|
عرار:
صبحي فحماوي من كلمات إهداء ديوانه؛ «إلى الأماكن الأبدية التي رسمتنا، والبدايات التي أشعلت فينا الحنين، وما زالت تسكن الروح ولا تغادرها.. ولنكتب سيرتها كما يجب.» نفهم الشاعر سعد الدين شاهين هكذا، ونعرف أنه «يحكي قصة اللاجئ من سبعين عام.» قل ثلاثة وسبعين عاماً.. قل قرناً من الزمان.. إنه غير قادر على نسيان كل بصمات فلسطين في العقل الفلسطيني وهو يصور حياة اللاجئين الفلسطينيين المشردين ومن بيوتهم، سواء كانت المدينية منها، أو القروية، إذ يراها؛ «في المحطات قعوداً وانتظاراً وسجودا، ومنافي وقيام..» هؤلاء اللاجئون الفلسطينيون، حسبما فهمت من القصيدة التي هي بعنوان: «مقامة الصندوق الأسود» تجدهم أمامك قعوداً في المحطات.. الناس ينزلون في المحطات ويصعدون في المحطات، بينما اللاجئون قاعدون.. وبعضهم ينتظرون شيئاً ما.. الشيء الوحيد الذي ينتظرونه هو العودة إلى بيوتهم في مدنهم وقراهم.. وكأنهم في حالة لا وعي.. إذ كيف يعودون إلى وطن محتل احتلالاً (فايكنجياً) ينفي فيه المحتلُّ المحتلَّ.. وتجد بعضهم في هذه المحطات يُصلون ويسجدون، ويدعون الله منذ ثلاثة وسبعين عام أن ينصرهم على أعدائهم. * صبحي فحماوي من كلمات إهداء ديوانه؛ «إلى الأماكن الأبدية التي رسمتنا، والبدايات التي أشعلت فينا الحنين، وما زالت تسكن الروح ولا تغادرها.. ولنكتب سيرتها كما يجب.» نفهم الشاعر سعد الدين شاهين هكذا، ونعرف أنه «يحكي قصة اللاجئ من سبعين عام.» قل ثلاثة وسبعين عاماً.. قل قرناً من الزمان.. إنه غير قادر على نسيان كل بصمات فلسطين في العقل الفلسطيني وهو يصور حياة اللاجئين الفلسطينيين المشردين ومن بيوتهم، سواء كانت المدينية منها، أو القروية، إذ يراها؛ «في المحطات قعوداً وانتظاراً وسجودا، ومنافي وقيام..» هؤلاء اللاجئون الفلسطينيون، حسبما فهمت من القصيدة التي هي بعنوان: «مقامة الصندوق الأسود» تجدهم أمامك قعوداً في المحطات.. الناس ينزلون في المحطات ويصعدون في المحطات، بينما اللاجئون قاعدون.. وبعضهم ينتظرون شيئاً ما.. الشيء الوحيد الذي ينتظرونه هو العودة إلى بيوتهم في مدنهم وقراهم.. وكأنهم في حالة لا وعي.. إذ كيف يعودون إلى وطن محتل احتلالاً (فايكنجياً) ينفي فيه المحتلُّ المحتلَّ.. وتجد بعضهم في هذه المحطات يُصلون ويسجدون، ويدعون الله منذ ثلاثة وسبعين عام أن ينصرهم على أعدائهم. أو على الأقل أن يعيدهم إلى مدنهم وقراهم.. حيث لا يُسمح في هذه المحطات التي يقعدون فيها لهم بأية حركة سوى الدعاء، وانتظار أن يلبي الله دعاءهم.. هؤلاء المهجرون في المحطات ليسوا على شكل أناس عاديين، بل هم على أشكال عجيبة.. غريبة.. إنهم «تفاصيل لأوجاعٍ تنوء بها الخيام..» لاحظ أنهم ليسوا أجساداً متكاملة، بل هم تفاصيل.. تتحول فيها أجسادهم إلى أوجاع..