وانطلاقا مما سبق، حاولت المبدعة"حليمة الاسماعيلي" في روايتها"أغنية لذاكرة متعبة" أن تشاركنا تجربتها التي تشكل المعاناة أساسها وجوهرها، معاناة من سلطة الأعراف والتقاليد، ومعاناة مما يقع من مجازر في فلسطين والجزائر والعراق...، وهذا ما نلمسه من خلال استرجاع البطلة "أماني" لشريط الأحداث التي عاشتها، وهذا الاسترجاع ليس اختياريا، بل يفرض نفسه فرضا على بطلة هذه الرواية "هاهي ذاكرتي تستعيد ذاكرتها...هاهي ذي الذكريات تقفز إلي من سلة مهملات الزمن يانعة،...وتشاكسني كطفلة مدللة: "أنا هنا" ... ما اختفيت في صحوتي إلا لتسكني أحلامي... كل ليلة أجدك في انتظاري، بين أوراقي ووسادتي ".
وسنحاول في هذا العمل أن نقدم قراءة في هذا المؤلف، مستعينين في ذلك ببعض المفاهيم والإجراءات المنهجية. وسنقوم الآن بتحليل عتبات النص، وتوضيح مساهمتها في إيصال المضامين التي تحتويها الرواية إلى القارئ.
I. عتبات المؤلف:
1- دراسة العنوان:
يكتسي العنوان مكانة مهمة في النص الذي ألحق به، وقد أوليت به اهتمامات كبيرة إلى حد أصبحنا نتحدث فيه عن علم "العنونة "TITROLOGIE"، ومن ثمة، فالعنوان لا يوضع اعتباطا، بل إن الكاتب يفكر آلاف المرات قبل أن يقف على العنوان الذي يراه مناسبا ، حتى وإن وقف عليه، فإن الناشر يمكن أن يتدخل فيه، ومن هنا، فالعنوان هو تعاقد بين الكاتب والكتابة من جهة، وتعاقد قرائي بينه وبين جمهوره وقرائه من جهة، وتعاقد تجاري بينه وبين الناشر من جهة أخرى .
ولما كان العنوان جزءا من النص يعلن بواسطته هذا الأخير عن نفسه ويعرضها للقراءة بصورة سافرة منذ الغلاف أو ظهر المصنف ؛ صار لزاما علينا أن نقف عند هذه العتبة وأن نخصها بالدرس والتحليل.
إذن ماهي الدلالات التي يحملها العنوان الذي بين أيدينا "أغنية لذاكرة متعبة"؟
جاء العنوان مركبا اسميا مكونا من خبر(أغنية) لمبتدأ محذوف تقديره "هذه" أو "هي"، ثم جار ومجرور(لذاكرة)، ثم نعت(متعبة). هذا من الناحية التركيبية، أما من الناحية الدلالية، فيفيد العنوان قيد الدراسة أن الرواية التي بين أيدينا ستكون عبارة عن استرجاع، وهذا الاسترجاع يتسم بالكثير من الشجن والحزن، وهذا ما تفيده كلمة "أغنية" ويعضد ذلك أيضا وصف هذه الذاكرة ب"المتعبة"، الشيء الذي يدفعنا مباشرة للحديث عن العنوان باعتباره تعاقدا بين الكاتب والقارئ على وجه الخصوص، فهل ما ستحكيه الكاتبة عبارة فعلا عن ذاكرة مثخنة بالجراح والأسى؟ أم أن الأمر خلاف ذلك؟ وبتعبير آخر، هل هذا التعاقد الذي أسسته الكاتبة مع القارئ تعاقد ائتماني « contrat de confiance » ؟ أم أنه تعاقد مخيب للظن « contrat déceptif »؟ وهل قصد بالأغنية المعنى الحقيقي أم المعنى المجازي؟
