|
عرار:
شفاء أحمد مستريحي يلج المبدع من خلال فلسفته الخاصة المنبثقة من مرجعيات متعددة، فيقع على كاهل المتلقي أن يتعامل مع النص بعيدا عن المحيط الذي أنتجه، وهذه سبيل لتقليص المسافة بين الناقد والنص، وطريقا لفتح نافذة لإنصاف النص، مع الاستفادة من المناهج المتعددة، لكن دون إقصاء تلك المنهجية التي تسلم إلى الابتكار من خلال القرائن الخطابية، والجماليات الأسلوبية. لعل الولوج إلى النصوص القصصية في مجموعة (أقنعة من لحم) تأخذنا إلى محاولة التفسير في سبيل الانتقال من الإطار الاجتماعي إلى البدء بمحاولة جادة لتأويل النص بفك الرموز والشفرات والعلامات الدالة، لنصل إلى حقيقة أن قراءة النص الأدبي لا يصل إلى حالة الاكتمال من البداية، بل يحتاج إلى مراحل حتى يصل إلى مرحلة ناضجة يتماهى فيها القارئ مع مبتغى المبدع بوساطة النص بدءا بالنظرة الجمالية مرورا بالمعنى المختزل بين ثنايا الكلمات، وصولا إلى إعادة الصياغة وتحديد المقصود. ولعل التشكيل المبني على الرمز وإن كان ملموسا في الحياة يحيط القصة ليتطلب بعد ذلك الارتكاز على المفارقات التي تمثل مواجهة بين الفضاء الذهني والواقع الإدراكي، فالدلالات تختفي وراء النص لتشغل القارئ بالكشف عنها، فالقليل المخفي يؤدي إلى الكثير من المعاني، والترميز يقضي بالوصول إلى الدلالة التي تم تأويلها. وفي قصته الأولى (أقنعة من لحم) التي تحمل عنوان المجموعة يلج باثّا حالة من التمويه، والحجب، والإخفاء، ولكن حالة من المفارقة تصيب الشخصية الرئيسة، بين ما يرى وما يُرى، وفي هذه القصة يلمح القارئ الذات المبدعة في اقتناص الأحداث والتشكيل اللغوي الذي يسير في خط استراتيجي وصولا إلى المقصود، وبين الاستهلال والنهاية حالة من الصراع النفسي، التي تنعكس على اللوحة التشكيلية القصصية خالقة نوعا من التفاعل والتعايش انطلاقا م الغاية التي وضعها المؤلف ووصلت إلى الطرف الثاني من خلال خاصية القدرة المعرفية والجمالية وصولا إلى إحداث الخلود للمعاني النصية، قد شكّلها بطريقة فانتازية غريبة ليسدد رمية جريئة إلى مجتمع يراهن على وضع الأقنعة وعدم اللجوء إلى إقصائها. أما القصة الثانية، فإنّ نظرة إلى العنوان كفيلة بتحديد مقدار القلق، والبؤس، واليأس وظلال من التجارب التي ألقت الستار على الدلالات، بين قسوة الحياة، أو شظف العيش، أو ظلم المجتمع، أو حتى التناقضات والأزمات وانهيار منظومة سلوكية كاملة. فالعنوان (ملك الموت لا يتكلم العربية)، يأتي في بنيته المسطحة مكون من خمس كلمات كل منها تصل بالأخرى عبر معنى يضم المفارقة من جهة والسخرية من جهة أخرى، فالتركيب الأول الذي يمثل المبتدأ والخبر المبدوء بجملة فعلية منفية، والواضح أن الجمل الاسمية تدل على الثبات، (ملك الموت) عنوان، وعتبة نصية لهذه القصة يبدأ بها القاص لكنها في الواقع هي نهاية المطاف الدنيوي، أسقط عليه عدم القدرة على تكلم العربية، في خطوة جريئة لوصف ملك الموت، المقترن بقبض الأرواح، ويبدو أنّ المفارقة تتجلى من خلال الإسناد الذي يتخطى حدود الحياة. ولعل قضية الموت جالبة لمعنى آخر هو الحياة، فأول ما يثير التفكير الإنساني هو الوجود، وأكثر ما يثير القلق هو الموت، وكأن القاص يرسم ما يثير الخوف والقلق، مجترحا جملة تثير النظام فإذا كان الابتداء بعلامات الموت فلا بد أن يصل القاص إلى سلسلة من الدلالات التي تؤدي إليه، سواء كان الموت بدنيا أو ذهنيا أو نفسيا. وما كان استخدام الكلمات السلبية إلا شعورا بالفناء والحزن، ومقدار المأساة الحياتية، فها هو (حسين السنونة) يطلق