|
عرار: عرار:يبدو أن أعتراض الدكتور سيد البحراوي له بعض الوجاهة عندما سخر من خانة الحداثة أو الحساسية الجديدة التي تصدر الأوامر النقدية بالترقية إليها أو الحرمان منها، فلا أحد يعرف ما هي الدرجة الصحيحة من عدم اليقين أو الشك أو الشعور بالغربة أو الإحباط التي تجعل قصيدة ما حداثية أو تنتمي إلى الحساسية الجديدة في مقرها المركزي بمكتب هذا الناقد أو ذاك.(1) والوجاهة نابعة أصلا من الفهم والوعي الكامنين في الاعتراض بهذا المصطلح القديم الفارغ نوعًا المسمى "الحداثة" فليس في الحداثة مركزية، حتى لو افترضنا أن الحداثة أصبحت بمثابة العقيدة بالنسبة لهؤلاء(2) فإنه ليس من مهمة الأدب أن يوصل تلك المعتقدات بصورة مباشرة॥ إن الملكية الخاصة متراس الحرية، كما أن مهمة الأدب هي نقل الحقائق اللازمانية، وربما بهذا يمكنه أن يغذي في الجماهير روح التسامح والكرم وبذلك يضمن بقاء ملكيته الخاصة: ليس غريبًا في سيادة مفاهيم التعصب أن يتحول محطم الأصنام إلى صنم جديد! ، ويبدو أننا يجب أن نعترف ـ دون أن نستسلم ـ بمركزية النقد عندنا رغم أن الحداثة ـ كمفاهيم ـ ضد المركزية بشكل عام، بما فيها مركزية التراث أو حتى مركزية المفاهيم الحداثية. إن مركزية النقد عندنا ساهمت في انحصار مفهوم الحداثة أو مفاهيمها عند دائرة المركز، أو المراكز الثقافية التي ظلت ومازالت تمارس سطوتها على الأطراف . ومن ثم اصطبغ النتاج الشعري الحداثي بصبغة واحدة ومن ثم ضاقت مساحة "الحداثات" المفترضة لتصبح مجرد "حداثة" متحققة هنا أو هناك. وأرى أن هذه المركزية جزء من هيمنة الخطاب الثقافي للمدينة العربية (المركز) على أطراف الخريطة التابعة لها. ومن ثم فإن نظرتنا النقدية في النصوص الحداثية يجب أن تكون متجاوزة لهذه المركزية بما يسمح بتجاوب أصداء الحداثات في كل أطراف الخريطة الإبداعية دون أن نقيم اشتراطات معينة للحداثة، إذ أن الإبداع متجاوب بالضرورة مع ملامح مكانه وزمانه بل ومع الخلفية الحضارية والاجتماعية له. ومن ثم فإن بريقاً من الوهم قد يدفع كثيرًا من مبدعي الأقاليم إلى ركوب حمارهم الحديدي للوصول إلى دائرة المركز بحثاً عن ترقية ما إلى مركز الحداثة.. إن عملاً كهذا لا يعد من الحداثة في شيء. في جنوب مصر حداثة موازية نقيض، تنبع أساساً من اعترافها بأنها ترتبط بمناطق الطرد وكذلك تعترف بالحكم الصادر ضدها من المركز بالطرد؛ ومن ثم فإنها حداثة الطرد.. لديها اكتفاؤها الذاتي ولا تسعى إلى استيراد المفاهيم والقيم.. كما أنها تأبى أن تتلبس بشكلية ما غير شكليتها في الوقت الذى تعترف فيه بأصالة معدنها. حداثة توازن بين أصالتها ومعاصرتها دون أن يزعجها أو يقلقها العصر الآلي أو ملامح المدينة المتشابكة. ومن ثم فهي تطرد عن حقولها هاجس الحداثة المركزي، دون أن تنكفئ على ذاتها فليس في الأمر ما يؤسف، لقد مارسنا دورنا الحضاري يوم أن كانت دائرة المركز مقبرة لأمراء طيبة.. صدرنا الحضارة إلى العالم غير نادمين. إن ما يؤسفنا حقاً أن المركز يستورد حداثته هارباً من ذاته ومن تاريخه ومن واقعه.. هاجراً الأرض التي لم يفلح في خلق توازنه عليها محلقاً في عالم وهمي مشفراً رسالته إلى الأرض الخراب ـ كما يراها ـ يحط فوق منعطفات لا تخصه؛ لينطلق منها إلى آفاق لا تخصنا. محمود مغربي واحد من المهمومين بصنع حداثة الطرد في الجنوب، يمارس كامل حريته في مجاوزة كل ما لا يخص واقعة ومغايرة كل ألوان الخصوصية فيما عدا خصوصيته هو كمبدع. في ديوانه "أغنية الولد الفوضوي" يؤكد مبدئيًا على ارتباط مشروعه الإبداعي بالجنوب وبملامح الحقول وبالأرض البراح.. يمارس عفوية الكتابة ويمتلك فطرية استخدام اللغة.. يميل إلى عدم الثرثرة الموقعة في دائرة "اللاشعري" ويميل إلى التكثيف اللفظي، دون أن يخنق نَفَس اللغة.. يستخدم "تيمات" شعرية بسيطة تشف عن دلالة استخدامها، وهى في معظمها إما تيمات تراثية أضفى عليها من خلال التناول صبغة عصرية، وإما تيمات جنوبية تشف عن وعيه بخصوصية التجربة وخصوصية الذات. ورغم توفر القاموس الرومانسي في أشعاره ورغم مسحه الحزن الشفيفة التي تغلف أشعاره إلا أنه ومن خلال وعيه بدرامية الواقع ومفارقاته.. وأمام اتساع نظرته إلى الحياة وارتباط تجربته بهموم الإنسان الجنوبي خاصة والمصري والعربي بصفة عامة.. من خلال ذلك