إبراهيم خليل علاوة على مجموعاته القصصية الرحى، والدواج، وموت عزرائيل ، وشجرة على الرأس، ونحت آخر لتمثال المفكر، صدرت لمفلح العدوان عن دار أزمنة مجموعة أخرى بعنوان موت لا أعرف شعائره. وهي مجموعة تهيمن عليها كسائر مجموعاته المذكورة ظاهرة التجريب. لا بمعنى البحث عن طرق جديدة لكتابة القصة تضيف إلى ما هو سائد من طرائق طريقة أخرى، وإنما بمعنى الإفلات، والتحرر، من قواعد الكتابة، واعتماد المزج بين محاكاة الواقع والانتفاع بتقنيات السرد الغرائبي، وتجاوز هذا السرد إلى ما هو أكثر بعدا عن الواقع مقتربا من العجائبي. فهو في القصة الموسومة بعنوان «موت لا أعرف شعائره» وهي أولى قصص المجموعة، ومنها أتخذ عنوانا لها، يختارُ بطلا مخمورا لحكايته – إذا ساغ التعبير- انتهى من ثلاثة كؤوس كاملة، وهو في طريقه لتجرع الكأس الرابعة. ومن مظاهر السكر التي عبثت بعقله، وتفكيره، اعتقاده بأن كل كأس من الكؤوس يعادل عشرًا من العمر، فهو، بناءً على هذا، في عمر الأنبياء : أربعين سنة لا تزيد ولا تنقص. وهذا الهذر الذي يندلق على لسان السارد يعني أن المؤلف يقودنا في طريق غير مألوف، ولا هو بالنهج المعروف. يضاف إلى هذا أنه- أي المخمور - يتأرجح بين الوعي والهذيان، إذ يتحدث عن جهاز الحاسوب، ويتراءى له أن هذا الجهاز كمن يتحكم في العالم، فهو تارة صحيفة، أو لوحة شفافة، ناعمة، لا شيء فيها، وطورًا سماء زرقاء صافية، أو غيوم، وحدائق غناء بأزهار، وبمزيج من الألوان التي تتبلور بِدعًا تسرُّ الناظرين. ففيها غابات تؤمها الأطيار، وفيها جنانٌ تشقّها الأنهار، وفي لحظة، أو بنقرة على لوحة المفاتيح يتحول كل شيءٍ إلى شيءٍ آخر. سماء شديدة الزرقة، وشمس خفيفة الوطء. وهذا المخمور يتحكم بالشاشة، وبلوحة المفاتيح، معجبًا إعجابا شديدًا بما تصنع يداه. فيخيل له أنه يلهو بالعالم. يخاطبُ نفسه تارةً، وطورا يروي ما يقع من أحداث لشخص آخر كأنه شخصيتان في واحدة، تتناوبان فيما بينهما، لا يفرق بين النوبة والأخرى إلا بالفراغ الذي يفصل، بمقدار سطر يتسع لثلاث من النجوم، بين الفقرة، والفقرة. وعلى عادة مفلح العدوان في إثارة الارتياب فيما هو في حكم المسلَّمات عن الإيمان، والمعتقدات، سواء منها ما يتعلق بالحياة أو الموت، أو بالحساب والعقاب والثواب، يطرح في هذه الحكاية على لسان هذا المخمور، وهو يحتسي كأسه الرابعة، مثل هذه الأسئلة. وهنا لا بد من التنبيه على حقيقة يغفل عنها كثيرٌ من الناس، وهي أنّ مشاعر البطل، وأسئلته، وآراءه، وأفكاره، لا تعبر بالضرورة عن رأي الكاتب صاحب النص. فالمؤلف يخترع شخوصًا، ولهذه الشخوص استقلالها عنه، لا من حيثُ هي أناسٌ فحسب، ولا من حيث هي أدواتٌ للتعبير الفني، والجمالي، بل هي أيضا شخوصٌ مستقلة عن المؤلف في جلّ ما يصدر عنها من أفعال، ومن أقوال، ومن تساؤلات. فقد تنطق ألسنتها بما لا يؤمن به الكاتبُ المؤلف سواءٌ أكان مفلح العدوان، أم غيره. أين الطقوس؟