|
عرار:
د. عاطف الدرابسة المجموعةُ القصصيةُ الموسومةُ بـ(حبوب زرقاء)، تحتوي على ثمانِي عشرةَ قصةً، يخضعُ بناؤها لسلطةِ الواقعِ، وتحديداً للنَّسقِ الاجتماعي الذي ينتمي إليه الكاتبُ، وهو منبعُ وعيهِ، وهو الذي يدفعُهُ نحو إنتاجِ رؤيته، تلك الرؤيةُ التي تُشكِّلُ عالماً موازياً لهذا الواقعِ، وهذه القصصُ على اختلافِها تُجسِّدُ نماذجَ سرديَّةً توازي البِنى الحقيقيةَ للمجتمعِ الأردني، والريفي تحديداً. ولعلَّ الأمرَ اللافتَ للانتباهِ أنَّ الكاتبَ هو جزءٌ حقيقيٌّ من قصصه، ويكادُ يحتجبُ خلفَ شخصياتِه، ليكشفَ عن أوجهِ الخللِ النَّاجمِ عن الأنساقِ الاجتماعيةِ السائدةِ؛ ويُقدِّمُ لغةً تُحاكي تلك الأنساقَ، وتكشفُ لغتُه خصوصاً في قصته (حبوب زرقاء)، عن أنَّ البِنى اللغويةَ هي انعكاسٌ لبِنى المجتمعِ، وقيمِه السائدةِ. وتكشفُ قصةُ (حبوب زرقاء) عن نسقٍ يحجبُ خلفَه مفهومَ السُّلطةِ، الذي تمثَّلَ بشخصيةِ المختارِ العجوز (شدَّاد الطالب أبو برجس)، كما تعكسُ شخصيةُ (الحاج راشد أبو تيسير) مفهومَ الطبقةِ المطحونةِ، فبين هذينِ المفهومينِ يطرحُ الكاتبُ إشكاليَّةَ النِّظامِ الاجتماعي، وفقَ مفهومِ المعاييرِ التقليديةِ، إذ تخضعُ الطبقةُ المطحونةُ لشروطِ السُّلطةِ الدَّاخليةِ في المجتمعِ، فتكونُ (نرجس) الطَّالبةُ العشرينيةُ ضحيةَ هذا النَّسقِ غير المتوازنِ، فتُزفُّ عروساً لرجلٍ ثمانيني، لجأَ إلى الحبوبِ الزَّرقاءِ ليُثبتَ قوتَهُ وجبروتَه، فتقهرهُ تلك الحبوبُ، وتُسلِّمه للموتِ، لتُعيدَ التَّوازنَ لهذا النَّسقِ السُّلطوي. فالحبوبُ الزَّرقاءُ هنا أخذت بُعداً رمزياً، غير ذلك البُعدِ الرَّاسخِ في وعينا الاجتماعي، فبدلاً من أن تُساعدَ (شدَّاد الطالب) على التسلُّطِ، ثارت عليه، وأردَتْهُ قتيلاً. إنَّ العالمَ الموازي للواقعِ الذي أنتجه الكاتبُ في قصةِ (حبوب زرقاء)، يعكسُ رؤيتَه الذَّاتيةَ إزاءَ مجتمعه، فظهرتْ شخصيةُ (تيسير)، رمزاً حقيقياً للشَّبابِ الذي يجدُ في الهجرةِ حلاً لمشكلته، بعد أن عجزَ الوطنُ عن حمايتِه، وهنا يمكنُ للمُتلقِّي أن يلتقطَ إشاراتٍ مرجعيَّةً، تُحيلكَ إلى واقعٍ اجتماعي مأزومٍ، بل ربَّما تُحيلكَ إلى وطنٍ مأزومٍ، لا يجدُ حلَّاً لمشكلاتهِ الاقتصاديةِ، أو السِّياسيةِ. وعلى الرَّغمِ من أنَّ الكاتبَ يلتقطُ صوراً واقعيَّةً مباشرةً، تختبئُ خلفها ثيمةُ الواقعِ المَعيشِ، إلَّا أنَّه يُمارسُ عليها إسقاطاتٍ رمزيةً، كما في قصته (دروس خصوصية)، فظاهرُ القصةِ معلِّمٌ وطالبةٌ، غير أنَّها تنفذُ إلى واقعِنا التعليمي الهشِّ، فيتخذُ موقفاً من واقعِ التعليمِ، وواقعِ المعلِّمِ، الذي يُدفعُ إلى الهجرةِ، وحين يعودُ يجدُ طالبتَه قد تزوَّجت من معلِّمٍ آخرَ، أخذت عنده دروساً خصوصيةً. إنَّ واقعيةَ (نصر أيوب) هنا، تُقيمُ صلةً خفيَّةً بين واقعينِ : الأولُ مَعيشٌ، والآخرُ مؤولٌ، يأخذكَ نحو بعدٍ آخرَ، تتجلَّى فيه نظرةُ الكاتبِ البعيدة لمجتمعه، ويمكنُ أن نلمحَ ذلك من خلالِ قصته (مخدرات وحشيش)، تلك القصةُ التي يظهرُ فيها الكاتبُ نفسُه بطلاً، ولن أُمارسَ هنا اللعبَ على عتبةِ العنوانِ، بين مخدراتٍ وحشيشٍ، وبين مخدَّاتٍ وريشٍ، فهذه القصَّةُ التي تبدو واقعيَّةً، وحقيقيةً، تأخذكَ نحو توجُّهٍ آخرَ، إذ يسخرُ الكاتبُ من واقعنا الثقافي، ومن نظرتنا إلى الكتابِ، فالمعرفةُ التي تحملها أهمُّ الكتبِ تُباعُ بالوزنِ (بالكيلو)، وثمنُ الكيلو ثلثُ قرشٍ، يعني الرَّطلُ بقرشٍ، كما يظهرُ من قوله : (الجديرُ بالذكرِ أننا كنَّا نشتري هذه المجلاتِ وزناً بالكيلوغرامِ، قرشٌ واحدٌ لكلِّ ثلاث كيلوغرام، وكثيراً ما كنتُ أشعرُ بالغبطةِ والفرحِ، عندما يرمي البائعُ كتاباً أو كتابين، من قصصِ (أرسين لوبين)، أو (شارلوك هولمز)، زيادة على الوزنِ، أو مجاناً). إنَّ القارئَ هنا يجب أن يُعيدَ توجهه في قراءةِ قصصِ نصر أيوب؛ فيفصلُ بين بنيةِ العملِ الأدبي الظاهرةِ، وما يُضمرهُ هذا العملُ من نقدٍ قاسٍ للسِّياقينِ : الثقافي والاجتماعي، وأن لا يخضعَ للمعاييرِ الكلاسيكيةِ في التأويلِ، فوراءُ كلِّ بِنيةٍ ظاهرةٍ بنيةٌ مُحتَجَبةٌ، وهنا على الناقدِ أن يسعى إلى قراءةِ النَّصِ وفقَ تقنيةِ الحفرِ، ليكشفَ عن البِنيةِ الحقيقيةِ للفهمِ، والقارىءُ الحقيقيُّ ينبغي أن يكونَ قادراً على كشفِ التناقضاتِ الظاهريةِ في هذه القصصِ. وعلى العمومِ، فإنَّ هذه المجموعةَ القصصيةَ تنطوي على مجموعةٍ من الأنساقِ : النَّسقِ الاجتماعي، النَّسقِ السياسي، النَّسقِ الوجودي، النَّسقِ السيسيوثقافي، النَّسقِ الاقتصادي، والنَّسقِ الديني، وتكادُ تكونُ قصتُه (فرنسية من داعش)، من أعمقِ القصصِ التي يُصوِّرُ فيها الكاتبُ واقعَنَا بطريقةِ المفارقةِ، فديغول يقفُ مُصفِّقاً لأمِّ كلثوم وهي تُغنِّي الأطلال، حين وصلت إلى مقطعِ (أعطني حريَّتي، أطلق يديَّ)، وحين تأتي فرنسيةٌ لتُغنِّي عن الحريةِ أمامَ كبارِ القومِ، يحدثُ التشويشُ، وكأنَّ الكاتبَ يُمارسُ اللعبَ على مفهومِ داعش، فالداعشيةُ عنده تتحوَّلُ إلى رمزٍ متحرِّكٍ مفتوحٍ، لا ترتبطُ بالأُصوليةِ أو بالدِّينِ، وكأنَّها الشيءُ ونقيضه، وكأنَّ الكاتبَ يجنحُ نحو الفعلِ وردِّ الفعلِ، فكلُّ مَن يُطالبُ بالحريَّةِ والتحرُّرِ هو داعشي، حتى لو كان لادينيَّاً. إنَّ واقعيةَ نصر أيوب في قصصهِ تستحقُّ التَّأملَ، فهي واقعيَّةٌ لا تستقلُّ عن المجتمعِ، وإنَّما يترتَّبُ عليها ردودُ أفعالٍ، تلك الرُّدودُ هي التي تُحوِّلُ هذه القصصُ إلى شيءٍ تدركُه الحواسُّ، وإنَّ عمليَّاتِ فهمها لا تتوقَّفُ على البِنى الفنيةِ، أو البنى الجماليةِ وحسب، وإنَّما على أهدافِها، ورؤاها، وعلى قدرتِها على التواصلِ مع القارىءِ، فلغةُ السَّردِ هنا تُغري القارئَ بالمشاركةِ في بناءِ المعنى، وفهمه، كما أنَّها تجعلُ القارئَ جزءاً من التجربةِ، فأيُّ فعلٍ لغويٍّ لا يُحدِثُ ردَّةَ فعلٍ، أو يبني صورةً في ذهنِ القارئِ، أو يُحفِّزُ القارئَ لاكتشافِ الأنساقِ المُضمَرَةِ، يُفقِدُ كثيراً من قدرتِه الرَّمزيةِ، أو من حمولتِه الدِّلاليَّةِ، وكلُّ فعلٍ لغويٍّ له جانبانِ : موضوعي وبنيوي. إنَّ التعالقَ بين هذين الجانبينِ هو الذي يُبرزُ رؤيةَ نصر أيوب الكاملةَ، للواقعِ وما وراء هذا الواقعِ، الذي يكشفُ عن عواملَ متصارعةٍ، أو متناقضةٍ، تعكسُ موقفَه من الذاتِ، ومن المجتمعِ، وهنا تبدو شخصياتِه رؤيويَّةً، كما ظهرت شخصيةُ المختارِ، وشخصيةُ أبو راشد، وشخصيةُ (أبو بادي) وهو الكاتب نفسه، وهنا يمكنُ للناقدِ أن يتحدَّثَ عن راوٍ لا يستخدمُ ضميرَ الأنا أو ضميرَ الغائبِ، وإنَّما عن راوٍ مُشارِكٍ في الحَدثِ، وفي بناءِ الحدثِ. وهنا لا بدَّ أن أشيرَ في النهايةِ إلى أنَّ نصر أيوب يذهبُ بعيداً في واقعيته، حينما يُقدِّمُ نفسَه الراوي البطل، أو الراوي المُشارك في التجربةِ القصصيةِ، وفي بناءِ الحدثِ. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 10-06-2022 11:04 مساء
الزوار: 552 التعليقات: 0
|