|
عبد الله البردوني.. جذوة شعر لا تنطفئ.. بقلم د. رجب ابراهيم يمثل عبد الله البردوني هرما شعريا، وفكريا، وثقافيا،وسياسيا،ليس لليمن فحسب بل للعرب قاطبة. فلم يكن الشعر عنده مجرد نظم ورصٍ لكلمات على وزن وإيقاع، وإنما كان طاقة إبداعية خلاَّقة تسمو بالروح والفكر معا. إنك حين تقرأ شعره للوهلة الأولى، تشعر أن الرجل يختصر لك أحداث التاريخ وعبره اختصارا، يخرجك من دنياك الحاضرة خروجا مؤقتا لترى العالم على حقيقته كما يراه هو وإن كان فاقدا للبصر. لقد بنى البردوني لنفسه، بكلماته وشعره، حضارة شعرية سمت بالروح والنفس، وارتكزت على فهم عميق ذي فلسفة خاصة، ورمزية دلالية. حيث كانت كلماته تتصاعد نغمًا صادحًا لا يتناهى، نغمًاعجيبا زاخرا بترانيم مُوَقَّعَةٌ تَشُدُّ الخاطر والناظر، وتمس في ثنايا الحس والشعور. كان يتكأ في هذا كله على جانب شعري موروث مألوف، وتؤازره في ذلك جوانب إبداع ذاتية عبقرية لشاعر فذ، يأتيه عارم الشعر وطوفانه طواعية واختيارا، وهيهات لسيل الشعر إذا جاء أن يقف قبل أن يمد مدَّه، ويبلغ حدَّه: "ومن يسد طريق العارض الهطلِ" كان شعره يعكس فهما عميقا لقضايا أمته لا سيما قضايا الحرية والعدالة الاجتماعية، الأمر الذي يفسر ما نجده عنده من عطف ورحمة بالفقراء، وإحساس باليتامى والثكالى، وحزن لنشيج المكلومين والحيارى، أضف إلى ذلك ظروف نشأته الفقيرة، وبيئته المعدمة الكادحة المحرومة، فألقى هذا بظله في حنايا شعره وثناياه مبرزا التناقض الطبقي الذي يراه، ورفضه لترف القصور القائم على استنزاف جهد الكادحين. إنك لتحس في صوته فنًّا ملتهبا، وهو حين يدنو يَتَّقِدُ بالحنين اليمني، والولاء العربي يَسْتَكِنُّ به؛ ليودع في دنيانا أسرار مناجاته، وليفصحَ لنا فيها عن مكنون سره الآسر، ويبوح بكامل وجده فيه. لا يلبث مع هذا كله يغدو ويروح صنَّاجة شعرٍ هاتف بالمعنى السرمدي الخالد، الدافق بالإيمان، وكأنه رسول الشعر إلينا،إن كان للشعر رسول. جاء شعره الوطني معبرا عن إيمانه العميق بوحدة اليمن الطبيعية، وبالوحدة العربية الواجبة، وبقضية فلسطين التي اتشحت كلماته عنها بوشاح من الأسى والحزن، مع سلاسة الألفاظ وعذوبتها. عاصر البردوني كثيرا من أحداث الأمة وأزماتها، لكنه مع ذلك كان في ظلام الأحداث نجما يَتَنوَّرُ في الدُّجنَّة، ورئةً تتنفس عما يَقْدُمُ أملا في غد زاهر. كان صوت الأمة المستبشر، فما فتئ يلمح وراء كل داجيةٍ نجماً يُشرق ويسمع بعد كل خفتة صوتاً يخرِق، يهدي الحائر إلي مخرج.. يتبلج خافقه بكل الأماني، ينتصب إزاء كل حق منتصرا لقضايا أمته، وشعبه، ويحتضن كل الأطياف الفُزَّع ينزلها شغاف قلبه. وحاله: فإن رمي الليل بظلمائه ** فوق الروابي واعتزي بالرياح وصار كهفاً مرعباً مظلماً ** فبشر الدنيا بنور الصباح أطلعنا البردوني في شعره على عالم آخر متزاحم بألوان الخير والفن والجمال، ويسكب شذا شعره في العقول، ويمطر على دروب السارين المدلجين في ليالي فكرهم طيوب الرَّيَّا من روائع الشعر الإنساني الخالد. تستطيع من خلال قراءتك لديوانه أن تنتبه إلى حقيقة كامنة فيه، وهي أننا أدركنا بسر شعره حقيقة الإنسان، وسر وجوده، جعلنا نعرف امتداه وجذوره. أدركنا سر الموت وكنهه وحقيقته، فهو قدر محتوم وأجل معلوم: كل غصن له مذاق جديد......كالمليحات كل أخرى جديدة
إننا،ومنذ رحيل البردوني، لا نزال نبحث في ثنايا الأصوات الشعرية التي تعج بها الساحة الأدبية عن صوت يمثل الضمير الإنساني كما مثله البردوني. الكاتب:
اسرة التحرير بتاريخ: الإثنين 23-03-2015 04:02 صباحا الزوار: 11763
التعليقات: 0
|