|
عرار:
أُسَيْد الحوتري رواية «السيح» هي الجزء الثالث ومسك ختام ثلاثية الثورات الكبرى للروائي مجدي دعيبس. أولى هذه الثلاثية رواية «الوزر المالح» وتسرد قصة الثورة العربية الكبرى التي أطلق الشريف الحسين بن علي رصاصتها الأولى من مكة المكرمة عام (1916) ضد حكم حزب الاتحاد والترقي القومي المستبد الذي أقصى آل عثمان وسيطر على مفاصل الدولة العثمانية آنذاك. أما الرواية الثانية (قلعة الدروز)، فتروي قصة الثورة السورية الكبرى التي انطلقت شرارتها عام (1925) من جبل حوران ويسمى جبل الدروز أو جبل العرب الواقع في جنوب سورية، وكانت ثورة ضد المحتل «الاستعمار/ الانتداب» الفرنسي. انضم عدد من المقاتلين من سورية ولبنان والأردن إلى ثوار جبل العرب وكانوا تحت قيادة سلطان باشا الأطرش. أما مسك الختام فكانت رواية «السِّيح» التي تسرد قصة الثورة العربية في فلسطين الانتدابية: إبان الاحتلال «الانتداب» البريطاني. قامت الثورة ضد إدارة المحتل البريطاني ومن معه من العصابات الصهيونية، واستمرت من عام (1936) إلى عام (1939)، وعُرفت لاحقا باسم «الثورة الفلسطينية الكبرى». انطلقت الثورة من مدينة طولكرم الفلسطينية، وتبنّى الفلسطينيون في ثورتهم المقاومة السلمية ثم انتقلوا إلى القتال المسلح. طالب الثوار بالاستقلال عن المحتل البريطاني، وإنهاء سياسة الهجرة اليهودية، وشراء الأراضي، والتخلي عن الهدف المعلن والمتمثل في إنشاء «وطن قومي يهودي» في فلسطين. كانت الثورة الفلسطينية الكبرى امتدادًا زمانيًّا ومكانيًّا وثقافيًّا للثورتين السابقتين، وهكذا كانت أحداث رواية «السّيح» بالنسبة للروايتين السابقتين. الأردن والثورة الفلسطينية الكبرى: فور الانتهاء من قراءة «السّيح»، يتبادر إلى ذهن القارئ سؤال بريء: كيف تكون أهم شخصيات الرواية من الأردن مع أنّها تتحدث عن الثورة الفلسطينية الكبرى؟ هذا السؤال المشروع يجيبُ عنه التّبحر في مسألة المكان في ذلك الوقت؛ فللمكان دور رئيس في ثلاثية الثورات عموما وفي «السّيح» على وجه الخصوص. امتد المكان في رواية «الوزر المالح» من الأردن وفلسطين ليصل إلى وسورية وتركيا، وكان المكان حينها جغرافيا عثمانية؛ الأناضول التركية والولايات العربية العثمانية. أما المكان في رواية «قلعة الدروز»، فتوزع بين سورية تحت الاحتلال «الانتداب» الفرنسي والأردن تحت الانتداب البريطاني. أما بالنسبة لرواية «السّيح» فتنقّلتْ أحداثها بين الأردن وفلسطين تحت الاحتلال البريطاني. ومما سبق، نرى أن الأردن هي حلقة الوصل التي تجمع بين جغرافيا الروايات الثلاث. وهذا بلا شك ما يودّ الروائي الأردني مجدي دعيبس أن يؤكد عليه عبر ثلاثية الثورات، فالثورة العربية الكبرى انطلقت من مكة/ الحجاز، جنوب الأردن. والثورة السورية الكبرى من جبل حوران/ سورية، شمال الأردن، والثورة الفلسطينية الكبرى من طولكرم/ فلسطين غرب الأردن. والأردن بالأمس واليوم هي تحت القيادة الهاشمية التي أطلقَ جدها الحسين بن علي الثورة العربية الكبرى التي كانت أمّ كل الثورات اللاحقة، وكانت الأردن الداعم لها بالسر أحيانًا وبالعلانية أحيانًا أخرى. كما يُلاحظ أنه بعد سقوط الدولة العثمانية في نهاية الحرب العالمية الأولى عام (1918) وانتصار الحلفاء، فرض البريطانيون والفرنسيون سيطرتهم على الولايات العربية من الأراضي العثمانية: بلاد الشام والعراق. وبحسب اتفاقية (سايكس-بيكو)، احتلت فرنسا سورية ولبنان، واحتلت بريطانيا العراق وفلسطين، وكانت فلسطين آنذاك تضم خريطة فلسطين المحتلة الحالية بالإضافة إلى خريطة المملكة الأردنية الهاشمية الحالية. وفي عام (1921)، قرر سلطات «الانتداب» البريطاني منح العرب الموجودين شرقي نهر الأردن في «فلسطين الانتدابية» حكما ذاتيا، فقامت «إمارة شرق الأردن» ذات الحكم الذاتي. وهكذا، كان العرب شرقي النهر وغربيه في ذلك الوقت في جغرافيا واحدة، وفي دولة واحدة أُطلق عليها «فلسطين الانتدابية»: أي فلسطين تحت «الانتداب» البريطاني. لذلك يجب ألا يستغرب القارئ من كون معظم الشخصيات الرئسية في «السّيح» من جبل عجلون الأردني، لأنه كان فلسطينيا في تلك الفترة من الزمن. فالأحداث كلها تدور في فلسطين ذلك الوقت. هذا من جانب، ومن جانب آخر، فقد أشارت الرواية إلى أن السلاح كان يهرّب إلى الثوار الفلسطينيين: «كان الإنجليز يعرفون أن حركة تهريب السلاح نشطة من خلال مخاضات نهر الأردن»، (دعيبس، 12)، كما وتؤكد الرواية على صلة القربى والنسب بين العائلات شرقي نهر الأردن وغربيّه، وكان زواج لطفي السايس العجلوني بتركية مالك قنديل من دير غزالة قضاء جنين، وزواج مقبول لطفي السايس من بهيجة قنديل خير مثال على رابطة النسب والدم. البناء السردي وعناصر التصوير الفوتوغرافي: اتّبع دعيبس عمومًا نهجًا واحداً في بناء ثلاثية الثورات، معتمدًا على ما يمكن أن يُطلق عليه «قاعدة تكوين الصورة الفوتوغرافية»، وهو ترتيب مقصود ومدروس لعناصر الصورة داخل إطارها. كما يمكن مقارنة ترتيب العناصر داخل الصورة بالإيقاع الموسيقي، فهذا الترتيب البنيوي لعناصر الصورة داخل الإطار هو نوع من السرد البصري المتوازن والمنسجم والماتع. أما عناصر الصورة الفوتوغرافية فتتكون مما يأتي: أولا، المقدمة وهي النقطة الأقرب إلى عدسة الكاميرا والموجودة داخل إطار الصورة. ثانيا، الوسط وهو المنطقة المركزية في الصورة؛ بين المقدمة والخلفية، وتشتمل على الموضوع الرئيس للصورة. ثالثا، الخلفية وهي الجزء الأبعد من عدسة الكاميرا وتتوفر فيها عناصر ومعلومات سياقية خاصة تكمّل قصة الصورة. هذه العناصر الثلاثة: المقدمة، الوسط، والخلفية هي التي تسرد قصة الصورة بالكامل. كانت مقدمات الروايات الثلاث والتي تقوم مقام مقدمات الصور الفوتوغرافية تعكس السياقات العامة للمجتمع الذي تتحدث عنه الرواية؛ السياقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. في «الوزر المالح» صوّر دعيبس معارك من الحرب العالمية الأولى وخصوصًا معركة غزة الأولى، والثانية التي صمد بها الجيش التركي وردّ الهجمات الإنجليزية، ثم جاءت معركة غزة الثالثة التي انهزمت فيها القوات التركية، وتراجعت وخرجت من القدس دون قتال! كما صوّر الكاتب العلاقة المتوترة بين سكان قرية الحصن والقوات التركية بسبب الضرائب والتجنيد الإجباري. أما في «قلعة الدروز» فعكست المقدمة سياقات مشابهة، أهمها استبداد الفرنسي، فعندما اصطدم أحد الجنود الفرنسيين بجدة نايف، لم يأبه بفعلته التي