وهذا ما يسمى في العلم «تحوُّل الإنسان إلى طاقة، يستطيع بهذه الطاقة أن يسافر من الأرض إلى كوكب آخر.. وهذه الأوجاع ماذا تشاهد في المحطات؟ هل تجدهم يشاهدون الحافلات أو القطارات التي تحمل الركاب والأمتعة، أم يشاهدون العربات التي تجر الأمتعة؟ لا أبداً إنهم لا يشاهدون سوى ما يعتمل في قلوبهم من مآسي وأحزان.. إذ يقول سعد الدين : «في المحطات براري .. في المحطات قفارٌ وبحارٌ ليس فيها شاطئ.. إلا وينكر شاطئاً..ومن في آخر التطواف أغرقه الظلام..» هم يرون في المحطة براري وقفار..ورغم أن فلسطين كلها شواطىء بحرية ساحرة الموج، والفلسطيني متعود على البحر.. إلا أنهم لا يشاهدون في هذه الهجرات المتلاحقة من صحراء إلى صحراء أية شواطئ.. حتى لو كان هناك شاطئ، فهو ينكر شاطئه.. كل شاطئ ينكر الشاطئ الآخر كل شاطئ يلعن شاطئه، ويتعارض معه.. ولا يشاهدون من هذا الشاطىء المتخيل أية حياة أو حركة إنسانية، سوى سابحاً يطوف وقد أغرقه الظلام.. إذ يسبح في هذا الشاطىء سابح يغرق وهو يعالج غرقه في الظلام الدامس.صور حزينة ومرعبة يصفها سعد الدين في هذه القصيدة المُرّة.. إنه يقول: «في المحطات أناس أكثر مما يتسع الصندوق.. فيما خلّفته الذكريات» وهو بهذا الصندوق يؤكد على (صندوق العهد الكنعاني)، الذي لا تسير جماعة كنعانية إلا وهي تحمل (صندوق العهد الكنعاني) الذي يحتوي على تماثيل المقدسات الكنعانية..ترى هل يحمل الفلسطينيون في هذه المسيرة التغريبية (صندوق العهد الكنعاني) وفيه مفتاح البيت وحطّة فلسطينية بيضاء وسندات تسجيل أراضيهم، وصورة لأجدادهم وجداتهم، وأشياء من هذا القبيل؟ وتستمر القصيدة تشدو باكية إذ تقول: «وعلى الجسر الذي شلعوا فيه أيادينا لنعبره.. اتساع الأمنيات..» وهذا يذكرني بجسر اللنبي الذي عبر عليه المهجرون للمرّة التاسعة والتسعين بعد المليون، وذلك في عام 1967، قبلها وما بعدها.. إذ أن الجسر وقع فبقيت أذرع بعض المارين معلقة، مشعلقة، مشلوعة عليه..خوف أن يقع مُعلّقوها في مياه النهر التي ربما كانت عميقة هناك.. «ها أنا أثقب الصندوق أستوفي شريطاً وأخبي..كل ما لم أستطع فعلاً وقولاً باللغات» وهنا يثقب سعد الدين شاهين (صندوق العهد الكنعاني) فيستوفي منه شريطاً، ربما شريط قماش تربطه أمه على رأسها، أو ربما يكون شريطاً يربط به بعض الأشياء كي لا تنفلت من عقالها خلال التهجير الكبير..وربما يكون شريط مسجل، إذ كان التسجيل الصوتي يومها يتم على شريط يسمونه (شريط كاسيت)، ليسجل على شريط المسجل يومها كل ما لم يستطع فعله أو قوله باللغات..إذ أنه في معظم الأوقات لا يستطيع أن يبقَّ الحصوة.. (لا يستطيع أن يقول بِمّ) وفي رسم كاريكاتيري مصري شاهدته ، يقول فيه أحد جلوس المقهي لصاحبه: (تِقدر تقول بِمّ) فقال له صاحبه متحدياً الحظر:( بمّ ). وما دام لا يستطيع أن يقول بالكلمات، تجده يسجلها على الشريط ..