إن الأحداث التي ضمتها هذه الرواية، تدل بشكل لا يدع مجالا للشك أن الحزن أساس وجوهر الذاكرة التي استحضرتها الكاتبة، فالنهاية المأساوية التي آل إليها "مالك"- الرجل الذي تعلقت به "أماني" بشكل كبير، والذي أضحى فارس أحلامها منذ أن تقاسمت قصيدة البطلة "أماني" مع مقال مالك فضاء نفس الجريدة- والواقع الذي يعيشه العالم العربي( مشكل الجزائر- القضية الفلسطينية- الحرب على العراق)، إضافة إلى القهر الاجتماعي(إرغامها على الزواج من "المهدي"- تسلط الأب …)، وكذا الواقع المر الذي تعيشه في بلدها، جعلت البطلة تحس بنوع من العجز والفشل الذريع والحزن الذي أضحى ملازما لها في كل وقت وحين، مما دفع بالبطلة إلى التساؤل "من منا يعشق الآخر، أنا أم الحزن؟ "
كل هذه الأمور تؤكد أن ما قلناه سابقا من أن الحزن والمعاناة هما ما قامت عليهما هذه الرواية، ونشير أيضا إلى أن الكاتبة قد أوردت مقاطع لأغاني معينة (أم كلثوم- العربي باطما- جاك بريل)، والقاسم المشترك بين هذه الأغاني هو الحزن والشجن، وهو الشيء الذي تبينه العبارات التالية:"وصلني صوت أم كلثوم منتحبا، حملني إلى كهف الرعب والوحشة. " – "وصلني صوت أم كلثوم كدم مراق من آلاف السنين بآهات لحنها الحزن وكتبها الجرح " - "يصلني من بعيد صوت العربي باطما مكلوما: لهموم حرفتي." – "كان صوت جاك بريل يصلنا حزينا محموما وهو يبكي خيباته العاطفية. " – "رحلت ولم تخلف لي سوى أغنية حزينة تندب قدرها الأحمق وقدرنا معا: "ne me quitte pas" " والعبارة الأخيرة، هي ما ختمت به الرواية، مما يؤكد دقة اختيار العنوان الذي سيحمله هذا العمل الإبداعي، وكون التعاقد الذي أسسته الكاتبة مع القارئ، تعاقدا ائتمانيا.
2-واجهة الغلاف:
تتضمن واجهة الغلاف لوحة فنية، تحتوي على مجموعة من الأشكال التي يسمها طابع التشظي والتفكك والانسحاق، وهي السمات التي تطبع ذاكرة البطلة "أماني""، كما يحيط بهذه اللوحة لون يميل :"فتحت حقيبتي اشتريت فستانا حريريا أزرق، وأنا أتأمله تزاحمت في عيني دموع محرقة تذكرت أن هذا الفستان اشتريته خصيصا لمالك، لكن القدر الساخر أبعدنا فلم نلتق ولم نلبسه أبدا "، كما يدل هذا اللون على البحر الذي كان يعشقه "مالك" :"من قال أني عندما أحب رجلا يعشق البحر لا أموت غرقا أو قهرا؟ "، إضافة إلى أنه يدل على الهناك، وعلى الضفة الأخرى التي يهاجر إليها شباب الوطن هربا من الظروف الاجتماعية القاهرة.
إذن، هكذا ساهمت عتبات النص في إيصال بعض المضامين التي تحتويها هذه الرواية.

II. تيمات النص:
لقد تناولت الكاتبة حليمة الاسماعيلي مجموعة من التيمات الهامة في ذاكرتها المتعبة والمبدعة أيضا، كما قال الناقد "نجيب العوفي"، وسنحاول أن نعرض لأبرز الموضوعات التي وردت في هذه الرواية.
