«تراثٌ مِن عبقِ الترابِ»... مِن خيمةٍ في «غزالة» إلى أكاديميّةٍ في باريس
عرار:
نضال برقان
فكرةٌ ثوريّةٌ جديدةٌ، تلكَ التي عادت بها الصّبية «حاكمة عايد ترابين»، من مصر، في نهايات القرن الثامن عشر، بعدَ أن درست الطبابةَ، متخصّصة بطب العيون، في بيمارستان المنصور قلاوون، داعيةً إلى تجميعِ مقتنياتِ أفرادِ القبيلة الراحلين، في مكانٍ مناسبٍ، يحفظُ تلكَ المقتنياتِ، ويحفظُ ذكرياتِ أصحابها في الوقت نفسِهِ، بدلا من دفنها مع أصحابها، كما جرتِ العادةُ، وقتذاك، ما أسفرَ عن تأسيسِ أولِ مُتحفٍ خاصٍ في مجالِ التراثِ الفلسطيني، في العام 1790، في قريتها الصغيرةِ «غزالة»، في منطقةِ بئر السبع جنوب فلسطين، باسم «متحف تراث من عبق التراب». لم تجد الصّبيّة، وقد تسلّحت بالإرادةِ والمعرفةِ والعلمِ، ممانعةً من قِبَلِ رجالِ القبيلةِ في سبيلِ تحقيقِ رؤيتها المبتكرةِ، والتي تتمحور حولَ الربطِ بين العقلِ والجسدِ، من خلالِ الحفاظِ على القطعِ التراثية من الماضي، من أجلِ تعزيزِ رفاهية الأفرادِ في الحاضر، بهدف تمكينهم لتحقيقِ عبورٍ آمنٍ نحوَ المستقبل، عبورٍ غيرِ منقطٍ عن الجذورِ والتراثِ والهويّة الجمعيّةِ، ما قدّم طريقة ثوريّة في النظر إلى أنشطة المتاحف، حيثُ تعدّ المقتنياتُ الإثنوغرافيةُ، المرتبطةُ بحياة الأجدادِ الراحلين، وسيلةً لتعزيزِ المعرفةِ وشفاءِ الذاكرةِ، بقدرِ ما يشفي الطبُّ الجسمَ. ولدت ونشأت حاكمة عايد ترابين في قبيلةٍ شبة بدويّةٍ، في العام 1775، وهي قبيلةٌ كانت تتحرّك بينَ سيناء والنقب، وصولا إلى غزة والجليل، في فلسطين التاريخيّة، وفقًا لمتطلبات رعاية الجِمال، والتجارة، وحصاد النحل، والرعاية الطبيّة، ورحلاتِ مواسمِ النقاهة والحج، وقد اعتادت تلك القبيلةُ على ابتعاث فتياتها لدراسة الطبّ في الحواضر المجاورةِ، منذ قرون خلت، استنادًا لثقافةٍ مستوحاةٍ من الفلسفةِ اليونانيةِ العربيةِ وأبرزها العصر الذهبي الإسلامي (750–1258)، مع التركيز على محوِ الأميّةِ، وبناءِ شخصيّة الأبناء بوعي يتيحُ لهم المشاركةَ في النقاشاتِ والحواراتِ حتى وإن كانوا في مرحلةِ اليفاعةِ. خلالَ تواجدها في القاهرة، ومن ثمّ في الإسكندرية، كانت التلميذةُ في بيمارستان المنصور قلاوون، حاكمة عايد ترابين، منغمسةً في دراسةِ الطبّ من جهةٍ، ومِن جهةٍ أخرى كانت منغمسةً في تأمّلِ الجوانب المدنيّة والحضريّة في لتلك المدينة الكبيرة، واستنادًا لتلك المكانةِ المرموقة التي كانت تحظى بها المرأة في قبيلتها، وعليه فقد ارتأت أن تتعلّم من المجتمع الجديد كلّ ما هو مفيدٌ لمجتمعها ولأهلِها في النقب وباقي المناطق الفلسطينيّة، الأمرُ الذي جعلها تنظرُ للتراثِ والهويةِ من منظورٍ جديدٍ وعميقٍ. وتمكّنت الطبيبةُ «حاكمة»، والتي امتدّ بها العمر إلى أن عاشت 110 سنوات، من جمعِ مجموعةٍ مِن القطعِ الإثنوغرافيةِ البدويّةِ الفلسطينيّةِ، خلالَ بضع سنوات، بمساعدة العشائر البدوية الفلسطينية الأخرى في المنطقة، والتي