: هكذا يتراءى لهذا المخمور، وهو في كأسه الرابعة أنه قد مات، ودُفن دفنا في قرص مدمج مما تحفظ عليه الملفات، وتَغلْغلَ بعيدا، وتوارى جثمانه بين الرقائق الكثيرة التي يتشكل منها جهازه الذي لا تظهر منه إلا الشاشة، ولوحة المفاتيح. ولهذا يتحدث المخمور، وهو ميت، متواريا في قبره الـ ((C.D متسائلا أين الطقوس: طقوس الدفن.. غسيل الموتى.. المشيعون.. مائدة غسل الموتى .. الماء والصابون.. القطن.. والكفن وما تبقى من توابع الفراق؟؟.. ثم يصرخ قائلا: اريدُ حقّي في موت أعرفُ شعائره. (ص 12) كأن هذا موت، ولا يعرف شيئًا من شعائره. على أن المخمور، مثلما يتَّضح لم يمت، بدليل أنه في فقرة جديدةٍ، تتلو هذا الصريخ، يحدق شزرًا في الشاشة، ويفكر بتحدٍ، وفي عنفٍ، لاهيا بما يتاح له من برامج موجودة على الوورد، منتهيًا بشيء من الإحساس بالرضا. فبدأ بتخزين البرنامج الذي سره على ذاكرة الحاسوب. وذلك قبيل أن يضيق بالدفن: كـرّرت الطّرق على جدران القرص الذي دفنت فيه. رحت أدقُّ بعنف أكثر. حيرني توجُّسي من موتي.. برودة مراسيم جنازتي .. ومراسيم دفني. كلُّ شيء غامض. كنت أريد أن أرث الموت الذي أعرفه» (ص 14). ثم يعود بنا هذا المخمور ثانية لحديث الشاشة، وهو حديث متكرر، أو شبه متكرر، إذا أردنا الصحيح. الشاشة منبسطة كمرآة. لا أحدَ يعصي أوامره بما في ذلك الأزرار المزروعة على لوحة المفاتيح Keyboard تحت أصابع يديه كأسْطر في كتاب(ص15). حساب القبر: وفي تطور آخر يعود المخمور بنا لإثارة التساؤلات التي سبق له أن أشار لبعضها عن الموت والدفن. فعلى الرغم من انتظاره لم يأته الملكان المحقّقان عن يساره وعن اليمين، فيسأله كل منهما عما قدم لنفسه من أعمال تقتضي الثواب، وأخرى تقتضي العقاب. ثم تندفع التساؤلات التي تنمّ على ارتيابه، وشكوكه، فيما ثَقِفهُ سابقا من معرفة بالثواب والعقاب، وبيوم الحساب. فاللامعنى هو الحقيقة الوحيدة في هذا العالم. لقد تم نسفُ الماضي بإرثه المحفوظ في الذاكرة (ص18). إطناب: ومع أنّ ما سقناه عن القصة كافٍ للإبانة عن مجريات الحدث، إذا سلمنا بأنَّ ما يُروى حدثٌ – عن عالم هذا المخمور الذي اندغم لديه ما تظهره البرمجية الحاسوبية، وما يتبدى لنا في عالم الواقع، وعالم الغرائب الكائن في خيالات هذا المخمور، وأوهامه، فإنّ ما يُلحظ على نسيج القصة الطول الذي ينم على أن المؤلف تجنب التركيز، وانزلق إلى الإطناب. فالإطالة المتعمَّدة أوقعت المؤلف في التكرار، فلم يزد بعد الذي أشرنا له، ونبهنا عليه، إلا ما لا يُؤبه له. فالفكرة من القصة، والتساؤلات المثارة، أوضحت التوجه الذي انمازت به شخصية المخمور. وقد يكون ما ُذكر ثانية عن القرص، والشاشة، والمفاتيح، من قبيل التكرار الذي حسمه المخمور بقوله في نهاية الأمر « الصداع يأتي دائما بعْد الخمرة الرديئة «. أي أنه يعتذرُ لأنّ ما سبق ذكره من قبيل اللامعقول. وأن مجرد الخروج من حال السكر إلى حال المكاشفة، والصحو، يحرر الذات من تشويش الذاكرة. وما يلفت النظر، في القصة، خروج المؤلف على تقاليد هذا الفن. فالشخصية - ها هنا - ليست شخصية بالمعنى التقليدي، بل هي مجرد شبح. والواقع الذي تصفه من زمان، ومن مكان، لا يعدو كونه أوهامًا، وخيالاتٍ، تتجلى، وتختفي في ما يتخيله هذا الشبح. والأسئلة التي تطرح، والإجابات التي يوحى بها من حين لآخر، تمثل هواجسَ، وظنونًا لا يبلغ الراوي فيها حدود اليقين، ولا حتى شبه اليقين. فالقصة الموسومة بهذا العنوان المثير، الملبس، تسلط الضوء على الجانب المظلم، والغامض، من وعي الإنسان بنفسه، وبالعالم. الطين: ولئن كان المخمور العجائبي في قصة «موت لا أعرف شعائره « نموذجا غارقا في الهلوسة، والهواجس، التي تداهمه مع وجوده أمام جهاز الحاسوب، يمثل تحديا تارة، وتارة يمثل قبرًا.. فإن السارد في « تناسخ» ليس إنسانا مخمورًا، ولا يقظا، وإنما هو الطين. ولعله بهذه القصة يذكرنا من حيث أراد، أو لم يُردْ، بما يقال عن أن الله خلق آدم من طين. وخلق الملائكة من نور، أو من نار. ويذكرنا من حيث أراد، أو لم يرد، بقصيدة مشهورة لإيليا أبي ماضي يؤكد فيها الشاعر ما ُذكر عن أنّ الإنسان خُلق من طين. والسارد في هذه القصة كأنه لا يوقن بحكاية الطين هذه، وعلاقته بالخلق. فالخزافون الذين يصنعون بدواليبهم الأواني، لا يفتأ الطين يعاتبهم لما يلحقون به من دَوار نتيجة تحريك الدواليب حركة دائرية مستمرة عابثين بطهارة الطين، وقدسيَّته، فهم يصوغون اشكالا لا بشرًا: (مزهرية. برواز، قلم، أنف، أذن، سرة، حشرة ، إصبع ، قلب، تمثال) وهو لا يفتأ يتساءل: أيُّ اغتصاب أزلي هذا. فقد آن لهذا الطين أن يثور وأن يتمرد، فيرفض أن يكون مادة طيعةً، لزجة، ولدْنةً بأيدي الخزافين، وَسَدَنة الفخار. فهذا لا يعدو كونه تآمرًا على الجميع، ومن الجميع (ص26) : « لمذا يجسِّدونني على الأرض؟ كوخًا حينًا، وحينًا قصرًا. تارة كعبة، وطورًا ملهى. أيّ فِصام هذا الذي يتلبَّسُني؟ « (ص27). ويزداد إحساسًا بهذا التآمر كلما أحاط به الصمت. فلا أحدَ يحس بما يعانيه، فحتى السماءُ التي صارت طينًا مثله، ودولابا يدور بلا توقف، لا تحسّ بما هو فيه. الخلاص: يريد الطين خلاصًا من هذه الحال، فلا يجد بدًا من أن يكون كلُّ شيء طينًا مثلما هو، فبهذا يرى جلّ ما حوله سلالة من طين، تؤكد صحة الإيمان بالتناسخ. فجل ما حوله صورةٌ ممسوخةٌ من جوهره هو. أي أن جرثومته الترابية انتقلت إلى السماء كما لو أنها عدوى. صمَتَ الطين، وتوقَّفَ الخزافون، وتوقفت الدواليب. دهشوا عندما لاحظوا أنّ مادة الطين أخذت تتحلل، وتعود إلى طبيعتها الأولى. أتربة جافة كما الغبار فوق الدواليب، وفوق الصخور، والأبنية، والبشر، والأثاث. وما هي إلا لحظات معدودات حتى هبت رياح، وأخذت تذرو ذلك التراب، وتلقي به على وجوه الخزافيين. فالطينُ كالمخمور، يروي لنا هذه الحكاية – ولو أنها ليست حكاية بالمعنى الدقيق _ لا يريد أن يصدق الرواية التي تؤكد أننا كلنا من طين، وإلى الطين نعود. بل يريد القول: إن الإنسان في هذا الزمان نَسي مثلما نَسي أشياء كثيرة أنه من طين . وهذه هي الحقيقة. وهذا