كي يحتفظ بها للتراث، فلا تضيع. مآسي حزينة مريرة يرسمها شاهين بالكلمات.. وهو في هذا الصدد ينسجم مع رفيقه شاعر الوطن محمود درويش في قوله: «لا ينظرون وراءهم ليودعوا منفى... فأمامهم منفى.. وقد عرفوا الطريق...» هذه هي مسيرة اللاجئين والنازحين والمهجرين الفلسطينيين يرسمها شعراء فلسطين، ونحن هنا بصدد رسومات سعد الدين شاهين الذي يقول في قصيدته بعنوان «مقامة الجدّة» «هكذا قالت لي الجدّة والتينة والزيتون.. وفرع الليل حين انفض من حولي الضياء» الصورة المائلة أمام القارىء هي الجدّة العجوز، والتين والزيتون..مزروعات بستان فلسطين الذي ذكره القرآن الكريم بقوله: «والتين والزيتون وطور سينين.» ترى هل كان تعالى يقصد بحلفانه هذا أشجار فلسطين المقدسة؟ وهل الجدّة والتين والزيتون هي مدخرات الفلسطينيين، أو هي ثوابتها التي ليس عندنا لها بديل؟ ثوابتها التي تخلى الرفاق عن كل الثوابت الوطنية وهم يدّعون عدم التفريط بالثوابت الوطنية، فبقيت أشجار التين والزيتون والصبر الشوكي واللوزيات التي ذكرها الشاعر في قصائد أخرى هنا، تحافظ على ثباتها وحدها «وهو ما قالته أمي تحت جذع الكينياء» هذه هي الشجرة الثالثة.. الكينياء.. لا مساحة للخوض في مزايا هذه الشجرة..» هنالك كانت بساتين.. من لوزها.. يشرب العاشقون.. ويرتادها الصالحون الرعاة.. ويولد في ظل زيتونها صبية.. يشبهون البلاد.» وهكذا نرى أن فلسطين هي غابة من الأشجار.. جبال من الرعاة..معابد من الصالحين..صبية هم غابة من الخضرة..غابة من البساتين ذات الثمار، ذات اللوز والخوخ والمشمش والبرقوق والتفاح وكل الأشجار المثمرة.. اختصرها شاهين بأشجار الرائحة العطرة التي تطرد الحشرات.. وهي الكينياء.. ثم قال: «ففي بيت جالا طريق مشاها رسول القيامة قبلك.. حين استفاق وصلى على مهله.. صاعداً مع رفيف الملاك.» وبيت جالا هي مسقط رأس الشاعر بعد هجرة النكبة الأولى.. أي أنه من مواليد عام 1950، وهو وعشيرته أصلاً من قرية عرتوف قبل 1948، يقول الشاعر إن الرسول مشى فيها وهو يصعد ربما في معراجه إلى السماء.. فهي أرض مقدسة.. أرض لا يمكن العيش إلا فيها.. أرض لا تقارن بغيرها من الأراضي.. هكذا يقدِّس الفلسطيني أرضه، التي لا يرضى عنها أرضاً بديلة. ويضيف شاهين في هذه القصيدة: «في تلال المنافي البعيدة عن فلسطين.. هناك احتلال.. هناك ارتحال.. هناك اختلال..» لاحظوا التناغم بين الاحتلال والارتحال، وما ينجم عنه من اختلال.. أو أن الاحتلال السفاح المجرم القاتل لكل ما هو أمامه، ينتج عنه ارتحال تحت قصف كل وسائل القتل والدمار الإسرائيلية.. وهذا الواقع الصعب يخلق الاختلال.. اختلال في كل شيء.. اختلال في العقل.. اختلال في المأكل والمشرب والمسكن والتعليم والصحة والشعور والتصرف وكل مناحي الحياة..