نادرًا ما نهتم بعلماء اللغة من نحاةٍ، وبلاغيين، ومُحققين، وأصحاب جهود في التفسير، والضبط، والتنقيح؛ كعبد السلام هرون، ومحمد أبو الفضل إبراهيم، وصلاح الدين المنجِّد، وأحمد شاكر، ومحمود شاكر. وهذا الكتاب «محمود محمد شاكر دراسة في حياته وشعره» يُعد في نظرنا بادرة جيدة، ونادرة، ما أحرانا أن نقتدي بها فلا يقتصر اهتمامنا على الشعراء، والروائيين، والقصاصين، وكتاب المسرح. وأن ننظر بعين الاهتمام لأولئك الذين نذروا حياتهم للغة، وتحقيق ما ألف بها وصنف من كتب وأسفار، ومن دواوين وأخبار، ما تزال طي خزائن المخطوطات، أو لائذة هنا وهناك على أرفف المكتبات. وهذا المصنف، مع كتب أخرى نادرة، تلتفت فيه المؤلفة أماني حاتم بسيسو لشخصية بارزة، وإمام من أئمة اللغويين المحققين، وهو المرحوم محود محمد شاكر (أبو فهر) (1909- 1997) صاحب الكتاب المثير للجدل (المتنبي) الذي صدر عام 1936 وصاحب « أباطيل وأسمار « وصاحب « نمط صعب نمط مخيف « وقصيدة (القوس العذراء) التي نشرت في العام 1952.

في هذا الكتاب الصادر عن وزارة الأوقاف - سلسلة روافد في الكويت(184ص) يجد القارئ تعريفا وافيا، أو شبه وافٍ، بهذا اللغوي الذي غلبت شهرته - من حيث هو محقق- على شهرته في الشعر ونقده. فالمعروف أن محمود شاكر ولد في الإسكندرية عام 1909 ووالده هو محمد شاكر من عِلْيَة القوم؛ فقد شغل منصب وكيل إمام جامع الأزهر زمن الخديوي عباس حلمي الثاني(1874- 1944). وهو ثاني اثنين وضعا حجر الأساس للجامعة المصرية إلى جانب الخديوي سنة 1912. وتبعًا لذلك نشأ محمود شاكر نشأة جمعت بين التدين، والاهتمام بالعلم والفكر والأدب. وعندما نجح في البكالوريا عام 1925 وكان قد انتسب للفرع العلمي، رغب في دراسة الرياضيات، بيد أنه ما إن تعرَّف بسيد علي المرصفي صاحب كتاب رغبة الآمل (1931)- وكان في حينه شيخا من شيوخ النقد- حتى صرف النظر عن الرياضيات بعد الذي كان من تردده لمجالسه وانبهاره بإنشاد الشيخ للشعر العربي، وبأحاديثه الممتعة عن ذلك الشعر. ومع أن قوانين الجامعة المصرية في حينه تمنع التحاق طلبة الفرع العلمي بكلية الآداب، إلا أنه حقق مبتغاه بعد أن توسط له الدكتور طه حسن (1889- 1973). وكان - هو الآخر - من الشخصيات التي تأثر بها محمود شاكر كثيرًا. وتأثر بأديب ثانٍ أيضًا أقرب إلى نفسه من طه حسين، وهو الكاتب مصطفى صادق الرافعي(1880- 1937) صاحب وحي القلم، وأوراق الورد، الأديب المعروف محبِّ الدين الخطيب(1886- 1969) صاحب مجلة الفتح.
 محنة الشعر الجاهلي
ولم يواصل محمود شاكر دراسته الجامعية لسببٍ أثر في حياته تأثيرًا كبيرًا. فعندما صدر كتاب الدكتور طه حسن الشعر الجاهلي(1926) وقف منه، ومما فيه من آراء، وقفة تنطوي على الحاد من التنديد، ولم تلبث تلك الوقفة حتى أشعلت نار الخصومة بينه وبين أستاذه في ما يعرف بمحنة الشعر الجاهلي.ذلك أنّ محمودا اطلع على بحث للمستشرق البريطاني مرجوليوث (1858- 1940Margoliouth ( عن أصول الشعر العربي* (1925) فاكتشف أن طه حسين لم يأت في كتابه بجديد، وأنه لا فضل له فيه إلا السطوُ على فكرة قديمة لمستشرق بريطاني، ظنا منه أن المصريين، والعرب عمومًا، لا يقرؤون باللغات الأجنبية، وأن أحدا لن يقف على هذا. وقد اتسعت بينهما شقة الخلاف عندما كتب محمود شاكر مقالات نشرت في الصحف يطالب فيها طه حسين بالاعتراف، والاعتذار عما بدر منه من ادعاء النظر في الشعر الجاهلي مؤتمًا بمنهج ديكارت القائم على أن الشك هو الطريق الوحيد لتحقيق اليقين. وبسبب هذه الخصومة، وما ترتب عليها، ترك الجامعة، وغادر مصر للسعودية، ليجد نفسه مدرسًا كادحًا في إحدى المدارس في جُدة، ثم ليصطدم بمدير تلك المدرسة، فيغادرها عائدًا لمصر.
