن العصيان والتمرد على الخلافة هاجمت كتائب جيش الخليفة الأرض الفلسطينية لإعادة الهدوء وهنا دلالة واضحة عن الحياة السياسية وتفاعلاتها حين يقول الشاعر بشار بن برد: ونالت فلسطينا وعرّضَ جمعها/ عن العارض المستنِّ بالموت حاصبه. وفي دلالة أخرى وشاهد آخر من العصر العباسي يدلل من خلال ذكر الشاعر مسلم بن الوليد صريع الغواني في العصر العباسي أن أهل فلسطين بوعيهم الحضاري لا يقبلون الظلم والفساد واستمر ذلك إلى أن جاء الخليفة العباسي واعتدل الأمر فيقول: هبطتُ أرض فلسطين وقد سمحت/ فالخوف منتشر والسيف معتملُ/ داوى فلسطين من أدوائها بطلٌ/ في صورة الموت إلا أنه رجلُ. والشواهد في هذا المجال الدال على حضارة الفكر والثقافة وعملها في فلسطين لرفض كل ما ليس قويما كثيرة جدا. ولم يقف الباحث د. عبد الحميد عند هذا الحد بل لمست إصرارا عجيبا على إخراج هذا الكتاب القيم ليكون مرجعا للدارسين في تاريخ وجماليات ودلالات الشعر العربي في فلسطين فهو لم يعتمد أسلوب ومنهج السرد الإنشائي بل اعتمد التصنيف والتبويب لكل معلومة استنبطها ووصل إليها وضمنها في سياقها الذي يسهل على القارئ التسلسل عبرها إلى ما بعدها فحدد اهم المناطق الفلسطينية التي ورد ذكرها تصريحا أو تلميحا أو دلالة في الشعر العربي القديم كما وجاء على ذكر اهم الشخصيات الفلسطينية التي ورد ذكرها في الموروث الشعري العربي القديم بعد تقسيمهم إلى فئات منهم الشعراء والفقهاء والعلماء والتجار والقادة والحكام كما صنف الشعراء الذين تحدثوا في فلسطين شعرا إلى فئات أيضا فمنهم الوافدون والمقيمون والمواطنون والزائرون والعارفون والمحبون ثم قسم أزمان حركة الشعر في فلسطين ولم يبتعد عن البحث في اهم الشعراء الذين وردت فلسطين في أشعارهم بما يكوّن مدونة معرفية بذلك الزمن وأحداثه لها دلالاتها الحضارية والثقافية والاجتماعية دون أن تكون سردا تاريخيا لكل عصر. ففي العصر الجاهلي مثلا جاء على ذكر أكثر من خمسة عشر شاعرا كالأعشى والطائي والنابغة الذبياني وأمرؤ القيس وابن أبي الصلت وغيرهم وليتنقل بين شعراء العصر الإسلامي والأموي باحثا في دفاتر وقوافي أكثر من ثلاثين شاعرا والى أضعاف هذه الأعداد مما جاء في شعراء العصر العباسي وما تبعه وأسماء كثيرة وهي متوفر بشواهدها ص77 وفي معرض تقسيمه مكانيا قسم فلسطين إلى ثلاثة أقسام. أولا: فلسطين المناطق الداخلية للاستشهاد بما كتب فقد أبحر في هذا القسم بتفصيل تسميات مدن الداخل واهمها القدس شارحا مكانتها وقدسيتها والبعد الروحي الذي دفع الشعراء للكتابة مستشهدا بأشعار عشرات الشعراء الذين جاءوا على ذكرها في أشعارهم فالشاعر الأعشى الكندي:( وقد طفت للمال أفاقه عمان فحمص فأورسالمُ) ص100 الفرزدق (وبيتان بيت الله نحن ولاته/ وبيت بأعلى إيلياء مُشرّفُ) عدي بن الرقاع العاملي (على منبر الوادي المقدس كله/ يروح بقول ثابت المتكلم) ص109 مروان بالحكم (ودع المدينة إنها مرهوبة/ واقصد لمكة أو لبيت المقدس) ص112 والشواهد كثير وهي