العنان لأنظمة دلالية مقصودة، وشفرات أدت إلى إنتاج المعنى، في المتخيل النصي في القصص المختلفة الواردة بين طيات الكتاب النثري، وهذا يؤكد أن كل قصة مرتبطة بالأخرى. الدلالة التي تنتزع روح ذلك الشاب دون أن يمارس أدنى طقوس الحياة المتوقعة، أو حتى تحقيق يسي من الأحلام المرجوة من والدة منتظرة شغفها الوله، الموت يفجعها، لكن هذا الموت الذي رسمه القاص عبر سطور ورقية ناقلا صورة الجسد العربي الذي أيضا قد فاجأته المنيّة تاركا أسرارا وأحلاما ومواقف بلا حراك، لأن الموت لا يتكلم العربية فلن يكون ذا جدوى للأمة العربية لن يفهم ما تريد، وسيرسو على جثث العروبة المقتولة بلا دفاع أو حراك، جمع من المشاهد كلها تلتف تحت لواء (افعلوا شيئا)، لم يقلها القاص صراحة لكنها وصلت إلى المتلقي من خلال سلسلة من الهتافات التي لمست. مستمرا بالمفارقات بين حدود المبنى والمعنى من خلال علامات نصية مختلفة، ومواقف تعتمد على قراءة تأويلية، فإذا كان العنوان قناعا يلجأ إليه القاص، فهو طريق إلى التحول في متن القصة ونهاية الأحداث، لعل (ترانيم مواطن لا يتحرك) دقت ناقوسا من خلال (المواطن) يتخذه معادلا موضوعيا يصل به إلى الحالة التي يعيشها المجتمع وهيمنة الصمت وعدم اتخاذ حل جريء للفساد الواقع، لكن هذا الصمت قد يكون سببا للوصول إلى عالم النجاح، دون محاولة الظهور في الرض أو النقد أو حتى محاولة إصلاحية. وبولوج العالم القصصي في (أشتاق للعناق فأستيقظ) حالة من النقد الساخر تتآلف فيها العيوب والأزمات المجتمعية، والمشكلات المترامية على أكفّ المواطنين، فتعتمره حالة من الأرق جراءها، والأحلام التي تراود العربي، ممن أثقل بتبعات الحياة، وضنك العيش، فتبدأ الأحلام المتصاعدة بالهبوط والتهاوي إلى أحلام بسيطة، تكمن في عناق هو الحل لعدم فتور الرغبة في النوم. وما أن يصل القارئ إلى (مجرد رسالة من عجوز) حتى تستقطبه حالة من الخوف في وصول الرسالة، تنتهي بعبارة (أريد أن أكون إنسانا) بعد سلسلة من الأحداث التي تعجّ بتصوير الاستلاب والاستغلال والفساد على أية حال. ومرورا بـ (صرخة طينية) وتلك الحفرة الصحراوية التي احدثها البطل لينعم بالصراخ نتيجة إلحاح الكبت والتعب والكتمان، لجأ إلى ما هو ملك للعامة ليجد نفسه بين أملاك الخاصة، التي شدته وسرعان ما شدهته، وما آل هذا التصوير القصصي الرمزي إلى مقصد يتسامى في عجز المرء عن أدنى درجات الحرية، وعدم قدرته على ممارسة أبسط الحقوق ومنها الصراخ عجزا وحصارا نفسيا وتناقضا يهوي بجسد المجتمع إلى الحضيض. ويستدعي حال جديدة من المفارقة في قصة (إشهار جوع) تنتهي بابتسامة مشرد: «ابتسم المشرد القاضي موجها كلامه للمشرد: تبتسم على الحكم أم عليّ أم على نوع التهمة؟ المشرد: أبدا سيدي القاضي أبتسم سعادة أني خلال الثمانية أشهر القادمة لن أحمل همّ الأكل وهو ما يهمّ بطني، ولا همّ مكان النوم وهو ما يهمّ جسدي». السبب في مثول المشرد أمام القاضي هو أنه أعلن أمام الملأ أنه جائع، وفي مجتمعنا لا يجوز إلا أن نظهر بصورة مثالية حتى إن وصلنا إلى التهلكة، حمل القاص (حسين السنونة) مزيجا من الهموم التي ارتادها في فئات المجتمع كافة، فما يتأرجح هنا وهناك ها هو يستقر في السرد القصصي المائز. لم تكن هموم الشباب بمنأى عن القاص الذي عمد إلى تصويرها بـ (اتّصال مائي)، ضمن سلسلة من الأفكار تبدأ بتنظيم الوقت، والعناية بالصحة، والعمل الجاد، واستغلال الوقت، لكن حالة من التوقعات تتجاذب ليصل إلى تشتت الحقائق في مجتمع يهوى الحقائق، وحالة من القمع في مجتمع يطالب بالحرية