السمات القصصية في مجموعة مهدي نصير «إيقاعات ثمودية»
عرار:
د. محمد عبدالله القواسمة لم يخل الشعر العربي منذ العصر الجاهلي حتى أيامنا هذه من المظاهر القصصية، التي تتجلى في تقديم الأحداث والشخصيات وتصوير البيئة المكانية والزمانية. وتحضرنا معلقة امرئ القيس كمثال على وجود عناصر القصة في القصيدة الجاهلية، وبخاصة في الأبيات التي تناولت ما جرى يوم الغدير، الذي التقى فيه الشاعر ابنة عمه فاطمة وصويحباتها. لا غرابة، ونحن نشاهد سيطرة السرد القصصي (الرواية) على أجناس الكتابة كلها، في أن تتوافر سمات القصة في شعرنا الحديث. ولعل قصيدة النثر هي أقرب الفنون إلى فن السرد، وأكثرها تأثرًا بفن القص وأساليبه. وهذا ما نجده في مجموعة الشاعر مهدي نصير»إيقاعات ثمودية» (عمان: وزارة الثقافة 2018م) إذ تجلت فيها سمات قصصية كثيرة، واستفادت في بنائها من بنية القصة سواء البنية التقليدية أم الحديثة، فقصيدة «محاولة»،على سبيل المثال، تقوم على حدث رئيسي، وهو محاولة الذات الشاعرة أن تتسلق جدارًا، ولكنها تفشل في محاولتها، وتسقط دون أن تجد من يحاول أن يخفف عنها، أو يساعدها على نجاح مهمتها: أتسلل في خفية أتسلق بعض النتوءات فوق الجدار وألهث/ أزرب من عرق الخوف تبتل كفاي يسقط من قدمي حذائي القديم وأهبط/ أسقط أنظر للأسفل/ غابة من هشيم وأنظر نحو الجدار/ بعيدًا تعالى والزيت يعلو يدي ويطفو على قدمي ولا أحد في الجوار لا أحد في الجوار.(ص37) من الواضح أن بنية هذه القصيدة تقترب كثيرًا من بنية القصة؛ فإذا ما حاولنا إحداث تغيير طفيف في منظومتها، وترتيب سطورها ننتهي إلى قصة قصيرة جدًا ناجحة. فهي تبدأ بداية تقليدية باستخدام ضمير المتكلم، ثم تتوالى الأحداث أمام أعيننا،وكأننا نشاهد شريطًا سينمائيًّا باستخدام الفعل المضارع الذي يدل على اللحظة المعاشة،وتتلاحق الأفعالكرونولوجيًا: أتسلل، أتسلق، ألهث، تبتل، يسقط، ثم يبلغ الحدث الذروة بالهبوط والسقوط، وتكون النهاية مفتوحة؛ فلا أحد بالجوار، ويبدو الجدار رمزًا لانعزال الإنسان ووحدانيته، وطغيان الذاتية والأنانية على البشر؛ فلا أحد يهتم بما يكابده غيره في الحياة. وإذا كانت هذه القصيدة تنهض على بنية قصصية تقليدية، تتكون من مقدمة ووسط ونهاية، فتوجد قصائد أخرى ذات بنية حداثية لا تراعي هذا الترتيب الأرسطي، ولا تلتزم بالتسلسل الكرونولوجي للأحداث مثل قصيدة « لا تذهب بعيدًا»: لا تذهب بعيدًا فأنا أجلس حاملًا فوانيسي القليلة والضئيلة أرقب الزيت الشحيح من زجاجة صغيرة تغص بالورود الخائفة لا تذهب بعيدًا فأنا أجلس منتظرًا مجيئك الذي تأخر كانت زيارتك الأخيرة والقصيرة حين كانت الريح تلهو فوق ماء البحر كالضوء الريح الآن خائفة ونائمة وترضع من زجاجات كبيرة تدخن كالعجائز في المساء وترتدي أسمالها وتموء(ص156) يتكشف المشهد عن تلك الشخصية، وهي شخصية رجل يجلس بعيدًا في انتظار شخصية أخرى، ويطول انتظاره فيغرق في الذكريات، واستعادة ما حدث في المكان نفسه، عندما كانت الشخصية الأخرى تسعى لرؤيته وزيارته. ثم تكون النهاية في جو كئيب وعبثي؛ فلا تأتي تلك الشخصية؛ مما يذكرنا بمسرحية صموئيل بيكيت في «انتظار جودو». وتستند القصيدة، مع اختلاف بنائها عن سابقتها، إلى ضمير المتكلم، وتعتمد على الجملة الفعلية التي يتطلبهاالسرد القصصي، وسط أنسنة الأشياء، وتكرار الفاتحة» لا