إما صريح أو بالدلالة حيث ورد عشرات الشعراء الذين ذكرو لقدس بمناقبها وقدسيتها وما يدل على أثارها وأحداثها من امرؤ القيس بن اللوح فحسان بن ثابت فأمية بن الصلت فكعب بن مالك وغيرهم كثيرون إلى أن انتقل إلى مدينة الرملة حاضرة فلسطين وقصبتها حسب تقسيماته الداخلية والتي كان سليمان بن عبد الملك واليا عليها أيام الدولة الأموية وشيد فيها معالم كثيرة من دار الخلافة إلى مسجدها الكبير وليس أخرها حفر الآبار وقنوات المياه وإنشاء دور العلم فيها فعرج الكاتب على شخصيات المدينة المهمة وعلمائها وشعرائها شاجم الرملي وبدر اليماني واحمد أيوب الرملي وغيرهم من أبناء الرملة وحتى الشعراء الذين كتبوا عنها وفيها كالبحتري والمتنبي والمعري والفضل العباسي وابن هانئ الأندلسي وعلي بن الجهم البحتري ص129 (سقى الركب عامدين فلسطين ففيهم شخص إلينا حبيب/ يشهد الأنس حين يشهد فينا/ ويغيب السرور حين يغيب) المتنبي في وداع الأمير أبي الحسن الإخشيدي أمير الرملة فسماها بالاسم الرملة البيضاء ص136 (هذا الوداع وداع الوامق الكمد/ هذا الوداع وداع الروح للجسد/ إذا السحاب زفته الريح مرتفعا/ فلا عدا الرملة البيضاء من بلدِ). وبالدلالة على الشعر العربي في فلسطين وهنا مدينة الرملة وشؤونها ما جاء على ذكر حكامها العرب أبناء المدينة آل الجراح الذين امتد حكمهم من الرملة فلسطين إلى مدينة الفرما قرب بورسعيد حتى طبريا شمالا بقيا. حاكمها المفرج بن دغفل الجراح الطائي وأبنائه من بعده باعتراف الحكم الفاطمي لهم بذلك الشاعر التهامي في مدح حاكم الرملة والقصائد كثير واكتفي بما جاء في ص141(أغير مفرج تبغي كريما/ لقد حدثت نفسك بالمحال) ويقول في مقام آخر ص149 (أرى الرملة البيضاء بعدك أظلمت/ فليلي ليل ليس يفضي إلى فجر) ويقول ابن هانئ الأندلسي ص156(وما الرملة المقصورة الخطو وحدها/ بأول أرض ما لها عندك مفزع). ولا تقل مدينة اللد الفلسطينية ذكرا في هذا الموروث الشعري العربي القديم الذي افرد له أديبنا الموسوعي مساحة تغطي كل جوانبها سأذكر بعضا منها هنا للدلالة فقط والشواهد كثيرة.. ابن الأعرابي يقول ص 161 (فبت كأني اسقي شمولا/ تكز غريبة من خمر لدّ). عمر بن أبي ربيعة ص161 (حلت بمكة والنوى قذف/ هيهات مكة من قرى لدّ). أما الملف الأخر فهو فلسطين الغورية التي حددها الباحث من منحدرات اربد شمالا وطبريا وصولا إلى العقبة على ضفتي نهر الأردن والبحر الميت شرقا الأردن وغربا فلسطين المتنبي على ذكر طبريا ص 188 (ورد إذا ورد البحيرة شاربا/ ورد الفرات زئيره والنيلا). وفي ص194 للمتنبي في ذكر الغور (لولاك لم اترك البحيرة وال/ غور دفيء وماؤها شبم). حسان بن ثابت ص208 (من خمر بيسان تخيرتها/ دراقة توشك فتر العظام). والشاعر أبو نواس عند وصوله لبيسان ص208 (وقاسين ليلا دون بيسان لم يكد/ سنا صبحها للناذرين ينير). ولأريحا عاصمة الغور مكانتها لدى الشاعر ابن سنان الخفاجي ص216 (وغني عن مواهب المزن يا غور فقد صارت البحيرة بحرا). وكذلك علي بن