وأمام هذا تتمنع تجربة محمود مغربي عن التحليق في الأفق الرومانسي الحالم مؤثراً التغلغل في هموم الذات والواقع مداخلاً له وراصداً لشبكة العلاقات وردود الأفعال المتبادلة بين الذات والواقع دون أن يفصل بين الذات والموضوع. ولنا أن نتوقف في تجربة محمود مغربي عند ثلاثة ملامح أساسية: أولاً: الوعي باللغة وخصوصية استخدامها يؤكد محمود مغربي على خصوصيته في استخدام ألفاظ مألوفة تمامًا وبسيطة، ثم يرتفع بها إلى مستوى الإبداع الشعري المدهش، ليثبت بذلك أن ثمة وعي باللغة لديه، وأنه على مستوى هذا التحدي الأساسي الذي يواجه المبدع عامة. فمما لا شك أن الإبداع باللغة مغامرة شديدة التركيب والتعقيد وهو نفسه الذى يمنحناـ من خلال القدرة على التشكيل باللغة ـ سمة التمايز والتفرد والاختلاف "ويظل بعض ناقصي الخبرة قابعين مندهشين ما بين اللغة العامة المبذولة في المعجم والقاموس والنص الأدبي وعلى ألسنة الناس من ناحية واللغة التي يتفجر بها عمل إبداعي جديدة وكأنها ليست من هذه اللغة المألوفة في شيء، لكن ارتفاع هذه اللغة المألوفة والمبذولة إلى مستوى الإبداع الشعري يظل تحديًا أساسياً يواجه المبدع، وعملية يتداخل فيها الوعي واللاوعي الإنساني، ومخزون الخبرة الحضارية المكتسبة وطبيعة اللغة نفسها"(3) ولأن الفضيلة ـ كما قال الأقدمون ـ ليست في اللفظ ذاته فإن الفضيلة تبقى في الكيفية التي تم بها التوليف بين هذه الألفاظ والعملية الانتقائية التي مارسها الشاعر للإنشاء اللفظي والموقف الشعري الذى مورست فيه هذه التراكيب اللفظية المتعالقة. ولنرى كيف استطاع محمود مغربي التوليف بين مفردات:"دمعة ـ جفن ـ غيمة ـ رشرش ـ الحديث ـ ساعة ـ فتش ـ الطريق ـ الندى ـ الأبواب ـ نطق ـ نخز ـ كَوَّر ـ السكوت ـ الأفق ـ لاح ـ قتامة". وهى مفردات في مجملها مألوفة ومبذولة وتجري على السنة العامة والخاصة.. استطاع أن يخلق منها صورة شعرية على النحو التالي: تلوح في قتامة الأفق كدمعة في جفن غيمة ترشرش الحديث ساعة وساعة تفتش الطريق.. تكور الندى تستنطق الأبواب (تـنخر السكوت ص7) وقبل أن نعي الموقف الشعري الذى وُظِّفت فيه هذه الصورة أو حتى الخلفية الشعورية وقبل البحث عن الدلالة في ضوئهما، فإننا ندرك أن ثمة براعة ما على مستوى التوليف والانتقاء في الجمع بين "دمعة،غيمة" وفى الربط بين "ساعة، وساعة" وبين توالي وتوازي"تلوح، تكور، تفتش، تنخر" وكذا" ترشرش، تستنطق "وكذا" تفتش، ترشرش". هذا الجمع والتوليف والترتيب والتوازي على النحو المطروح يغلف الصورة بنوع خفي جميل هادئ من الموسيقى نابعة من التناسق ومن تساوى المقاطع الصوتية ومن مراعاة النبر والوقف هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ثمة مفارقية مدهشة على مستوى المجاز ناتجة عن إحلال الغيمة محل الكائن الحي الذى يدمع وتسيل من جفنيه الدموع.. إضافة إلى أن الكلمتين أساساً متباعدتان في الواقع، هذا وبصرف النظر عن دلالة الغيمة أو الدمعة وبصرف النظر عن دلالة الجمع بينهما. وثمة إيحاءات بالصمت والسكون والهدوء، وثمة إيحاءات بحركة أنثوية رشيقة لتحريك هذا السكون وثمة أفعال مضارعة تشي بالحركة والاستمرارية وثمة قفلة نهائية "التاء الساكنة" بما يناسب المشهد الساكت. أما لو خرجنا بكل ذلك من إطار المكونات الشكلية إلى إطار أبعادها الدلالية داخل السياق الشعري وفى ضوء الصورة الكلية للنص وتأملنا هذه الدلالة في ضوء اللوحة الخلفية الشعورية للنص لأمكننا استشعار الجو الشعري والموقف الفكري والعاطفي، ومن ثم لأمكننا تتبع رؤيته في أعماقها، وبهذا تصبح مثل هذه الصورة المطروحة مجالاً للإفاضة وهكذا تكون الصورة قادرة على ربطنا بما هو أبعد من تمظهرها الفيزيقي. وما هو أجمل من إيقاعها الظاهري، ولتجاوزنا معها حواسنا تماماً وانشغلنا باستكناه الرؤية والمشاعر ولودعنا الخارجي إلى ما هو فضاء داخلي متسع. أما والصورة السابقة مجتثة من سياق قصيدة "تعتلى الطريق" وهى مهداة إلى روح الشهيدة (سناء محيدلي) الفتاة اللبنانية التي قامت بعملية انتحارية في معسكر الجنود الأمريكان في بيروت عام 1984.. ندرك بداية من العنوان أن الشهداء أحياء عند ربهم وكذا عند الشاعر أيضًا، لا تزال في مخيلته يراها حية تعتلي الطريق.. يراها في صورة كل امرأة عربية تعتلي طريق الكفاح والنضال. وعلى وجه آخر أكثر عمقاً هو يرى أن بطولة سناء محيدلي فوق الموت، وفعلها المضني حرَّك السكوت على قضية لبنان في ذلك الوقت، واستنطق الصمت الذى كان يغلف المكان ويستبيح التواجد الأجنبي المسلح في لبنان. ومن ثم فإن الخلفية الشعرية للنص ترتبط بشكل ما بخيوط الواقع وبذاكرة الشاعر في آن ...