|
عرار:
زياد صالح الزعبي/ جامعة اليرموك «تأكيد الذات هو تأكيد الحياة، والموت الذي ينتمي إلى الحياة»، هذا ما جسده محمود درويش في حياته وشعره. لقد مثل على نحو مدهش شهوة الحياة الجامحة المقترنة بالموت الفردي والجماعي في آن، فلقد عاش حياته كلها وهو يحدق بشجاعة في الموت المقترن بها. ربما كانت شجاعة اليأس التي لا توازيها شجاعة كما يقول الرواقيون عشاق الحياة. لقد تأمل درويش الشاعر المثقف العميق الثقافة من خلال تجربته وثقافته هذه الحال وعبر عنها في كل ما كتب تعبيرا متصاعدا مكثفا يتماثل مع معاينته اقتران الموت والحياة، ودواوينه الشعرية الأخيرة، ونصه الجامع في حضرة الغياب، وقصيدته «لاعب النرد» التي نشرت قبل شهر من وفاته تقدم نماذج للقبض على الحياة في حضرة الموت. هذه الظاهرة التي ألحت وظلت تلح عليه باطراد وتصاعد تنبئ عن بنية سيكولوجية تدفع إلى البحث عن سبل للتغلب على الموت الفردي والجماعي. من هنا جاء إلحاح درويش في التعبير المتكرر عن الحياة التي أفلتت من مخالب الموت؛ ولذا فهو يرى أنه عاش مصادفة، وأخطأه الموت مرارا، أو أجله كان يمكن ألا أكون كان يمكن ألا يكون أبي قد تزوج أمي مصادفة أو أكون مثل أختي التي صرخت ثم ماتت ولم تنتبه/ إلى أنها ولدت ساعة واحدة ولم تعرف الوالدة لقد تكررت هذه التصورات عشرا إن لم يكن مئات المرات في شعر درويش وكتاباته، وهي تصورات تستدعي قراءتها من مدخل سيكولوجي وجودي، قراءة تقف على شخصية استثنائية في تجربتها الإنسانية المنبثقة من الاطار الجمعي للشعب الفلسطيني الذي تحاول الأسطورة المسلحة بالقوة الوحشية إلغاءه عبر اقتلاعه من أرضه، الأسطورة التي اقترنت بالموت والقتل الجوال الذي يطارد شعبا عصيا على الإلغاء، شعبا يعبر عن وجوده الحي الحيوي من خلال التشبث بأرضه ومقاومته وهويته ومن خلال بناء وطن بالكلمات كما قال درويش ذات مرة « لقد بنيت بالكلمات وطنا لشعبي ولنفسي «، هذا الوطن الذي يسكن الإنسان حيثما كان أو يكون. ودرويش في تجربته الفردية – الجماعية نموذج للذات الإنسانية الساعية للتغلب على الموت وأرق الوجود بشجاعة من يعرف الخوف، ولكنه يقهره، يرى الهوة ولكنه ينظر إليها بشموخ، بشجاعة من يخلق الأمل حين يتبدد. وبقوة الخلود الذي تصنعه الأسطورة التي يخلدها الفن، وبفنه استطاع درويش أن يجاوز حضوره الزمني والمكاني الآني؛ ليغدو روحا حرا، روحا يستطيع أن يستعيد ما لا يستعاد؛ الماضي والطفولة، روحا يستطيع أن يمضي إلى حيث يريد من الأمكنة والأزمنة. لقد عبر درويش عن هذه الحال في صور ذات أبعاد نسقية متكررة تمثلت في التجريد؛ في رؤيته ذاته متحررة منه ذاهبة إلى ماضيه حينا، وإلى ما سيأتي حينا آخر، فهو يخاطب ذاته في مفتتح نصه «في حضرة الغياب»: «ولنذهبن معا أنا وأنت في مسارين: أنت إلى حياة ثانية وعدتك بها اللغة، في قارئ قد ينجو من سقوط نيزك على