الجهم (وخاض بحر أردن العميقا/ وجعل البحر له طريقا). (وحرقت من خان في أريحا وفتح الله به الفتوحا) ص 217 أما الملف الثالث حسب تقسيمات الأديب الباحث د. عبد الحميد المعيني فهو يشمل فلسطين الساحلية فبعد أن رسم أبعادها وحددها قام برصد قبائلها والقادمين إليها وحكامها ومعاركها وما جاء على ذكر مدنها شعرا عبر العصور القديمة. ففي الأموي الشاعر زفر بن الحارث الكلابي وعن واقعة مرج راهط على أطراف دمشق ص225 (إن السموة لا سماوة فالحفى/ بالغور فالإفصاح بئس الموئل/ فجنوب عكا فالسواحل كلها/ أرض تذوب بها اللقاح وتهزل). ويحسب للباحث انه لم يترك شواهده الشعرية إلا وفسر مناسبتها والأحوال التي قيلت فيه مما يعطي الدارس والقارئ ميزة الرجوع بالزمن والعيش المؤقت مع تلك المرحلة بسلمها وتجارتها وموانئها وعاداتها وحروبها ومنازعاتها والمشاركة في أحداثها. فالبحتري مثلا في فائيته الإبداعية المتميزة ص234 (دوافع في انخراق البر موعدها/ ومدافع البحر من بيروت أو يافا/ حتى تحل وقد حل الشراب لنا/ جنات عدن على الساحور ألفافا(. ولعسقلان المدينة الكنعانية العريقة القاعدة العسكرية المشهورة للخليفة عبد الملك بن مروان وفي عسقلان صناعة النسيج والأصباغ ومعاصر الخمور ودار سك النقود ودور العلم وحكمها أيضا النفرج بن دغفل الطائي وولده حسان بن الجراح وبعد التسلسل بتاريخ هذه المدينة وحقبها يستشهد بشعر أبي تمام ص 242: )سار ابن إبراهيم موسى سيرة/ سكن الزمان لها وكان شموسا/ كانت مدينة عسقلان عروسها/ فغدت بسيرته دمشق عروسا). ونلاحظ هنا أن أشعار هذه البلاد كانت ترصد كل التواريخ والأحوال السائدة الشاعر بكر بن النطاح ص243 (وصبح صبحا عسقلان بعسكر/ بكى من أهل الروم بالعبرات). أما غزة العزة مدينة الشافعي المدينة الساحلية العريقة على طريق مصر وبوابتها، الشافعي بعد أن رحل عن غزة ص244 (واني لمشتاق إلى ارض غزة/ وإن خانني بعد التفرق كتماني). ثم يقول ذاكرا سادة قريش إشارة إلى ضريح هاشم بن عبد مناف فيها (وأبكي لك الويل أما كنت باكية/ بعبد شمس بشر البنيات/ وهاشم في ضريح وسط بلقعه/ تسفي الرياح عليه بين غزات). هذا الكتاب موسوعي في طريقة ومنهج بحثه موسوعي في موضوعاته الجزئية وتفصيلاتها موسوعي في كمية المادة والشواهد على كل معلومة وحدث سخر الأديب عبد الحميد المعيني عنوان بحثه «الشعر القديم في فلسطين» ليأخذنا إلى عوالم في الظلال سواء في شخصيات البلاد ام في أحوالها الاجتماعية والسياسة والعسكرية ذاكرا ما لزم للاستشهاد فيه شعرا من الجغرافيا المواقع والأنهار والجبال وما جاء على أهميتها في الشعر في فلسطين والتاريخ متماشيا مع العصور والأزمنة والحكام والشعراء والتجار والقادة والقبائل والعشائر واهم المواقع الحربية التي خدمت بحثه الموسوعي هذا. وأخيرا الكتابة عن هذا المنجز القيم ستظل قاصرة. جريدة الدستور الاردنية الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 22-11-2024 10:00 مساء
الزوار: 22 التعليقات: 0
|