يحتاج لاستدراك لا مناص من التنبيه عليه، وهو أن الطين - ها هنا - لا يعبر بالضرورة عن رأي مفلح العدوان. إذا ينبغي علينا أن نتجنّب الخلط بين المؤلف وأي شخص من شخوص القصة، أو الرواية. والطين - ها هنا - بمنزلة البطل السارد في أي قصة قصيرة تُخلص لتقاليد هذا الفن. لكن نزوع الكاتب للتجريب، وتوخيه وسائل جديدة في الكتابة، ورموزًا تحتمل دلالاتٍ محدّدة، صرفه عن اتخاذ النموذج الإنساني ساردًا، وبطلا، واتخذ عوضًا عنه الطين. وفي جلّ الأحوال لا تعبر الشخصية - تقليدية كانت، أم غير تقليدية - عن رأي المؤلف. فالشخصية، بصرف النظر عن منبتها، وعن أحوالها، وعن صلتها بالواقع، أو بالعالم غير الواقعي، تعبر عن رأيها هي في الحدود التي تسمح بها طبيعة الفنّ القصصي، وأداة التعبير، وهي اللغة. رودان وبجماليون: في القصتين السابقتين يتلقى القارئ من الكاتب موقفين متقاربين، فكلُّ موقف منهما يمثل سؤالا مطروحًا منذ الأزل، وهذا قمين أن يضفي على كل من القصتين مغزىً، يُضاف إلى ما فيهما من تجريب وتحرر من تقاليد الفن القصصي، في غير مبالغةٍ، ولا غلوّ. بيد أنه في « نحت آخر لتمثال المفكر» يستقبل القارئ من الكاتب موقفا ثالثا يطرح سؤالا آخرَ عن العلاقة بين الحياة والفن. فتمثال رودان Rodin(1840- 1917) « المفكر « المنتصب في ساحة عامة أمام
المتحف بباريس، يقف السارد أمامه ذاهلا، متسائلا: أية أسرار تتكدّس داخل هذا الرأس؟ مشيرا لرأس التمثال الذي سبق له أن وصفه، ووصف وضعيته التي تتجلى فيها براعة الفنان الفرنسي. ويبتعد الراوي عن الواقع، وتدبُّ فيه روح التخييل. فما هي إلا لحظاتٌ حتى رأى الحياة تدبّ في التمثال، وتمرد على السكون المعدني الذي فرضه عليه النحات لعشرات السنين. وأما الزوار الذين اعتادوا مشاهدة « المفكر « في سكونه الثابت، فقد صُعقوا حين لاحظوه يتحرك بعد طول سكون. وعلى هذا النحو يشير المؤلف لاستبدال الخيال بالواقع، والحقيقة بالوهم. وقد تابع الساردُ التمثال في رفعه الرأس عن راحة اليد، وفي انحناء الرقبة حتى تلامس اليد، وفي ارتفاع الرأس مرة أخرى. وفيما ينفضُّ الجميع من المشهد، يغادر رودان مشغله إلى الساحة، مواصلا نحْت الرأس الذي سيكون جاهزًا أمام الجميع في اليوم التالي. والحكاية - ها هنا - لا تخلو من دلالة، ربما أومأ إليها الكاتب عن غير قصد، فالخيال الذي اشتطّ، وابتعدَ، حتى تصوّر الحياة تدبّ في التمثال دبيبَ الروح في الكائن الحي، يذكرنا بالأسطورة القديمة عن النحات بجماليون الذي عاش في قبرص، ونحت تمثالا من الحجر لامرأة في غاية الحسن (جالاتيا) ومن شدة إعجابه بها وقع في غرامها، مع أنها تمثال لا حياة فيه، ولا روح. ومن شدة عشقه الذي بلغ فيه حدّ الجنون أشفقت عليه الآلهة، وبعثت الحياة في جالاتيا. وكان سعيدًا بهذا إلا أن سعادته لم تدُم. فقد عاد ذات يوم ليجد جالاتيا تمارس أعمال البيت وفي يدها(مِكنَسة) فأثار هذا المشهد حفيظته، إذ لم يكن يتصور رؤية هذا الجمال الخارق تشوهه مِكْنسة، فتمنى