أشرنا سالفا إلى أن الحزن والمعاناة هما أساس وجوهر هذا النص، ويمكن اعتبارهما تيمة كبرى في النص تندرج ضمنها التيمات الصغرى الأخرى، وهذه المعاناة والحزن ناتجين عن مجموعة من الأمور منها:
1-القهر القومي:
تحتل القضية القومية في هذه الرواية مكانة بارزة، فبحكم اشتغال البطلة "أماني" في ميدان الصحافة، كان من واجبها تتبع أحداث العالم، وبدافع الانتماء القومي، تتابع البطلة باهتمام كبير، وبحزن وأسى بالغين الأحداث التي تقع بالعالم العربي، ففي فلسطين" اندلعت مواجهات جديدة استمرارا لمواجهات الحرم القدسي الشريف منذ أن دنس الصهيوني أرئيل شارون زعيم الليكود ومعه أكثر من ألفي جندي صهيوني أرض المسجد الأقصى لتشتعل بذلك نيران الانتفاضة ولتمتد من ساحات الأقصى بعد أيام إلى كل مدن الضفة الغربية وقطاع غزة والمناطق العربية المحتلة عام 1948م. " ، وفي فلسطين أيضا هناك"حرب إبادة شعب بأكمله "و"تحالف حقير بين دبابة ومروحية وصاروخ في وجه طفل يحمل حجارة "، وقد كان "مالك"-فارس أحلام "أماني"- هو الوحيد الذي تتقاسم معه "أماني" هذه المعاناة والهزائم المتتالية.
وفي الجزائر "مذابح جديدة ارتكبت في حق أناس أبرياء، رجالا ونساء، وأطفالا..ذنبهم الوحيد أنهم جزائريون. "،و"عباد الكراسي والمناصب واللاهثين وراء الثروات والأضواء هم الذين يذبحون الجزائر الآن "، و"في الجزائر إذا كنت تفكر فأنت مقتول. ".
أما العراق، فلم يكن أفضل حالا، إذ هناك"أطفال عراقيون مشوهي التكوين...،يموتون جوعا ومرضا في أيدي أمهاتهم. "
كل هذا دفع بالبطلة إلى الاستنكار:"ما أرخص الدم العربي ! "، والتساؤل:"لا عرب بدون عرب حتى وإن شد بعضهم خناق بعض، وفرقهم الاتفاق قبل الاختلاف ماذا بقي لهم بين سندان أمريكا ومطرقة إسرائيل؟ "،"هل ستظل الثورة مجرد غصة في حناجرنا نحن المستضعفين رهبان الليل وفرسان القلم؟ "،"هل سيظل الحلم العربي ووحدة الانتماء والمصير والكفاح مجرد كلمات نلوكها على الطاولات، أو نحملها على يافطات في شوارع الألم الطويلة؟ ".
هكذا تجتر بطلة هذه الرواية الخيبة تلو الأخرى، والمرارة تلو المرارة.
2- المرأة الثائرة:
كانت البطلة "أماني" مختلفة عن أمها وعن شقيقاتها وعن سائر نساء العائلة، وثائرة على سلطة الرجل، وعلى سلطة البيت، ولذلك ولجت عالم الصحافة والكتابة والشعر، والذي تجده متنفسا لها، وقررت أن تصنع لنفسها مسارا مختلفا، وأن لا تتزوج برجل يخلق منها زكيبة محشوة بالأطفال والقهر ورحما يجتر التثاؤب والروتين كل ليلة ، وقد كان "مالك" ذلك الفارس الذي تمنته "أماني"، والذي يحمل هموم الوطن والأمة، ويحترم الأنثى، وذلك بخلاف "المهدي" الذي يجسد ذلك النموذج من الرجال الذين يرون "أن المرأة صالحة للمتعة والعمل لا أقل ولا أكثر ". والذي لا يختلف كثيرا عن أبيها وتسلطه سواء على الأم("كان يصرخ في وجهها لأتفه سبب وكانت ترتجف خوفا من غضبه كالقصبة في الريح...كان يمسح بها بلاط الأرض بالشتم ثم بالصفع ويتأنق ويخرج ولا يعود إلا عند الفجر ")، أو عليها("كنت كل ليلة أبكي لعلي أخرج من صدري ما اختزنته من قهر سري في ذلك البيت المعد سلفا لوأد النساء: إنهم يرفضون أن تخرج المرأة للدراسة أو العمل، يرفضون أن تجلس أمام التلفزة، أن تقرأ رواية أن تفكر وتشارك وتعلن رأيها وتسعى لطموحها، إنهم ينظرون للمرأة وكأنها من سلالة غير مكتملة النمو. ")، بل إن هذا الأب كان إنسانا متناقضا ومحيرا، إذ أنه يظهر بمظهر الملتزم في البيت("يرتل القرآن عند كل فجر ويهم إلى المسجد كل جمعة ")، وخارج البيت، "ينفق ماله وفحولته في مغامراته الرجولية المتعددة. "، وهذا في إشارة إلى تلك الصور التي يظهر فيها الأب مع عشيقاته.
