|
الشّعر كما أتصوّره.... بقلم عبد المالك بولمدايس الشعر رحلة البحث عن الذّات والغوص في بحار الوجدان بحثا عن حقيقة المشاعر و كنه الأحاسيس .. وسائله الحروف والكلمات والأوزان والبحور … مؤثرات قويّة تعمل على استفزاز أعماق الوجدان وأغوار الذات وتثير فيه كوامنه و موروثاته و أرصدته الثقافية بمختلف تفاصيلها الدينية و الفكرية و الاجتماعية و الجمالية و الاقتصادية و النفسية لتضطرب بحاره وتهيج عساها أن تخرج من بين أمواجها الثّائرة، ورمال أعماقها المائرة أصدافا وجواهر هي ما نسميها اصطلاحا أو وظيفيا بالشعر … و الشّعر بعد ذلك سرّ من أسرار الذّات تمرّد في لحظة من لحظات الهيجان النّفسي أوهو انفلات من مدار الوجدان في حين غفلة من الفكر والعقل و نشاط غير اعتياديّ للعاطفة و الشعورمع ارهاصات عقلية من الحين و الآخر... وأتمثّل الشّعر أولا بناء معماريّا قائما بذاته : أساسه روح خفيفة وذوق مرهف وحسّ مفرط وحدس كاشف وإحساس بالآخر ولغة متينة و توظيف للفكرة موفّق .. أدواته الحروف والألفاظ والمعاني … ولبناته جداريّة الماضي والحاضر والمستقبل… وما الشّاعر إلاّ مهندس مبدع وبناء ماهر ليس إلاّ … وسط هذا الساحة التي تعجّ و تضطرب... ويبقى للعين الكاشفة المحبة للجمال و الرّوح الشاعرة و الذائقة الجيّاشة الحكم على عظمة البناء ومتانة لبناته و صلابة أعمدته و قوّة أساساته وللناقد بعد ذلك الحقّ في الإدلاء بدلوه وفق منهجه المنتهج و أدواته النقدية و الفنّية في التعامل مع النّض الشعري محا النقد و الدراسة.... . وليس من يبني كمن يرى، ومن يبدع كمن ينتقد و من يحلّق بأجنحة كمن يمشي برجلين أو يزحف ببطنه أو يتسلّق الجبال الوعرة .. .. فالشاعر يحترق ويتألّم وينتج بينما النّاقد يتمتّع بما يرى و ينفعل لما يحدث ثمّ يعطي رأيه ببساطة و بكثير من الذّاتية أحيانا و لمصداقية أحايين أخرى… فحال الشّاعر معاناة و تمرّد و تعثّر و حال النّاقد توافق واختلاف … و الحقّ أنه لا يخلو بناء إنسانيّ من عيوب وهنات إذ أنّ البشر يخطؤون و يصيبون ويكمّلون بعضهم بعضا نقدا وإضافة وتحسينا وتطويرا غير أنّ الشاعر حالة خاصة وشاذة فهو كالزّئبق ينفلت من بين يديك حين تظنّ أنّك تمكنت من الإمساك به … فعليه فالشعر في حركة تمرّد دائمة متواصلة إن في صعوده أو في هبوطه أو في استقراره، إذ أنّ الشعر يحمل في حروفه عناصر التّمرّد وخصائص الانفلات وبذور الانطلاق والانعتاق فهو وُلد ليكون حرا و لن يدرك قيمته إلا الأحرار و لا يشترط أن يكونوا من الشعراء و الأدباء و النقاد … والشّعر ليس تفاخرا و تنافسا وإنّما الشعر بناء إنسانيّ خالد .. وكم من مدائن أمست سرابا وكم من قلاع أضحت في خبر كان … وكم من ملوك هدّهم سيف النّسيان وغمرتهم أتربة الإهمال ولم يزل الشّعر ديوانا شاهدا وشامخا يتحدّى ثقل السّنين وأسياف النّسيان وأنياب المنون وأتربة الإهمال … الشعر يأخذ من الوجدان أجمل ما فيه وأخطر ما فيه أيضا … و ليس بمقدور كلّ إنسان آدميّ استكشاف وجدانه واستفزاز كوامن الإبداع فيه … وليس بمقدور كلّ من استكشف وجدانه ترجمة أجمل ما فيه وأخطر ما فيه إلى شعر موسيقيّ رنّان وكلام منظوم وسنان يتهادى من ثقل ما يحويه ويتيه من روعة ما يضكه من جواهر و كنوز... … و ليس بمقدور النّاقد أن يستكشف أغوار وجدان الشّاعر ومناهل أخذه إذا سلّمنا بداية أنّ الشّاعر نفسه عاجز عن الإحاطة بوجدانه وقراءة ما فيه قراءة صحيحة و موضوعية .. فكيف بمن وجد أصدافا متناثرة وجواهر متفرّقة ولا يعلم عن حقيقة مالكها شيئا ولا عن مصادر استخراجها شيئا .. إنّما هي جواهر تسحر وأصداف تبهر …. وأتمثّل الشعر ثانيا مصدرا والنّقد مرجعا ..وما المصدر إلا الوثيقة الأولى وما تحمله من نصوص وأفكار ودلالات وكذلك الشّعر .. وما المرجع إلاّ الوثيقة التالية التي تناولت الوثيقة الأولى أي المصدر بالشرح و التحليل والزيادة والاختصار والترجمة والنظم .. ومن ثمّ فوجود الوثيقة الأولى علّة وجود الوثيقة التالية ، ومن كان سابقا في الوجود كان ولا فخر أكمل وأفضل ممن كان أثرا من وجوده … أو نعمة من إحسانه و فضله ... تلك حقيقة كبرى لا يمكن تجاهلها ولا طمسها … وعليه فما النّاقد إلاّ كحاطب بليل في غابة الشعر السّاحرة … وأتمثّل الشعر ثالثا رسالة بالغة الأثر تخاطب الوجدان وتحاور الذات و تحرّك الشعور علّها تنجح في بناء جسور معبدة بين اكتظاظ تناقضات الفكر الإنسانيّ و تدافع عوالم الذوات البشريّة … الشعر رسالة عظيمة تترفع عن أسواق النّخاسة وبورصات المزاد العلني … وسيلته اللفظ الشريف والمعنى الشّريف .. يختار لكلّ مقام مقالا بأسلوب سهل ممتنع يقتضي حال المخاطب .. إنّه ولا فخر كالدّواء الذي وافق الدّاء فحصلت العافية وحلّ الشّفاء .. والشعر أخيرا مسؤولية ينوء بحملها الوجدان وتعجز عن ارتيادها الفرسان .. والله أسأل التوفيق والسّداد وحسن الفهم … “وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون” الكاتب:
إدارة النشر والتحرير بتاريخ: الثلاثاء 26-05-2020 07:25 مساء الزوار: 3366
التعليقات: 0
|