أدّت فيما بعدُ، إلى إنشاء متحفٍ أسمته بـ»تراث من عبق التراب»، بمعنى أن هذا التراثَ، المحفوظ في المتحف الجديدِ، يحمل عبقًا وذكرياتٍ للراحلين الذين هم الآن تحت التراب، وعمّا قليلٍ سيصبحون جزءًا منه. بطبيعة الحال لم تكن «حاكمة» وحيدة أمامَ ذلك المشروع الكبير، «متحف التراث من عبق التراب»، فهي ابنة قبيلة منفتحة على العالم أجمع، وقد حظيت النساء في ظلّ تلك القبيلةِ على ما لم تحصل عليه كثيرٌ من النساءِ الأخريات، ليس في العالم العربي فقط، وإنما في أماكن شتّى من العالم، فبينما يُنسب إليها الفضل في إنشاء المتحف، فإنه لم يكن لِيظهرَ إلى الوجودِ من دون قبول فلسفتها من قِبَلِ أفراد عائلتها وعشيرتها والعشائر الفلسطينية الأخرى، الذين أصبحوا يشاركون بنشاط في الحفاظ على هذا التراث المشترك منذ البداية. عند عودتها إلى النقب حوالي عام 1790، قامت الطبيبةُ حاكمة عايد ترابين بتقديم اقتراح غير تقليدي على عشيرتها ضمنُ الحفاظَ على الأمتعةِ الشخصيةِ للمتوفى. لفتت انتباه عائلتها إلى حقيقةِ وأهميّةِ الحفاظ على تلك المقتنيات الإثنوغرافية، وهذا يتماشى مع فلسفةِ العائلةِ القديمةِ، المتمثلة في مقولةِ: الجسم السليم في العقل السليم. عزّزت الطبيبةُ حاكمة عايد ترابين الحفاظَ على التراثِ من خلال حماية الأصولِ الثقافيةِ، وضمانِ بقائها مفيدةً للمجتمع البدوي في النقب. فساهم إنشاء المتحف، في نظر المجتمع، في الحفاظ على الذاكرة الجماعية، الأمرُ الذي لعب دورًا مهمًا في ترسيخ الوئام والازدهار الاجتماعيين. لم يكن المتحفُ، من المنظور المجتمعي، مستودعًا للمقتنيات الماضي فحسب، بل كان رمزًا حيويًا وغذاءً ثريًا للمعرفة. خلالَ السنواتِ الأولى من عمرِ «المتحف» كانت مقتنياته تُعرض داخل خيمة الطبيبة «حكيمة»، وفي السنواتِ التالية سافرت المجموعة مع الطبيبة، خلال زياراتها الطبية للقرى المجاورة، باستخدام صناديقَ خشبيةٍ كبيرةٍ صُنعت في مصر، الأمر الذي أتاحَ مشاركةَ عددٍ كبيرٍ من القبائلِ في تطويرِ المتحف. وظلّ المتحفُ يحظى باهتمامِ رجالِ القبيلةِ ونسائها، ونمت شعبيّتُه مع مرورِ الوقتِ، وأصبح رمزًا للذاكرةِ الجماعيّةِ والهويّةِ البدويّةِ الفلسطينيّةِ، وقد حظي باعترافٍ رسميٍ من الإمبراطوريةِ العثمانيةِ، إذ تمّ سنُّ قانونِ الآثارِ لعام 1884، وتمّ تأميمُ جميعِ الاكتشافاتِ الأثريةِ داخل أراضي الإمبراطورية، ولحمايةِ القطعِ الأثريّةِ الثمينةِ، قامت عائلة «عايد ترابين» بتوثيق جميعِ القطعِ الموجودةِ في «المتحف». تلك كانت الأرضيّةُ التي قامَ عليها «متحف تراث من عبق التراب»، والسياقُ الاجتماعيّ والثقافيّ الذي أسهم في تطوّره وازدهاره، قبلَ أن ينتقلَ المتحفُ من مرحلةِ التأسيسِ (1790–1884) إلى مرحلةِ التطويرِ (1884–1948)، وهي المرحلة التي سنتعرّفُ جانبًا منها في تقريرٍ لاحقٍ، ومن ثمّ سنتعرّفُ على النهضةِ الجديدةِ لعلم المتاحف الفلسطيني (1967–2000)، فمرحلة التأسيس في أوروبا (2000 وحتى الآن).