من أجل هذا كله، ثارت البطلة ضد هذا الوضع، وتمردت عليه:"قررت أن أهرب من حزني لحروف الهجاء وأعلن ثورتي على قهر السلاسل والنفاق الذي يمارس في سر من الوقت المسروق من غباء هذا المجتمع ".
لقد كانت "أماني" نموذجا للمرأة المثقفة، والواعية، والمثابرة، والمشغولة أيضا بقضايا الوطن، تدثر بدموع الناس، وهموم الوطن، وحب مستحيل، ذاك الذي جمعها بمالك، واعترته كذلك لحظات المد والجزر جراء الغياب المتواصل ل"مالك"، آخرها ذاك الذي دام أربع سنوات، إنه شخصية محيرة فعلا، يتقاسم نفس القضايا والهموم مع "أماني"، إلا أنه بدون برنامج محدد، وحتى اللقاءات التي تجمعه ب"أماني"، تكون غالبا عن طريق الصدفة.
واصلت البطلة ثورتها على الأعراف، وذالك برفضها الزواج ب"المهدي"، وهو الزوج الثري، والوسيم، والذي فرضته العائلة على ابنتهم، لكنها رفضت هذا الزواج، فقلبها لا يزال متعلقا بمالك، كما أن المهدي ليس من طينة الرجال الذين ترتاح لهم "أماني"، إلا أن قرار الرفض هذا ووجه بمعارضة شديدة من البيت، وقوبل بلهجة شديدة من طرف الأب"الفتاة التي تعصي أمري هي فتاة تنتمي لخانة الغرباء ولا تملك أن تكون ابنة لي. "، وقد حرمها أيضا من مزاولة عملها في الصحافة والإذاعة.
ناضلت "أماني" بكل ما تملك من قوة بهدف إثبات ذاتها، والوقوف ضد التسلط والقهر الاجتماعي، إلا أنها في الأخير قبلت الزواج ب"المهدي"، بعدما كانت تعيش "الاحتراق بالحرف، الاحتراق بالحب العذري، الاحتراق بقضايا الوطن "، قبل أن تكتشف في الأخير أن كل هذه الأمور أوهام اكتنفت عمرها الذي استفاق مخدوعا-ذات وهم-ليكتشف أن كل شيء سراب في سراب . ويكشف لنا هذا عن انتصار القيم المادية على القيم الروحية في المجتمع، وكذا فشل الذات المثقفة أمام قسوة الواقع وشراسته، لتبقى البطلة معلقة بين فجيعتين:"فجيعة القهر القومي وفجيعة القهر الاجتماعي ".