تذهب بعيدًا» لتكون مرتكزًا موسيقيًا، وذات دلالة على شدة تأزم الذات التي تنتظر من لا يجيء. لا يكتفي الشاعر ببناء قصائده بناءً قصصيًا بل إنه يستخدم السرد والوصف في كل قصيدة من قصائد المجموعة، وأبرز مظاهر السرد استخدام الفعل «كان» الذي اعتمدت عليه شهرزاد في جذب سيدها شهريار إلى الاستماع إلى حكاياتها، وعدم التفكير بذبحها، كما تخبرنا قصص» ألف ليلة وليلة». ويتردد الفعل «كان» في كثير من قصائد المجموعة حتى إن بعضها تعتمد عليه في بنائها وموسيقاها،مثل قصائد: « بكاء» (ص،38)، و»رثائية متأخرة للشنفرى»(ص41)،»الآن أنت باسط ذراعيك بالوصيد» (ص65)، و»موت»(ص72)»حطابون»(ص78) وغيرها. ولعل قصيدة «بكاء» تصلح لتكون مثالًا على كثرة استخدام» كان» في قصائد المجموعة: هل كنت تبكين في آخر الليل خوفًا وتنتحبين علي؟ كنت على حجر واقفًا وأكسر بعض الزوابع / بعض الرياح كنت قصيًّا وكنتِ كزهرة لوز وكنت أكسرها بمطارق من حجر وأقايضها علفًا للصباح(38) يلاحظ أن كثرة استخدام «كان» قرب النص كثيرًا من النثر القصصي، ولم تستطع الصور الرابضة في تكسير الزوابع، وتحقيق العنف على الزهرة بمطارق حجرية من إنقاذ القصيدة من مخالب النثر. كما يلاحظ في كثير من قصائد المجموعة أنها تبدأ بتقديم البيئة الزمانية والمكانية. ففي قصيدة «حبيبتي» تُقدّم الحبيبة قبل الدخول في الأحداث مثل نجمة الصباح، وجدائلها مثل الضوء الذي تداعبه الريح: حبيبتي كانت كنجمة صغيرة تطل في الصباح كانت السماء تتكي على جدائلها التي من الضوء السماوي الملفع بالرياح (ص95) وتعتمد قصيدة «هشيم» على تقديم الحدث من خلال وصف السماء في المساء والصباح، وفي كلا الوقتين تبدو مظاهر الخراب والقحط والبؤس تملأ المكان. أطل في المساء كانت السماء كالجريد كالهشيم يابسة ومعتمة ويغزوها الجراد والرياح والرمال والجحود أطل في الصباح كانت السماء هائجة بشوك يابس هش وترعاها النياق السود.(ص97) وتبدأ قصيدة «عراء» بكشف ما في المكان من أشياء وشخصيات، وما يجري فيه من أحداث. فالمكان ساحة فيها طوابين لا تعمل، ونساء حولها يستبقن الرجال في نظراتهن إليهم. عراء وفي الساحة بضع أرغفة ونساء تجمعن / يلبسن أسودهن ويرخين في شبق يائس من جلابيبهن ويمطرن بعض الرجال بنظراتهن البعيدة(ص101) أما الحوار فيبدو أنه أقل العناصر القصصية استخدامًا في مجموعة «إيقاعات ثمودية» لمهدي نصير،كما يظهر ذلك في قصيدة «تشققات طينية» التي تقوم على استرجاع الشخصية الحوار، الذي كان قد دار بينها وبين الشخصية الأخرى.والزمن المستعاد ما هو إلا لحظة بائسة،ويبدو ضمير المخاطب مقابلًا لضمير المتكلم ومعادلًا له في بنية القصيدة/القصة: شاحبة عيناك ترتجفان دوري صغير كان يقفز فوق سور كنت متكئًا عليه وممسكًا بين يدي كفّك الراعشة المرتجفة - هل سوف تذهب؟ كنت تسألين.(ص68) هكذا رأينا أن مجموعة مهدي نصير «إيقاعات ثمودية» استفادت في بنائها من بنية القصة، وتوافرت في كثير من قصائدها سمات النثر الحكائي، والسرد القصصي، الذي يعتمد غالبًا على ضمير المتكلم، والجملة الفعلية. وهي لم تغفل أن تجسد مكونات قصائدها القصصية من شخصيات، وأمكنة، وأزمنة، وحوارات وغيرها، من خلال استخدام الأساطير،
والرموز، والصور الشعرية، وتوظيف التراث الأدبي والديني؛ ليغدو المتلقي وكأنه أمام نص مهجن من الشعر والسرد القصصي.