وإبداء الرأي تحت سقف من الحرية، والهلع والخوف من الوقوع في مأزق، وصولا إلى نتيجة لا تستدعي خوفا، لكن الوقوف على اللحظات المفصلية في القصة تستدعي عالما آخر مليئا بأشكال التمرد المخنوق. وتتوالى قصص (فلس.. طين) وحالة الاكتظاظ التي يعانيها الطلبة، أو الفوضى العارمة، والإرهاق، وحالة من الإعياء الفكري حول معاناة العروبة عامة وفلسطين خاصة في فصل واضح يعطي المتلقي سببا للمعاناة وهي الفلس والطين، الأرض والإنسان، عنصران استلبا، وحقوق تبددت، وآهات تعانقت بسبب الاتفاقيات، وهذا نقد لاذع لسلسلة من المثاليات التي تدرج على طاولة المشاورات. وبالترميز الواضح حتى في اسم بلد له من القيمة ما له دعوة خفية وراء مكنون الكلام، أن استيقظوا أمة العرب، وسؤال ذهني يخفيه الكلام: إلى متى؟؟؟ إن استلهام الهموم التي تبناها القاص تشير إلى هذه القيمة الصارخة التي يحاول إيصالها إلى مجتمع أرهقه السكوت، ولم ينتفض، دعوة بين ما خفي من المعادلات الموضوعية لضرورة التغيير، والرفض، حتى لو بكلمة، يحاول فهم الواقع المأزوم فيدخل واصفا، محاورا مصلحا يضمّن النص رسالة من خلال تعاقب الرمز النصي الذي لا يفيض تعقيدا، فهو يحاور مجتمعا كاملا بفئات مختلفة. ويستمر في سلسلته بـ (ورد وماء) و(الوسادة البيضاء) مستعملا العلامة المائية والوردة البيضاء، وحالة من السرعة التي لا تسعفنا أن نفعل ما نريد مع من نريد، لكن آخرين قد يقوموا بمهماتنا دون أن نعلم، السعي وراء العيش سبب في تجاوز الأمس، يا لها من معاناة نفسية عاشها البطل في هذه القصة ثم لم يحقق هدفه التقليدي، وبينما يقفز البطل بين القبور ويعود إلى المطار تطل علينا حالة أخرى من الرتابة في بداية القصة، ومن جديد يجمع في عقله شتاتا في توقع من لامس الوسادة البيضاء الغريبة المريحة، لتحصل حالة من الإدهاش من جديد وتكون الوسادة خاصة بالحيوانات، الحيوانات تستحق نوعا جيدا من الوسائد! يستمر عبر قصصه في نقل الصورة، وتأطير الأحداث بزمكانية متناسبة وعمق الفكرة، ينطلق من فكرة التعاطي مع الهموم، ويشعلها من خلال شخصيات تعانق الفكرة وإن اختلفت في الواقع، فيصل بالمتلقي إلى إعادة ترتيب الحدث عبر فك الترميز، وإعادته إلى الطبيعة، حتى يصل إلى حالة من الازدواجية وانتهاء برمي كل شيء والالتفات إلى عالم الأحلام الذي يقتات أصحابه الهواء، موصلا رسالة ترى في الأحلام متاهة جديدة، الأحلام التي قد يكتفي بها الكثير لأنها غير صالحة على أرض الواقع. ومع كل همّ يورد القاص استفاقة قد لا تبدو مباشرة لكنها تكمن في قلب النص، انطلق من فكرة الرفض، وامتلك بحواسه التقنيات اللازمة لطرح الحالة الجافة في المجتمعات، دون أن يوصل مقاييس الثورة والتمرد أو ينطق بكلمة (لا)، لكنه جسّدها في عتبات النص، ومتون القصص، رسم اللوحات الواقعية مستعملا الرمز فأكدها بالحجاج وزادها ثراء واكتمالا ومعنى ودفقات شعرية جوهرية نابضة. الرمز المحنك... إيجاز محمل بالدلالات... ونصوص محملة باستفاقة لا تحتاج منا إلا وقفة تأمل وصولا إلى التأويل. الرمز الذي يؤتى به ليس بالكلمة لكن بالمجمل العام لكل قصة، ومن جديد يمكن أن يعاد الكلام في كون القصة القصيرة تحمل رسالة بتقنيات رمزية محملة بالغاية النبيلة، كل هذا عكس التجربة الصادقة مع الهروب من الأسلوب المباشر اعتمادا على التلميح والإشارة والطابع المزدوج الذي قد يذكر أحد طرفيه فقط، حتى وضح البعد الفكري في المجموعة القصصية كاملة. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 27-05-2022 10:28 مساء
الزوار: 857 التعليقات: 0
|