الواقع المعبأ بالتبجحات الأجنبية والموات العربي في المقابل، ومن ثم الضياع والشتات والصمت الغربي إزاء هذا التبجح الصهيوني والإمبريالي في المنطقة.. وذاكرة الشاعر المضخمة بمخزون لا بأس به من تراكمات الأخبار والمشاهد الانهزامية والتراخي العربي وفى المقابل من ذلك البطولات الفردية والتشكيلات العصابية والتمردات التي تحدث هنا وهناك لتكسر حدة الصمت ولو لفترة وجيزة. ولعل الخلفية هذه هي نفسها المسيطرة على الصورة في قصيدة "تساؤلات في زمن الردة". كيف لي.. أن أهيئ هذي البلاد لعرس بهي ؟ قالها طفل هذا الجليل.. قلت: كيف التهيؤ والعرب الأقربون والعرب الأبعدون وما بين بين.. سرجوا خيلهم خِلسةً تاركين المخيم والجرح تحت الهجير.. بين فكي حصار!" صـ10 وفى موضع آخر: والسماء تفتح قمصانها للطيور الجوارح هذي الطيور تجهز مصطبة للتواريخ مأدبة للفتوحات أغنية للسيوف القواطع! كيف نسرب هذا المدد والعواصف مستيقظة تحت رمل الحدود! كيف ننشل هذا الوطن؟ والرجال قعود! صـ11 وفى قصيدة "بشارة" يغلف وعيُ الشاعر التجربةَ، فيعرض لتاريخ الحجر وكيف كان قدس الأقداس، وصنماً للتعبد، وها هو الآن في يد الأطفال ينفلق، لا ليخرج منه الماء وإنما ليخرج جيشاً وأبابيل للثورة والخلاص، والبشارة. نخلص إلى أن ذاكرة الشاعر مستوعبة القضايا المعاصرة، والتاريخ، وفى إطار هذا الوعي تتحرك المشاهد الشعرية في قصائده صانعة حركة الصور الجزئية الدالة في عمق التجربة. وعود إلى الصورة التي حددناها أولا.. حيث يبدأ المشهد الشعري حركته بفعل الرؤية "رأيتها" بصيغة الماضي والمتعلق بالضمير المؤنث "ها" هكذا ودون تهيؤ تبدأ القصيدة: "رأيتها" مما يوحى بأن الشاعر عندما ودع ذاته الباصرة إلى ذاته الشاعرة كان مراقباً متأملاً مسرح الحياة، إلى أن ظهرت "سناء محيدلي" فجأة.. ظهرت له لتبدل غيابها حضوراً فذاً. وهكذا الشاعر يوفر الكثير على القارئ لشعره، إذا يستغنى عن الكثير من الأحداث والتفصيلات غير المهمة ليدخل به عنوة إلى قلب المشهد الشعري: رأيتها تمر... تخاطب الجموع وتارة تخاطب الطلول والمدى تلوح في قتامة الأفق كدمعة في جفن غيمة ترشرش الحديث ساعةً وساعةً تفتش الطريق.. ص7 وفى هذا الإطار يتحقق وجود "سناء محيدلي" باعتلاء الطريق داخل المشهد الشعري، بيد أنها وفى حدود الدلالات الكلية للقصيدة موجودة على سبيل المجاز في المخيلة العربية وفيما أحدثته من أصداء متجاوبة حول الحدث. وموجودة ميتافيزيقيا كشهيدة حيَّة في عالمها العلوي الجميل، وموجودة ضمنيًا في صورة المرأة العربية التي تنهج وتعتنق البطولة والفداء. ولنا أن نتأمل كلمة "تعتلي" الطريق.. الاعتلاءـ كقيمة ـ صعود في المكان تعطي دلالتها في علو الشأن، والطريق يعطي دلالته في مسيرة الحياة ومن ثم فإن ما فعلته دلالتها سناء محيدلي لم يؤد بها إلا إلى علو شأنها في الحياة. ومن هنا فإن الموت وهو النقيض للحياة يصبح قيمة حياتية عظمى إذا كان على شاكلة موت سناء محيدلي ومن هنا نلمح تمجيد الشاعر للبطولة والفداء. غير أن سناء محيدلي داخل المشهد الشعري قادمة لتوها في مهمة ليست استثنائية.. هي عائدة لتكمل مسيرتها..لتعيد ما فعلته مرة أخرى.. لتحرك السكوت بشكل ما. وهكذا يرى الشاعر أن الذى مضى لا يزال حاضرًا ماثلاً، ومن ثم تبدأ ذاكرته رصد الحادثة من جديد وهكذا أيضًا تعجن مخيلته الأزمنة، وهى تُدْخِل الماضي في الحاضر مستبدلة بذلك الواقع المقرف بواقع مغاير جديد. والمهمة غير الاستثنائية التي عادت سناء محيدلي من أجلها هي إعادة ما فعلته مرة أخرى وفق رؤية الشاعر الجديدة.. وهكذا هو الشاعر يتمنى ويحلم بعودة سناء محيدلي أو بالمعنى:عودة البطولة وحب الشهادة إلى مشهد السكوت العربي، وهكذا يتجسد المشهد من جديد في مخيلة الشاعر في صورة جديدة فما حدث في الواقع من قنبلة ولغم وسيارة واقتحام وتفجير، كل هذا يتحول في واقع داخلي آخر إلى مجرد مخاطبات ووشوشات وتفتيش هامس، واستنطاق للأبواب