3-البطالة والهجرة السرية:
تناولت الكاتبة أيضا في هذه الرواية المشكل الذي يعانيه المجتمع المغربي والمتمثل أساسا في البطالة، وهو ما يدفع الكثير من الشباب إلى التفكير في الضفة الأخرى، فقد"سحقت الحاجة هممهم وأذل الجوع جيوبهم وأحرق الضياع شهاداتهم العليا، فتناقلت بينهم حمى جنون البحر لينضموا إلى فيالق الموت "، كما أن"الوظيفة هنا لا تصنع العيش الكريم، فقط تنقذك من التسول. " كم جاء على لسان"نزهة"، لكن كثير من هؤلاء الشباب غالبا ما يلقى حتفه في عرض البحر، مثلما حدث مع شقيق "مالك"، ومع "مالك" أيضا، لكن هذه المرة في أحضان المهجر، حينما تم قتله بالرصاص. ف"ما أرخص دماءك يا وطني ! حين نموت على ضفتك هروبا من قسوتك، أوحين نغتال بعيدا عنك لأننا اقترفنا لونك وصوتك وأخذنا شكل تضاريسك. "
ألمحت الكاتبة في هذا العمل الإبداعي أيضا إلى قضايا أخرى من قبيل الوضع السياسي المر بالبلد(ص95)، وكذا الواقع الإعلامي المرير(ص97)، إضافة إلى الفروقات الاجتماعية(ص61). كل هذه الأمور مجتمعة، خلفت مرارة وحزنا عميقا لدى البطلة،"بين الفينة والأخرى أرفع طرف عيني وأنظر إلى ملامح الوطن وهو ممتلئ يشرب بشراهة دموعي، أنظر إليه وأستجديه أن يفك قيدي، فأنا لم أفعل أي شيء يجعلني أدفع ثمنه على هذا الشكل سوى أني أقترف حبه عن ظهر قلب ."

III. الخصائص الفنية والجمالية:
تتميز رواية"أغنية لذاكرة متعبة" بمميزات فنية عدة، وسنحاول في هذا المحور أن نشير إلى أبرزها:
1-التناص:
يحضر التناص بشكل كبير في هذا العمل الابداعي(نقصد هنا التناص التام)، كما يكشف لنا عن المستوى الثقافي لدى الكاتبة، والملاحظ أنه ورغم استحضار الكاتبة لمقولات عدة سواء لفلاسفة أمثال فريدريك نيتشه، أو لكتاب مسرحيين ك"جون أوزبون" و شكسبير"، أو لشعراء من قبيل "أراغون" و"إيفان سكالا" و"رتسوس" و"محمود درويش" و"المتنبي"، أو لشخصيات تاريخية كالسلطان عبد الحميد، فإن ذلك لم يكن على حساب هذا النص الروائي، كما لم يكن أيضا تعسفا في حق تلك العبارات الموظفة، بل كان خدمة لهذا العمل الإبداعي، ووصفا بليغا للحالات النفسية التي تمر بها البطلة وشخوص الرواية عموما، وبهذا تكون الكاتبة قد نجحت في صهر مقولات الكتاب والشعراء والمسرحيين والسياسيين في قالبها الروائي.
2- شاعرية السرد:
إننا إذا تأملنا الأقوال التي تم استحضارها نجد أن أكثرها كانت للشعراء، الشيء الذي يكشف عن البعد الشاعري الذي يحكم هذا العمل، كما أنه إذا علمنا أن مؤلفة هذه الرواية هي شاعرة متمرسة ولها باعها في الشعر، ندرك جليا سر الشاعرية التي تتخلل الرواية في مجملها، وتظهر الشاعرية بشكل قوي في مواضع معينة بينما تقل في مواطن أخرى، ويمكن أن نلمس الشاعرية في هذا النص خاصة أثناء لحظات بوح البطلة "أماني" حينما توجه الحديث إلى نفسها في حوار داخلي (المونولوج)، وخاصة حينما تتحدث عن مالك:
"أيا هذا تسائلني وطقسي يسرق الأحلام، أراه عزاء في جنازات الطرق، يصوغ لحن الجرح داخل مطاحن الهواء بغصته العظمى التي تفيض دمعا في ليالي غربته التي لا تفتر، بشهقته الأخيرة الراقدة في مكمن.
أيا هذا تسائلني وطقسي يتمايل على عتبات قبرين يشتهي أن تعاد له طفولته المكتومة جلدا في الليالي الحالكات حيث تميد السماء وتتهاوى نجوم تسقط كسفا.