الأرض، وأنا إلى موعد أرجأته أكثر من مرة مع موت وعدته بكأس نبيذ أحمر في إحدى القصائد». يتجلى في هذا النص كيف يستطيع الإنسان درويش أن يتجاوز الوجود المتناهي للبشر، ليذهب إلى وجود ذي طابع أبدي عبر عنه في البقاء في اللغة التي تظل حاضرة حتى لو ظل هناك قارئ نجا من سقوط نيزك على الأرض. هنا يصوغ درويش تصوره عن الحياة الثانية حياته في منجزه، ولذا فإن الرؤية الوجودية تؤشر على الوجود المتناهي للإنسان المحكوم بالموت، وعلى الوجود الأبدي، الخلود، الذي يجاوز الوجود الجسدي الفسيولوجي للبشر. هل كان إدراك درويش الثنائي هذا سبب سعادته أو تصالحه مع الموت في حوار صحفي أجاب عن سؤال: ما الذي يشعرك بالسعادة؟ بالقول: أشعر بالسعادة حين أنهي العمل. والعمل العظيم الذي أنجزه درويش هو الشعر الذي سيظل موجودا حتى لو في قارئ واحد سينجو من سقوط نيزك على الأرض. هنا ندرك أن جلجامش الباحث عن الخلود تلاشى، لاشاه الموت، ولكنه عاش في الأسطورة، في اللغة، ودرويش يعي هذا على نحو فذ: كم من الوقت / انقضى منذ اكتشفنا التوأمين: الوقت والموت الطبيعي المرادف للحياة؟ ولم نزل نحيا كأن الموت يخطئنا فنحن القادرين على التذكر قادرون على التحرر سائرون على خطى جلجامش الخضراء من زمن إلى زمن هنا الآن يحضر درويش بصورته على الصفحة الأولى من جريدة «معاريف»، وقصيدته عابرون في كلام عابر معبرنة، لا لعظمتها الفنية، بل لأنها تذكرهم بمستقبل لا بد آت، مستقبل كل من مر على هذه الجغرافيا ومضى كأن لم يكن، مضى وخلف لغة تحفظها صفحات التاريخ المثقلة بالدم والجرائم وأسماء الغزاة الغريبة على اللغة والأرض مقرونة بمن ظل وفيا صبورا وشجاعا في مواجهة حملات الذبح والتدمير. يأتي صلاح الدين بعد ثمانية وثمانين عاما ليعيد للأرض لغتها ولونها وثيابها، ويزيل من أرجائها تلك الصور الغريبة العابرة. يعبر المغول بغداد مستبيحين فيها كل من وما في طريقهم من البشر والحجر والكتب والحبر، سنتان فقط ويأتي قطز وبيبرس ليطهرا الأرض من القتل والدمار. ينتهي المغول في عين جالوت التي تجاور حطين، وهما مكانان فلسطينيان تطل عليهما أم قيس بعيني صقر أسطوري رأى خالد بن الوليد واليرموك وطبريا وما حولهما، وظلت تردد «عابرون في كلام عابر»، كلهم جاءوا بنية القتل ومضوا وظلت الأرض تحتضن أهلها أحياء وميتين، وتحفظ أسماءهم وقبورهم وشواهدها، ولكنها لا تذكر من عبروا من هنا إلا للعبرة. سيذكر أحفادنا أنهم مروا من هنا، وسيقرأون نص درويش ويختصمون فيه، ولكنهم سيفهمون أن الأرض لا ترحل، وأن أهلها ربيع يتجدد، وأن الغزاة والطغاة سينصرفون تاركين ندبا سوداء في كتب التاريخ فحسب، لأن لأهل الأرض الدنيا والآخرة. آن أن ينصرفوا ويقيموا أينما شاءوا، لكن ليس بيننا هنا. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الخميس 21-11-2024 10:12 مساء
الزوار: 21 التعليقات: 0
|