ونخر للسكوت، كل ذلك بلغة هامسة رقيقة تناسب وطبيعة سناء محيدلي النسائية. ومن هنا نرى أن أفعال الأنوثة الرقيقة الهامسة الناعمة داخل المشهد الشعري مناسبة تماماً بيد أنها مفارقة للواقع، إن ما قامت به سناء محيدلي من اقتحام وتفجير واستشهاد بطولي لا يدل على نعومة أو رقة.. ومن خلال هذه المفارقية بين الواقع وبين عالم المخيلة يتوالد الاستخدام الشعري للغة وتتوالد الشاعرية التي تجاوز فظاعة الواقع وغرائبيته ومفارقاته وقتامته إلى طقس آخر جميل مصنوع لتوه من أجل سناء محيدلي القادمة في مهمة غير استثنائية وبهذا يتجاوز الشاعر (قتامة الأفق) إلى بياض "الغيمة" ويهبط بسناء محيدلي إلى الأرض الساكتة كي تفتش الطريق الذى أصبح خالياً من البشر أو بالمعنى الأوسع/البطولات العربية.. وتبدأ سناء محيدلي بتكوير الندى.. هي تتلهى بالحفاظ على الندى كقيمة حياتية وإن كانت مفردة (الندى) توحي بالبرودة واختفاء الحرارة بما يؤكد نظرة الشاعر ورؤيته لواقعه العربي البليد النائم في دفء وهمه تاركاً البرودة تقتحم المكان، أو بالمعنى الأوسع: موت البطولة.. وهكذا تصبح مفردة "الندى" خادمة في موضعها وتصبح لها قيمة دلالية وإيحائية وهَّاجة وهكذا يخدم الشاعر اللغة في الوقت الذى يستخدمها فيه. وهكذا تتجاوز الكلمات دلالاتها الوضعية أو المعجمية إلى دلالات شعرية خاصة؛ ليصبح الفعل "تستنطق" كبحث عن الصوت بحثًا عن حل للقضية، كما تعطى مفردة "السكوت" دلالتها في الجبن والتراخي والاستسلام. وهكذا... وإن شئنا أن نكتفي من القصيدة بهذه الجزئية التي حددناها فإننا ـ ونحن في بداية القصيدة ـ ندرك إلى أي مدى تتوالد الدلالات الشعرية وتتسع. وندرك أن ثمة وعي باللغة لدى الشاعر قادر على خلق الانسجام المطلوب بين اللغة من جهة والطقس الداخلي في جوانيات الشاعر من جهة أخرى، وندرك إلى أي مدى تتميز خصوصية الشاعر في استخدام هذه المفردات دون غيرها ليتجاوز بها الشاعر واقعه دون أن يغفله ويجتازه دون أن يبرحه. إن الذات الشاعرة التي تسعى في الأساس إلى مجاورة الواقع أو مراوحته بواقع آخر شعري هي نفسها التي تسعى إلى مجاوزة دلالة اللغة الوضعية إلى دلالة خاصة جديدة.. ومن ثم فإن وعي الشاعر بالحياة والكون والواقع هو نفسه ـ وعلى نفس المستوى ـ وعي باللغة وباستخداماتها، وكلما كان الشاعر مجاوزاً على مستوى الواقع واللغة كلما كان متمايزاً وكلما كان شاعرياً بصورة منفردة. و الذات الشاعرة لا تسعى إلى المجاوزة في الأساس إلا لأن الواقع لم يعد مناسبًا لأن يفكر الشاعر فيه أو يتناوله بالطرق المعتادة؛ فأمام غرائبية الواقع وقرفه وتبجحه تتوالد معاناة الذات ومن ثم تسعى إلى هجر هذا الواقع؛ بحثاً عن عالم مخصوص قد يكون شعرياً وقد يكون مناسباً لأن تمارس فيه الذات التفكير، ومن ثم فالشاعر مفكر بالشعر إذا يخلق قصيدته. إن قصيدة كهذه لابد أن تأتى درامية على نحو ما لأن الواقع المفارق كان درامياً أمامها، ومن ثم يحق للشاعر أن يمارس لعبة الجمع بين الأضداد والمتناقضات ويلم شعث الأشياء وشتاتها مثلما رأينا بين "دمعة وغيمة" و "الحديث والسكوت" و "الأفق والطريق".. يحول الأشياء إلى كلمات ويؤلف بينها ويحركها وفق معطيات جديدة وناموس مغاير، ورغبة مراوغة، كأن ينخر السكوت ويستنطق الأبواب الساكتة باحثاً عن الحياة مثبتًا للحركة نافياً الموات. وهكذا تصبح حركية الأشياء دالة في رؤية الشاعر، مثلما قلنا إن وعيه باللغة هو نفسه وعيه بالحياة أو بالمعنى هو يلاحق بين الوعيين إذا ينتج قصيدته. ولا أنفي بعد هذا أنني شريك مساهم في صنع الدلالة لكنما هي شراكة مؤسسة على وعي مشترك بيني وبين الوعي الشعري الكامن في النص.. بيد أن نجاح النص في أنه سمح لي بهذا الشراكة في الأساس، واجتذبني نحوها. بمظهره البسيط وكلماته المألوفة وسحره الخفي وهندسته المنمقة وتعالقاته البسيطة، وأوغل بي خلف كل هذا إلى عمق قد لا نصل إلى آخره. ثانيا: الرومانسية المراوغة بين النصاعة والغموض: النص الشعري الحداثي لا يعبأ برصد الواقع على علاته ولا يهتم بوصف ظاهره الفيزيقي كما أنه لا يسجل العلاقات بين الأشياء كما هي وإلا تحول النص الشعري إلى تاريخ، ومن ثم لا يحق لنا ـ وقتها ـ أن نبحث عن شعرية ما كامنة في النص حتى وإن بدت الصفة الأدبية بارزة.. فليس كل ما هو أدب يقال