أدّت لوفاتها مما دفع نايف لقتله، كما كان الفرنسيون ينكّلون بالأهالي ويفرضون عليهم الغرامات الباهظة لأتفه الأسباب، بالإضافة إلى حرق الممتلكات كما حدث عندما أحرقوا دار أهل نايف، ناهيك عن المحاكمات العسكرية الصورية، وقصف دمشق التاريخيّة بالمدافع. أما مقدمة صورة رواية «السّيح» فعرضت سياق الاحتلال البريطاني وظلمه وبطشه بالأهالي، فقد عُذب سند عذابًا أليمًا، وحُبس لمدة سبع سنين لمجرد الشك فيه، ودون أن يكون قد ارتكب أي فعل ضد الإنجليز، كما كان العقاب الجماعي ينزل بأي قرية يُشك بأن فيها مقاومين. أما العنصر الثاني (الوسط) لصور ثلاثية الثورات فكانت قصص الحب؛ في «الوزر المالح» تتبعنا قصة حب الضابط سليم التركي ومريم الأردنية، وهي العنصر المحوري الذي حرّك الأحداث الرئيسة في الرواية، وفي خلفية الصورة، نرى الثورة العربية الكبرى كسياق تاريخي اتكأت عليه الرواية. في «قلعة الدروز» شكّلت قصة الحب بين نايف وبيسان وسط الصورة، وفي خلفيتها دارت رحى الثورة السورية الكبرى. وفي «السّيح» توسطت قصة حب لطفي وتركية مركزية الصورة، وفي خلفيتها تدحرجت كرة ثلج الثورة الفلسطينية الكبرى. بناء بديع اتبعه الروائي في ثلاثية الثورات اعتمد فيه عن قصد أو عن غير قصد على بناء الصورة الفوتوغرافية، فعكست مقدمات الصور السياقات العامة المتعددة التي عاشها المجتمع، ونَقَلَ وسط الصور قصص الحب، وفي خلفيات الصور جاءت الثورات في سياقها التاريخي الخاص كنتيجة طبيعية للمقدمات العامة التي أرهقت الناس وأثقلت كاهلهم. «السّيح» قصة حب استثنائية: ارتدى الحب في «السيح» ثوبًا مغايرًا عن معظم قصص الحب المشهورة؛ كان حبًا من طرف واحد ابتداء، وتخلل هذا الحب صراع، وسبقه جريمة يعاقب عليها القانون وترفضها العادات والتقاليد، إلا أن الوضع الفلسطيني المتأزم دائما يمكن أن يتقبّل بشكل أو بآخر حبًا بهذه القسوة وبهذا العنف والهوس. في «الوزر المالح»، تنتهي قصة الحب بموت مريم، وفي «قلعة الدروز» تؤول قصة الحب إلى مقتل نايف غيلة، أما في «السيح» فيتزوج العاشقان، وينجبان، ويهرمان معًا، وعند وفاة تركية تنتهي قصة حب، وتبدأ قصة جديدة بطلاها مقبول (ابن تركية) وبهيجة (ابنة شقيق تركية) ويتحول هذا الحب إلى زواج ويثمر أسرة وأطفالًا. وكأن الروائي دعيبس يريد أن يقول بأن الثورة الفلسطينية الكبرى التي بدأت وما زالت مشتعلة إلى يومنا هذا بحاجة ماسة إلى الأمل، لذلك كانت نهاية «السيح» بداية جديدة لحب جديد، ولاتحاد متين رصين في زواج مقدس، ولدماء شابة تواصل مشوار الثورة على المحتل، كائنا من كان. في المشهد الأخير من الرواية «كان مقبول واقفًا ومتعكزًا على عصا طويلة لها قاعدة يضعها تحت إبطه. كانت تقف إلى جواره امرأة جميلة ببطن متكور ووجنتين منمّشتين يحف بثوبها ثلاثة أطفال متقاربي الطول وفيهم ملامح من ذكريات بعيدة» (190). وبرواية «السيح» تنتهي ثلاثية الثورات، وبذلك الحب الجديد والأمل الفريد تصل «السّيح» إلى نهايتها، ولكن لمّا تنتهي الثورة الفلسطينية بعد، فهي مستمرة في غزة حتى الساعة، وإنها لثورة حتى النصر. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الخميس 16-01-2025 10:11 مساء
الزوار: 43 التعليقات: 0
|