ولا مساحة للتفصيل. يقول : «وأتيت رغم الخوف أحمل من نصيب السعد اسمي.. لا شواطىء لا بحار سوى السراب.» وهنا نجد أن والديه أسمياه سعد الدين، إذ ربطوا سعادته بالتمسك بدينه وبالدعاء والدعاء والدعاء، فما زال يدعو منذ 1950، وهو بهذا لم يحمل من السعد أو السعادة شيئاً.. سوى اسمه.. سعادة بلا شواطىء بحرية كما في فلسطين.. وقد استبدلت البحار الرطبة بسراب الصحراء الخالي من الرطوبة السراب «الذي يحسبه الظمآن ماءً» .. ويضيف قائلاً: «ثم ساومني الجميع بأن أعود إلى دمي..حيث الدم العربي غافٍ.. الحضور هم الغياب.» وهنا كان تقديم دم الطفل الفلسطيني مطلوباً لتحقيق العودة.. وتبرع البعض بتقديم أرواحهم فداء الوطن..وتقديم دمائهم فداء للوطن.. ولكن الدم العربي غافٍ..والحضور هم الغياب..وجهة نظر للشاعر تحتاج إلى نقاش.. وفي نهاية القصيدة يصل إلى قرار: «أنا عابر.. أنا عائد.. ..أنا غائب.. البحر لي والشط لي.. والماء والأرجاء لي والأرض والطرقات لي» وهذا هو القرار الأخير لدى شاهين.. قرار العودة، ولا شيء غير العودة.. وهو هنا يتماهى مع الشاعر محمود درويش الذي يحمل المشاعر نفسها، إذ يقول: «هذا البحرُ لي.. هذا الهواءُ الرَّطْبُ لي.. هذا الرصيفُ وما عَلَيْهِ من خُطَايَ وسائلي المنويِّ لي.» ولا توضيح لما هو واضح هنا. وفي قصيدته «مقامة الاعتذار» صفحة 22، يقول: « ليس في هذا الخليج سواي... عبر هذا الموج لا طيف سوى عرتوف... كيف أعود ثانية إليها... أو أكحل ناظري بها... وأرسمها على الأهداب... كان يمكن أن أبوح بكل أسراري لها... وأنا أغادر مرغماً... وأبوس أشجار الحديقة والموارس والمغائر والتراب.. سنسلة الحجارة منذ حط يبوس لأوتاد الحواكير..» كان وما يزال يشتهي لو أنه يعود ثانية ليكحِّل عينيه بملقاها.. ليرسم عرتوف على أهداب عيني..ليبوس أشجار الحديقة.. وهذا ما ذكره (ديستويفسكي) حين قال: «أعز شيء عليّ وأنا أموت، أنني لن أعود قادراً على رؤية هذه الأشجار».. وهذا شاهين، متّعه الله بالصحة والعافية والعمر الطويل.. يريد فقط أن يحتضن أشجار عرتوف.. أن يشمها.. أن ينام تحت ظلالها، إذ قتلته أشعة شمس الصحاري البعيدة.. وربما بعد عمر طويل.. يريد أن يُدفن في بطنها النقي الطاهر. ثم يقول متحسراً ليس على عرتوف وحدها، بل على فلسطين.. كل فلسطين إذ يقول: «من مرج عامر في الشمال إلى الجنوب.. كان رزقها يأتي رغداً.... فغافلها الذئاب..» وكثيراً ما يستعيد قريته (عرتوف) في ديوانه»حُملت رأسي واتخذت السندباد» إذ يقول في (مقامة عرتوف) : «هي قريتي عرتوف عين الشمس أنزلها الإله من التقاء النجم بالنور المهيمن ...كي يحط على ثراها الأولياء..» هذا التقديس للوطن، ولا شيء غير الوطن هو معتقد كل فلسطيني مفكر شريف.. وسعد الدين يقف في هذا الموقف المفكر المعبِّر عن مشاعر أهل وطنه بمنتهى الصراحة والوضوح والشرف.. تحية. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 16-07-2021 10:34 مساء
الزوار: 586 التعليقات: 0
|