له شعر. والنص الشعري الجيد هو الذى يشف بملامح الواقع إذ ينعكس على مرآة الذات.. وعليه فإن هناك مساحة ما يبدأ عندها انعكاس الواقع على مرآة الذات وهى مساحة ليست مكانية فقط أو زمانية فقط.. إنها مساحة من تاريخ العلاقات بين الذات الشاعرة والواقع. لهذا يأتي الواقع بظلاله وخيالاته في النص، يتجسد بقدرة الشاعر على التخيل وبوعية باللغة. ومن ثم فصور القصيدة ليست فوتوغرافية أو طبوغرافية للواقع وإلا أصبحت وصفاً خارجيًا يخلو من تاريخ العلاقة ومن وعي الشاعر كما يخلو من ألمعية الشعر. ومن ثم فإن تلقي النص أيضاً والاستجابة له مرهونان بقدرة المتلقي على التقاط الظلال والخيالات تلك في ضوء وعيه بالواقع دون أن يقع في اللبس، فإنما يحدث الالتباس على المتلقي عندما تكون مرآة الذات ضبابية أو غائمة أو معتمة أو متداخلة الصفات.. ولأن مرآة الشاعر المعاصر ليست دائماً لامعة، فإن جل الشعر الحداثى يأتي مشوباً بالتداخل والغموض. محمود مغربي شاعر عاش حياته في براري الجنوب البكر، بعيداً عن تعقد الحياة وتشابك علاقاتها وبعيداً عن أي لهاث مادي أو خوف من الغد...لذلك أتت مرآة الذات صافية إلى حد كبير، لذلك تلقى قصائده استجابة من القراء، ولا أظن أن الشاعر الذى يوقعنا في اللبس أقل وطأة علينا من الواقع الملتبس. إن "الحداثة النقيض" في جنوب مصر لا توقع جمهور الشعر في اللبس ولا تأتى متشحة بقطع الليل الداجي، ولا تتشكل في صور من أحجار المريخ. ومن هنا فإن الصور الشعرية عند "محمود مغربي" تنتمي جميعها للجنوب.. إذ يتغلغل الجنوب بطقسه وحقوله ورمله وشواطئه وطيوره وسواقية وعاداته وأفراحه وأتراحه.. بكل ما هو يتغلغل في مسارب الذات، وفى مساحة الحلم؛ يهش كل الصور الأخرى التي قد تلوث هذا الوجود المخصوص. ومن ثم تنتشر مفردات البيئة الجنوبية في القصائد.. تلونها بلون الطبيعة الجنوبية فنرى: "النخيل ـ الصهيل ـ الخيول ـ الكرم ـ النهر ـ الشط ـ الطير ـ الصفصاف ـ القبو ـ الفرح القروي ـ العرس البهي...إلخ". وتتلاقح بشكل ما مع مفردات القاموس الرومانسي: "الصباح ـ المساء ـ الأمسيات ـ البراءة ـ الروح ـ الصبابة ـ العشق ـ الحدائق ـ العبير ـ المطر ـ الحنين ـ الفجر ـ الضياء ـ الحزن ـ الأنجم....الخ". ومن ثم نلمس توظف مفردات الطبيعة في التشكيل الصُّوَري بكثرة، كما نلحظ التحام الذات بمثل هذه العناصر المنتمية للطبيعة:"المدى ـ قوس قزح ـ فضاء ـ كواكب ـ عواصف ـ كون ـ عتمة....إلخ". صحيح أن "الحداثة "تحاول أن تتبرأ من رومانسية الشعر، لكنها في المقابل تمجد هجرة الذات كلية من الواقع في الوقت الذى تدعى فيه انغماسها في هذا الواقع. الحداثة النقيض لا تتبرأ من تمسُّح الشاعر في الرومانسية، ذلك لأن الإنسان الجنوبي لا يزال رومانسيًا، لا يتخلى عن حزنه الشفيف ولا عن الالتحام بعناصر الطبيعة التي لا يزال يتعامل معها ويستخلص منها رزقه ويصنع منها سبل حياته. محمود مغربي لا يتخلى عن حلمه الرومانسي ولا عن حزنه الشفيف ولا عن شجنه الجنوبي، وهو يداخل واقعه ويرسم العلاقات بينه وبين الذات.. وفى المقابل هو يمتاح تفاؤله ويهش أحزانه إذ يندغم في الوجود المجسد أمامه.. كما نرى في قصيدة:الغزالة ـ "الغزالة/خارجة من حقول الكآبة/داخلة في دلال الفصول/ فها هي تخلع ميقاتها/وتميل على شاطئي/تهمس/قد فاجأتني الزنابق/دست جمار التوهج في طالعي/ وفى أضلعي نقشت شدوها المستحم بصوت الشواديف/تهمس: /لا تبتئس". وليس أدل على سمات الحداثة النقيض في الجنوب سوى ما جاء في قصيدة: "ساطعًا بالحكايا.. هكذا يخرج" "لمئذنة صادحة/طائر يستبين/طائر يختفي خلف جنح الكلام /حيث ذاك الفراغ/ويندس بين الوضوح/وحذر القتامة/يدور/يدور/ويعلن: /رايتي مفردة/ خلوتي في أقاصي البعيد البعيد/"وأنا أعلم/أنكم لن تروا وجهي" وهكذا هي تجربة محمود مغربي تحافظ على تواجدها بين النصاعة والغموض، ومهما كان تمظهرها الفيزيقي في كلمات فهي بقدر ما تختفي بقدر ما تشف.. إنها الوسيطة المطلوبة والمراوغة الهادئة التي تحافظ على المتلقي من خلال حفاظها على مكتسباته وإن كانت تسمو به نحو منطقة تخلو من إسفاف الفن، أو تسطحه ولغوه، ولعل رصدنا على النحو السابق للملمح الرومانسي لتجربة محمود مغربي يجب ألا يفهم منه أنها تجربة منفصلة عن الواقع وأزمته، بل على العكس من ذلك