 قراءة الشعر العربي
وتذكر المؤلفة اعتمادًا على بعض الوثائق أن محمود شاكر تفرغ من 1929 إلى 1935 لإعادة النظر في الشعر العربي القديم، جاهليه، وإسلاميه. ومن نتاج هذه القراءة تراكمت لديه أفكار جديدة عن هذا الشعر عبر عنها في سلسلة من المقالات، والدراسات النقدية، التي تضمَّنها كتابه (المتنبي) أولا، ثم كتابه « نمط صعب نمط مخيف « ثانيا. والكتاب الأخير يرد فيه على يحيى حقي(1905- 1992) ردودا متعددة نشرت في أعداد متفرقة من مجلة (المجلة) كان قد تساءل فيها يحيى حقي عن الشعر، وعن جدوى ترجمته من العربية للغات أخرى، وهل يقدم للآخر الغربي صورة مشرقة عنه، أم صورة بائسة لا يتوخاها مترجموه. وسبب هذه التساؤلات هو الترجمة التي نشرها عبد الغفار مكاوي(1930- 2012) بالعربية لما كان جوتة الألماني (1749- 1832) قد ترجمه من لامية العرب لثابت بن جابر(607م) المنبوز بتأبّط شرًا. وقد تضمَّنتْ هذه الردود – فيما تضمَّنته – دراسة للاميّة التي أوَّلها[ من المديد]:
إنَّ بالشِعْبِ الذي دونَ سَلْعٍ       
لقتيلا دمُـــــهُ ما يُطــلُّ
وضعَ فيها محمود شاكر خلاصة ما تناهى إليه من آراء في الشعر العربي في مزيدٍ من التذوق الذي ينم على حساسية مرهفة، وشعور أنيق بجماليات الشعر قلَّ نظيره.
 شاكر والمرأة
وعلى الرغم مما عُرف عن محمود شاكر من الصرامة، والحدة، والنزق، وقع مع ذلك في فخ العشق، وجار عليه سُلطان الحبّ، فتألم، وتوَجَّع، لهذا السبب. فكانت تجربته الأولى فيه تخلو من الوصال، ولهذا اشتدَّ عذابه، وحال ما لقيه من الضنى بينه وبين  تكرار التجربة. وعزف عن الزواج، وتأخّر إلى أن جاوز الخمسين. ويُروى أنه طلب من إحدى شقيقاته أنْ تُحْضر حفيدة الشيخ حسن الكفراوي- شارح الأجرومية في النحو(توفي 1788 م)- لتعيش معهم في المنزل. وحظيت الفتاة برعايته إلى أن بلغت سنَّ الشباب. وطُلبَتْ للزواج، فعز عليه فراقُها، فأشار عليه أحد أصدقائه أن يتزوجها إن كان فراقها يصْعُب عليه، فتزوجها سنة 1964 وهو في 55 ولما تبلغ هي العشرين. وهي أم ابنه البكر فهر، وابنته زُلفى.
 ندوة محمود شاكر
وفي أُخَرَةٍ من عمره أنشأ محمود شاكر ندوةً باسم ندوة محمود شاكر الأسبوعية في منزله على غرار ندوة العقاد، يلتقي فيها أهل الأدب والقلم. وممن كانوا يرتادون هذه الندوة بانتظام: يحيى حقي، ومحمود حسن إسماعيل(1910- 1977)، و ومحقق المخطوطات عبد العزيز الميمني الراجكوتي (1888- 1978) ومالك بن النبي(1905- 1973) وعبد القدوس أبو صالح (1932- ) وإحسان عباس(1920- 2003)، وناصر الدين الأسد(1922- 2015). ومن العبارات التي جرى تداولها في وصف المكان الذي تقام فيه الندوة « مكتبة فيها بيْت « وذلك أنَّ الكتب كانت تغطي الجدران من المدخل حتى باب الحمّام. وهي كتبٌ تضم الفقه، والحديث، والتفسير، والتاريخ والسير والأخبار، والأشعار، فضلا عن كتب اللغة، والنحو، والبيان. ولا تخلو من دواوين الشعر الحديث، والروايات، والقصص، علاوة على أعداد كثيرة من المجلاتِ، والصُحف.