أيا هذا تسائلني عن شرقية العينين التي احتوت أمر الفؤاد خيفة، ليموج نبضي صبابة في مقلة نامت وقد نام الجوى في جفنهما والنار شوق يحتسي نار الحجب...
أيا هذا تسائلني عن وطن ينعي حروفي قاب قوسين من انهيار هويتي التي تحمل نبوءتها الأخيرة مثل وردة مستها لعنة اليباس، وطن ينتحب أمام شهادة قبري بعد أن أوغلت خناجره سما سحيقا في صدري.
أيا هذا تسائلني وتسائلني... يالوقاحة السؤال في زمن الخفافيش التي تحيك أكفانا للأحبة !"
هذا نموذج واحد فقط من بين النماذج الأخرى الكثيرة التي تجسد لحظات البوح الشاعري، ويمكن أن نحيل هنا على الصفحات 119، 120، 142، 146، 147... وهناك مواطن أخرى عديدة، الشيء الذي يخول لنا القول بأن هذه الرواية شاعرية بامتياز.
3- تكسير السرد:
لقد عمدت الكاتبة إإلى تكسير السرد أكثر من مرة، وخاصة في بداية استرجاعها للأحداث التي عاشتها منذ أربع سنوات، وذلك أثناء ركوبها للقطار من وجدة إلى طنجة، فحينما بدأت البطلة في الاسترجاع، قطع اتصال نزهة هذا الاسترجاع، ثم بعد ذلك العجوز الجالسة بجانبها في القطار، ثم بعد ذلك البطلة نفسها حينما آلمها التذكر.
إن هذا الأسلوب يخلق تشويقا لدى المتلقي، ويشده لتتبع أحداث الرواية، وهو الشيء الذي اشتغلت عليه المبدعة "حليمة لاسماعيلي".
4- "أماني" و"مالك":
لا شك أن "أماني"و"مالك" هما الشخصيتان الأساسيتان في الرواية، ونشير إليهما في هذا الصدد لا من أجل الحديث عن مميزات هاتين الشخصيتين، أو الإشارة إلى أبعادهما الاجتماعية أو الاقتصادية أو حتى السياسية والثقافية، بل سنتحدث عن البعد الفني والجمالي في توظيفهما، فإذا أخذنا "أماني" كتسمية، نجد أن ما عاشته هذه البطلة عبارة فعلا عن أماني، فقد كانت تتمنى أن يتحد العرب، كما تمنت أن تعيش في وطن كريم، وأن تتحرر من كل القيود، وأن ترتبط ب"مالك" الذي يحترمها، كأنثى، وكذات واعية ومثقفة، لها رأيها ووجهة نظرها، إلا أن أي شيء من ذلك لم يتحقق، بل اكتشفت البطلة كما ذكرنا سلفا "أن كل شيء سراب سراب".أما "مالك"، فقد كان فعلا ملكا على ذاكرة "أماني"، وسيد علاقاتهما، وامتلك حواسها ومخيلتها منذ أن التقيا لأول مرة، ولم يبرحهما أبدا، حتى بعد زواج "أماني" ب"المهدي". مما يبين لنا الدقة الكبيرة في اختيار أسماء لشخوص الرواية.

خاتمة:
لقد حاولت الكاتبة"حليمة الاسماعيلي" في روايتها "أغنية لذاكرة متعبة" رصد القهر الاجتماعي الذي تعانيه المرأة في المجتمع المغربي، وكذا القهر القومي عن طريق استحضار الأحداث المأساوية بفلسطين والعراق والجزائر، إضافة إلى الواقع الإعلامي والسياسي المريرين بالبلد، وأيضا مشكل البطالة والهجرة السرية، وكل ذلك في قالب أدبي روائي رائق وجميل، يغلب عليه طابع البوح الشاعري، لتمزج بذلك حسب تعبير الناقد "نجيب العوفي" بين شجون الذات وشجون الواقع.