هي منغمسة في أزمة الواقع التي تشكل بدورها أزمة الذات الشاعرة، وقد تكون أزمة الواقع المعاصر هي التي دفعت هذه التجربة إلى التمسح ببعض الملامح الرومانسية. فليس أشق على الذات من وعيها بأنها مستلبة وأنها منفية وأن كل ما يربطها بالوطن المختزل في الشمال هو ذلك القطار الكسيح" فما عاد صوت العصافير/ يطربني في الصباح الندى/ فكل القصائد/ملغومة بالحنين المعنىَّ/.. وكل الأناشيد محض هباء! /أيها الفوضوي/ما زال بيني وبينك/ ما بين هذا الشمال/وذاك الجنوب/وهذا القطار الكسيح!" ص80 إنها ذات منفتحة على هموم الوطن بقدر ما أنها تستشعر نهايتها تحت وطأة همومها الخاصة..إنه الجرح المزدوج."للجرح../متسع ونافذتان/نافذة على وطني /وأخرى ترى بددي!" ص33. وليس أشق على الذات من شعورها بأن ثمة خيانة كبرى تمت خلسة عبر مسارات التاريخ وأن ثمة عدالة مفتقدة كان من جراء فقدها نفي هذا الجزء الجميل، واختزل هذا الوطن في جزء شمالي منه. هذا الشعور المسيطر لم يزد الذات إلا تمسكا بجنوبها ولم يزدها غير محاولة للإمساك بأصالتها :"وأغل صوب الجنوب/أفتش عن قُبَّرات/بأجسادهن يشيدن جسراً لهذا الفؤاد/و يطعمن شمس الظهيرة/يخبئن زغرودة لا تمل العطاء " وفى نفس القصيدة يقول: "وأجلوا فوانيس روحي.. أشيعها في الفضاء،/أشيعها في الحقول/ لكي تمنح الطير ميزان عدل/يعيد النشيد إلى ثغر عشاقه..."ص16. ثالثاً: الصورة الشعرية ودلالاتها في عمق التجربة النص الحداثي المركزي مشمول برؤية هروبية، إذ تفزع الذات هاربة إلى عالم وهمي جميل ترسل منه شفرات شعرية إلى الأرض الخراب ـ من وجهة نظر شاعرها ـ أو تنكفئ على ذاتها في لحظة حصارها ممارسة عزلتها وسخطها أو انفصامها. إنها حداثة الإختانق والشتات والتشابك في آن.. تداخل العلاقات وتجاوزها.. حداثة العشوائيات التي تجرد الأشياء وجودها الذى يرهق أعصابها...تنام في حضن كوابيسها.. تميل إذا تصنع ثورتها إلى تحطيم الأشياء. في جنوب مصر حداثة نقيض، ليس لديها ما تفرط فيه.. كل شيء عزيز.. ليست معنية أساساً بالثورات ولا بالزوابع التي تحدث في فناجين.. لا تلعن مولد الشمس ولا ثم شيء يرهقها.. إنها حداثة البراح والتأمل.. حداثة الدوحة ـ المزمار ـ الناي ـ إبداع الله في الكون ـ موسيقى الله ـ الشدو ـ الشعر ـ أساطير القبلية ـ حكايا الجدات ـ المصاطب ـ السمر ـ الشواطئ ـ نقاء السريرة ـ الصفاء ـ الغناء ـ الكون المفتوح ـ السماء ـ قيلولة الله ـ البراري ـ وهدة المساء ـ المراعى... وجود لا يلعن بعضه بعضاً، ينام في حضرة الملائكة.. توقظه هزة الأغصان، صوت الشواديف، نقر العصافير، صوت الله في قرآنه، هديل الحمام، التسابيح. حداثة تمتلك واقعها وتسيطر عليه كما تمتلك أصالتها وتراثها تمتاح منهما شجاعة التجوال وهى تتخطى أو تجتاز مراحل نموها وتواجدها. تنمو بطيئة وفق متطلبات لحظتها ووفق مقتضى الضرورة.. ليس من ضرورة ملحة لديها غير امتلاك ذاتها وكرامتها. حداثة ريانه لا تعرف الظمأ الروحي.. ثرية بذاتها وفنونها ومهما بدا أنها فقيرة.. إنه فقر مادي من منظور المدينة التي لا تهجس إلا بالخلاص من إسار سعارها المادى. الذات الجنوبية هاجسها مختلف، لأن عذابها مختلف، ومعاناتها تختلف.. القبيلة ومهما تكن دالة في الأصالة والانتماء، إلا أنها مؤشر على الاتجاه الذى تهج نحوه الذات إذ تستشعر نفيها واختزالها، ومع ذلك فالقبيلة التي تولى وجهها شطر أجداث أجدادها تقف عثرة أمام حراك الذات الطموحة المتحركة وتقتل رخاوة الواقع كما تدهس شاعرية الوجود وتخدش وجه الألفة. صرامة الجنوب أيضًا بمحدداته وتقاليده الراسخة، وأعرافه التي تتحفظ تجاه كل ملمح جديد للحياة.. يتضافر هذا مع شعور الذات بعزلتها واختزالها في وطنها الكبير، وأمام مشاهد الفقر والاهمال الشنيع على الأصعدة الخدمية والاجتماعية تنوء الذات الشاعرة الواعية بحملها، ودون أن تنفصم، ومن دون أن تعتزل أو تفر تمتشق نايها، تتعاطى جرعة الشجن، ثم وفى لحظة القسوة تعالج أحزانها بالغناء. "الغناء" لازمة من لوازم الحياة في الجنوب.. كيف تُستقبل الصباحات بالغناء وكيف يندغم بصوت الشواديف وحفيف الصفصاف.. بل كيف يُستقبل المساء؟! كيف يفنن الجنوب أحزانه "بالعديد" والمواويل.. كيف يعالج أدواء نفسه بل كيف يصدح في لحظات الكدح بالغناء؟! إن تيمة "الغناء" واشتقاقاتها ومرادفاتها لا يستغنى عنها شاعر جنوبي..