وهذا الكتاب (محمود شاكر دراسة في حياته وشعره) لأماني بسيسو كتابٌ الذي فُصِّلت أبوابه، وأحْكِمَتْ فصولُه، ولا يفتأ يتناول بإلحاح المسألة الذوقية لدى محمود شاكر. فالمؤلفة تزعم- ولعل لديها الحقّ في هذا- أن محمودًا لكثرة ما أدام النظر في الشعر العربي القديم تشكل لديه حسّ يستطيع بوساطته التفريقَ بين شعر الشاعر وغيره دون معرفة الأسماء، ويستطيع أن يُحدِّدَ لك القصيدة، من غير معرفة بقائلها، من شعر أي عصر هيَ، ومن أشعار أي بيئةٍ، أو قُطر. وهذه مَلَكَة لا تتهيأ للناقد كيف شاء، واتفق، إذ لا بد من « عمل خفيٍّ، ومتشعِّبٍ، ومعقَّدٍ، يخالط العقل والنفس، ويثيرُها، ويهزها هزًّا، ويقلبها بتقلب الخواطر تقليبًا لا تكاد تبلغُهُ الصِفة « (ص53) وفي المثال الذي أوْرَدَتْه عن مدى دقته في تذوق شعر المتنبي ما يصحُّ معه القول: إنَّ التذوق، وحدهُ، لا يُجدي ولا يكفي، إذ لا بد من مرجعية ما تساند الانطباع الحسي لبلوغ الغاية المنشودة، والنتيجة المقصودة، ولهذا جاء في الخبر أنّ محمود شاكر، حينَّ ظن المتنبي علويًا ممّا استشفَّه من شعره، لم يقلْ بهذا، ولم يصرِّح، إلا بعد الاطلاع على ترجمته في كتاب ابن عساكر(توفي 571هـ)» تاريخ دمشق « الذي ذكر فيه أنَّ المتنبي علويٌ بالرِضاعة. أما مذهبه في الشعر، فقريبٌ جدا من مذهب المازني(1889- 1949)، وعبد الرحمن شكري(1886- 1958)، والعقاد (1889- 1964). فالشعْرُ عند هؤلاء تعبيرٌ صادقٌ عن وقع الوجود على الوجدان، غير أنه يختلف عن هؤلاء؛ فقد أجادوا التنظير، فيما كان شعرٌهم دونَ الذي نظّروا.(ص91)
 محمود شاكر شاعرًا
وعلى الرغم من أنَّ الكثيرين لا يعرفون عن محمود شاكر إلا أنه محققّ لكتبِ المخطوطات، وأن علاقته بالشعر لا تعدو تحقيق الدواوين، وما يستلزمه التحقيق من ضبْطٍ، وشرح، وتخريج للأبيات، وتمْحيص للروايات، ولا دراية لديهم بشعره، ولهذا نهض ابنه فهر، وعبد الرحمن ابن أخيه أحمد، وتلميذُه عادل سليمان، فجمعوا أشعاره من الصحفِ، والمجلات، وأخرجوها في ديوان صدر بعنوان إحدى قصائده « اعصفي يا رياح .. وقصائد أخرى « وقد صدر عن دار المدني في جُدّة 2001. ويبدو أنَّ للمؤلفة موقفًا من شعره لا يخلو من إعْجاب، أو لعله أصابها ما يصيبُ أكثر الباحثين من حماسةٍ لمن يكتبون عنهم، وعن حياتهم، وعن آثارهم في الأدب، وقد حاولتْ إقناعنا بالمزايا الفائقة لشعره على أقرانه من شعراء الجيل بتناولها التحليلي لقصيدته « القوس العذراء «. على أننا لا نشاطر المؤلفة - للأسف - هذا الإعجاب، والافتتان بالقصيدة، مع تقديرنا للجهد الذي قامت به لتوضيح موقفها هذا. فالقصيدةُ أقربُ إلى الصنعة منها إلى الشعر الذي يعبّر بصدق عن وَقْع الوجود على وجدان الشاعر، وهذه الصنعة الزائدة، والهندسة الدقيقة، لم تنقذ « القوس العذراء « من النثرية التي غلبت على ما فيها من المتواليات السردية. ولا نجد في ما تبقى من أشعاره، بما في ذلك « اعصفي يا رياح « التي تروق للمؤلفة، ما يؤكد أنه شاعرٌ موْهوبٌ، إذ ينسحب عليه ما أورده ابن عبد البُرّ (463هـ) في بهجة المجالس عن جواب الأصمعي (210هـ) حينَ سُئل: لم لا تقول الشِعْر؟ قال: ما أريده من الشعر لا يواتيني، وما يواتيني منه لا أريده. أنا كالمِسَنّ؛ أشْحذُ، ولا أقْطع «.
يُذكر أن للمؤلفة بسيسو ديوانيْن، أولهما بعنوان يا طائر الأيك – الرياض 2011 والآخر أموت وكفي ممسك قلمي- عمان 2018 أربعة كتب أولها إحسان عباس وجهوده في نقد الشعر العربي – عمان 2011 والثاني بعنوان آفاق، وهو قراءات نقدية وقد صدر 2017، والثالث بعنوان القراءة الشعرية الفاحصة 2019، وهذا الكتاب.
*ترجمه إبراهيم عوض للعربية وصدر في القاهرة في طبعات عدة أولاها 1978 في نحو 200 ص.