على الآلهة أن تعيد جالاتيا إلى ما كانت عليه: تمثالا بلا روح. أي أن حرصه على نقاء العمل الفنى أقوى من حرصهِ على الحياة. وقد استجابت له الآلهة، وأعادت التمثال إلى وضعه السابق. وأصبحت جالاتيا حجرًا. هذه الأسطورة تذكرنا بها قصة العدوان عن « المفكر « لرودان. فهما نموذجان يعرضان لإشكالية العلاقة بين الحياة والفن. فإذا قُدر للفن أن يكون في غاية الإتقان، تمنينا له الحياة، وقلنا: لا تنقصه إلا الروح. ولكن إذا نُفخت فيه الروح، ودبّت به الحياة، شعرنا بأنه لم يعُدْ فنًا وتمنينا أن يعود كما كان. فالجمال الذي طُبع عليه أصبح شائها منقوصا، كالنقص الذي غلب على جالاتيا عندما رآها بجماليون وفي يدها مِكْنسة. ما لا يقال: أما «عُري» فهي قصة قريبة الأجواء من قصة «نحت آخر لتمثال المفكر». وذلك أن السارد، وهو هنا الشخص الوحيد، يزور متحفا من تلك المتاحف التي تتوافر في العواصم الأوروبية، وتسمى متاحف الشمع. حيث التماثيل الشمعية التي تجسد الملوك، والرؤساء، وكبار القادة، والفنانين، والشعراء. والسارد، بطبيعة الحال، كالسارد في حكاية رودان والمفكر، يرنو للتماثيل بصفتها قطعا متصلبة، متسائلا أهذا هو بديلُ عروشهم البائدة؟ ومع مضي الوقت يلاحظ أن الحياة تدبّ في الشمع. ففي نظراتِ التماثيل الجامدة عتابٌ، بل امتعاض من زيارته في يوم الإجازة الأسبوعي. فزيارته هذه استهتارٌ، بل مؤامرة. لا عجب إذن أن يشعر في أثناء تجواله بين التماثيل بعدائها له: « تمنيت لو أنها ُنحتت من صخر، أو من برونز. فالشمع مختلف . رقيق. أنيق. شفاف. نديّ. طريّ. ما أبعد أن يكون تمثالا يجسد هياكل الطغاة. فهو ظلمٌ لسلالة الشمع». ومثلما استبدل في « نحت آخر « الخيال بالواقع، استبدله ها هنا. إذ سرعان ما بدت التماثيل، التي تجسد القادة بكامل الملابس، في عريها الكامل « كلهم مكشوفون لعيني. بلا مساحيق، ودون أزيائهم الرسمية. إنهم عراة كفضيحة « (ص35). وهذه الإشارة تذكر القارئ بتساؤلات السارد في حكاية رودان والمفكر عن الأسرار التي تتكدس رأس التمثال البرونزي. مع اختلاف بسيط، وهو أن هؤلاء من الشمع، والشمع أكثر ليونة ورقة وشفافية من البرونز. وهذا الذي ينكشف للسارد من أمر هؤلاء الأشخاص الذين تجسدهم التماثيل يُفْصح، ويعلنُ، عن القبح الذي يخفيه الشمع. ولذا يتمنى لو كان الجميع يرون ما يراه. فالقصة بهذا المعنى قصة تقول ما لا يقال، وتنتقل بالقارئ من الشمع الذي هو قشرة إلى ما تحتها، حيث العيوب على حقيقتها، والشمع يخفق إخفاقا ذريعا في إخفاء هاتيك العيوب. وقد يطول بنا الحديث إذا تتبعنا ظاهرة التجريب، ففي قصص العدوان هذه نماذج أخرى لا تقل قيمة عن هذه الأمثلة، لذا نحن مضطرّون للاكتفاء بهذا القدر من هذه الدراسة التي تسلط الضوء على التجريب في «موت لا أعرف شعائره» مذكرين بالقول المأثور «حسبنا من القلادة ما يحيط بالعنق».
جردية الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 03-11-2023 08:44 مساء
الزوار: 386 التعليقات: 0