الحداثة النقيض تعالج أحزانها بالغناء كما تستقبل أفراحها بالغناء. لذلك تشيع في ديوان محمود مغربي تيمة "الغناء" بكثرة، سواء بلفظها أو بمرادفها أو باشتقاقها فنجد: النشيد، القصيدة، الأغنية، الغنوة، الأغنيات، زغرودة، الصدح، ترانيم، أغرودة....إلخ وهكذا تعتنق الذات الغناء، لا تتلهى به أو تزيح به همها فحسب، بل لأن الغناء بالنسبة لها هو مشروعها الجميل الذى تحقق من خلاله كمالاتها، ومن ثم تسمو بالروح إلى آفاق سحرية. ومن هنا ندرك أهمية الشعر/القصيدة/الغناء لدى محمود مغربي ومن ثم قيمة الكتابة الشعرية عنده... ليست القصيدة عنده مشروعًا استثنائيًا.. إنها عمل جوهري يلامس من خلاله جوهر الحياة. تجئ جياد المواعيد جوعى تشاكس صمتي تهز حقولي.. يسَّاقط الرطب وترحل.. عبر تخوم المدى تفاجئ قلبي في لحظة قد كساها النعاس تسطر وهج المسافة تهدهد أغرودة للشرق المفاجئ في مقلتيها ولا تستكين . جياد المواعيد تركض نحوي تفتش.. عن رسمك المستبد تخط على شفتيك ترانيم بحر عصيٍّ وبعضًا من الصور الطازجة ص50 وبجانب تيمة الغناء هذه تشيع تيمة أخرى تتصل بها دلاليا، إنها تيمة "الطير" وأجناسه كالعصافير والقبرات وما إلى ذلك، وهى تيمة ثرية تعطى دلالتها في المغني الجنوبي/المنشد/الشاعر ذاته/الشعراء جميعاً/أهل الجنوب.. تكلمي... على الكآبة تستحي ترحل عن نوافذنا الصغيرة لما يا حبيبي تُستفز العصافير؟ ـ رغم ذلك ـ تُدخل أسماءها في شقوق القصيدة ص 60 وفى قصيدة أخرى: وأوغل صوب الجنوب أفتش عن قبراتٍ بأجسادهم يشيدن جسراً لهذا الفؤاد ويطعمن شمس الظهيرة يخبئن زغرودة لا تمل العطاء ص 15 وفى قصيدة أخرى: لمئذنة صادحة طائر يستبين طائر يختفي خلف جنح الكلام هكذا يخرج حيث ذاك الفراغ ص61. ولعل تيمة الطير بعامة قديمة في الشعر العربي، ولقد التقطها الشعراء الحداثيون وتوسعوا في فك التيمة إلى جميع أجناس الطير "النوارس ـ القبرات ـ العصافير ـ الـ....الخ". بيد أننا في ديوان محمود مغربي نلمح جنساً وافداً لتوه على الاستخدام الحداثى للتيمة إنه "الغراب".. الغراب الطائر الذي ارتبط في تراثنا الإسلامي بأنه أول من علم ولد آدم كيف يواري جثة أخيه، هو معلِّم إذن، وإن بدا أنه رسول العناية الإلهية في اللحظة ذاتها. "الغراب... اعتلى ربوة في الجحيم وأفلت ناياً بحجم الخرافة ص20 وإن كنت أود التوقف عند هذه الصورة لنرى إلى أي مدى هي الصورة الشعرية دالة في عمق التجربة عند محمود مغربي. في هذه الصورة قام الغراب/ الشاعر "إذ تتماهى شخصية الشاعر أو لنقل تتخلى عن كينونتها بصفة مؤقتة.. ترحل نحو ذات أخرى طائرة قامت بجهد اعتلاء الربوة.. ولعل اختيار الربوة يدل على وعي الشاعر بصعوبة ووعورة المشوار وقيمته العلوية، إذ سيصبح على القمة في النهاية.. ومن ثم تدل على وعيه بقيمة الشعر كرسالة جمالية وقيمة علوية لكنها عبر مسيرة تحققها في النص وتحققها في أثر ما تخِّلفه في الواقع محفوفة بالخطر والجحيم. القصيدة إذن عند شاعرنا رحلة عذاب.. ثمة مخاطرة بحاجة إلى بطولة ووعي مسبق بأنها قمة في الجحيم.. طبيعة العملية إذن تدل على إيمان مبدئي بجدواها، وإلا لما ضحى بكل هذه المعاناة من أجلها. ولنا أن نتخيل فظاعة الجحيم، ورهافة الغراب وضعفه في المقابل.. هو لا يمتلك غير جناحين وريش هش ومع ذلك استغل قدرته على التحليق وحدد هدفه ليعود إلينا بقطعة من الجحيم (النار) التي ترمز هي الأخرى كتمية شعرية إلى الكلمة الوهج/ ألق الشعر/ القصيدة الجمرة/ معاناة استولاد القصيدة. ولعل الصورة هذه تتلاقح بشكل ما مع أسطورة "برومثيوس" اليونانية حيث يصعد برومثيوس إلى أعلى ليسرق من قرص الشمس فيعود محترقًا منها، وإن كانت الأسطورة تركز على التحدي البشري لقوى الطبيعة أو القوة العلوية إلا أنها من جهة أخرى تركز على شجاعة برومثيوس وتشبعه بروح التحدي وكذا اختيار للمغامرة رغم خطورة العملية التي يسعى إليها. هكذا يشبه الشاعر مهمته بمهمة برومثيوس في خطورتها ويركز على تشبعه بروح برومثيوس التي تسعى لاقتحام المستحيل. ولقد تشبع من قبل "أبو القاسم الشابي" بروح برومثيوس ووازى بين مهمته الشعرية في الحياة ومهمة برومثيوس أيضاً وذلك في قصيدة "نشيد الجبار" أو "هكذا غنى برومثيوس". حيث قال: سأعيش رغم الداء والأعداء أرنو إلى الشمس المضيئة هازئاً كالنسر فوق القمة الشماء بالسحب بالأمطار بالأنواء إلى أن يقول: إني أنا الناي الذى لا تنتهي أنغامه ما دام في الأحياء إلى أن يقول: إن المعاول لا تهد مناكبي فارموا إلى النار الحشائش والعبوا والنار لا تأتى على أعضائي يا معشر الأطفال تحت سمائي وعلى هذا النحو أيضا نحى "هولدرلن" عندما قال عن دور الشاعر: "جميل بنا نحن معشر الشعراء أن نحمل البروق الربانية إلى الشعب ملفوفة في الأناشيد". وهكذا يرى "رامبو" أيضا أن الشاعر "سارق النار" إذ يقبض على الكلمة التي ينفخ فيها من روحه كي تتحول إلى سيف من النار! وهكذا هي دلالة النار/ الروح المقدسة في النص/ شرارة الحياة التي تحيل الكائنات شعراً / بروق الرب.. "النار" عند محمود مغربي تستحيل جحيماً، بما يفوق تصور رامبو، وهولدرلن هل لأن البروق الربانية والنار/ اللهب المسروق لم يعدا بحجم خرافة الواقع؟! هكذا يبدو محمود مغربي مستبصرًا دوره في عصر يستدير ـ رغم نزعته العلمية وتقدمه المادي ـ نحو الخرافة.. إنها المفارقات الشكلية والجوهرية أيضاً في عصرنا، إذ يستحيل التسليم بها إلا في ساحات الخرافة. هل لأن الشعر أيضا في غربته عن واقع ليس بشعريٍّ البتة أصبح خرافة في أذهان الناس؟! .. هل استخدام الشاعر للفظة "غراب" من دون أجناس الطير يعبر عن رأي الشاعر في ذاته أم أنه استخدام يعبر عن رأى الناس في الشاعر؟! الغراب بسواد لونه وبصوته الذى ينعب به.. صوته المزعج هذا.. وهو الذى لا يقدم نفعاً للناس.. يعيش مترممًا على ما نفق.. هذا الطائر محكوم عليه باللاجدوى والقبح في واقع يأباه تماما.. هكذا يبدو الشاعر متفهما للمفارقة بين طبيعته ودوره.. ومن هنا تتوالد معاناته وتستفحل.. معاناة تنضح بها الصورة: "اعتلى ـ أفلت" مفردتان مشحونتان بدلالات المكابدة والمجاهدة، وكذلك مفردة "ربوة" تعطى دلالتها في علو المكانة والسمو إلا أنه سمو مرهون بالمجاهدة والمشقة. ولنا أن نتأمل لفظة الناي" التي تعطى دلالتها في صوت الشاعر المشحون بالشجن.. ناي عظيم بحجم الخرافة.. إن هذا الربط بين الناي والخرافة يربط طرديًا العلاقة بين أزمة الإنسانية بعامة وبين أزمة الذات الشاعرة، ويصنع أيضا المفارقة بين خرافية العصر الكبرى وبين مشروع الشاعر.. إنه عصر منفلت متفلت بآلاته وجحيمه.. حالم رغم لهائه بتحقيق الرفاهية والسعادة.. إن هذه المقابلة بين الناي والجحيم تصنع المفارقة الشعرية من جهة وتبرز الدور العظيم للشاعر الذى يتأسى لحال عصره ويمتشق نايه/ صوته الشعري الذى استطاع رغم جحيم عصره أن يفلته، وإن شئنا يفلت به. من جهة أخرى فإن مفردة "جحيم" هذه المفردة المنتهى في الصورة تقذفنا نحو هويس آخر، إذ المتبادر إلى الذهن الحقائق لا الخرافات، وهكذا في إحلال الخرافة محل الحقيقة يبدأ هويس الدلالة في الانفتاح من جديد.. هذه المفارقة الأخيرة كفيلة بتأجيج الصراع مرة أخرى بين الذات والواقع، ومن ثم فإن كلمة "خرافة" التي أتت في نهاية المشهد تبدو كما لو كانت شرارة بدء جديد لصورة أخرى؛ لأنها في موضعها حلت محل الحقيقة التي يسعى إليها الشاعر في الأساس، فمهمة الشاعر ربطنا بالحقائق الكلية وراء الوجود وجعلنا بصورة ما قادرين على تأملها. إذن فكلمة "الخرافة" في موضعها لا تعبر بكيفية استخدامها ودلالتها عن نهاية بقدر ما تعبر عن مفارقة تدفع الشاعر إلى فتح ألبومه الشعري مرة أخرى، إذن هي مفجر شعري وليس نهاية وحسب. وهكذا تتوالد صور القصيدة من بعضها وتنتشر طولياً وتراكمياً بشكل متضافر.. جميعها تتعاون لصنع البنية الكلية للنص. ولنا أن نلحظ الصورة التالية لها لنرى هذا التوالد واضحا: الغراب.. اعتلى ربوة في الجحيم وأفلت نايا بحجم الخرافة .. تمتم: طأطأ النخل هاماته للخراب.. ***** عبد الجواد خفاجى 28/8/1999م Khfajy58@yahoo.com الهوامش: 1 ـ يرجع في هذا إلى كتاب د/ البحراوي - (في البحث عن لؤلؤة المستحيل) 2 ـ يرجع في هذا إلى مجلة "فصول" العدد 4 مجلد 4 صـ57 مقالة إدوارد الخراط حيث بدأها "أبدأ بأن أضع إيماني بالحداثة موضع العقيدة" 3 ـ فاروق شوشة - مجلة الشعر العدد 62 أبريل 1991م ص79 في "سيرة شعرية (اللوحة الخامسة) - مع قصيدة الشعر الجديد". الكاتب:
اسرة التحرير بتاريخ: السبت 17-03-2012 12:46 صباحا
الزوار: 2062 التعليقات: 0
|