ابتسمت ثم ضحكت بصوت عال ما قطع حديث أفراد العائلة المنسجمين في أحاديث غالبا ما تطغى عليها النميمة، وبادر شقيقها بالقول:"هل فهمت النكتة بعد ساعة؟!!"
فقد كان استهزاءه مدعاة لمزيد من القهقهات منها، أمر لم يعهده من يعرفون مدى حرصها على احترام أصول المجالسة حتى وإن كانت بين أفراد الأسرة ذاتها.
بعد برهة من الهدوء، انحنت "سماح" على شقيقتها المحاذية لها، وهمست لها في أذنها:"أيمكن حقا لبشر أن يقرأ مستقبل أحدهم من رسوم فنجان قهوة مبهمة كما تفعل جارتنا اللبنانية أم أحمد؟
ودون أن تنتظر الرد، غادرت مكانها نحو الردهة وبيدها ذلك الفنجان الذي لم تتوقف عن النظر في الرسوم التي يحملها لمدة طالت ولم تكن لتنتبه لولا خفوت خيوط النور التي لم تعد تساعدها على استيضاح تلك الخطوط المبهمة.
لاحقتها أختها وسألتها عن اكتشافاتها:" بما نطقت خطوط حظك في هذا الفنجان يا "سمُّوحة"؟
فأجابتها بكل هدوء دون أن تبالي بملامح السخرية التي بدت على محياها ولا بنغمة الابتزاز التي عبّرت عنها بنطقها بالاسم المحبّب لقلبها:"قالت أم أحمد إن العصفور هو حامل رسالة، وها هو العصفور...ورأيت زهرة، انظري كيف أنها منتصبة على....، شيء جميل أن يرى الإنسان زهرة في فنجانه، ماذا إذا ما كانت تتباهى بجمالها....تعالي، اقتربي، انظري لذلك الغزال، ترينه يرفع رأسه ويكابر، من يكون يا ترى؟
هناك أيضا مساحة بيضاء يعني أن هناك رسالة، آه لو أنها تحمل خبرا سعيدا ذلك الذي يدور في خاطري!!!
كانت شقيقتها تكتم ضحكتها وتدعي الاهتمام حتى تعرف ما يدور في رأس سماح، فطلبت منها أن تستمر في قراءة الفنجان؛ إلا أن الأخت المأخوذة بالفكرة استمرت في خطاها نحو الشرفة متسائلة بعيدا عما يحيط بها:" أللمرء أن يرى الحقيقة، أم أنه يرى ما يريده؟ أيمكن لأحدنا أن يضع مسار حياته رهن خطوط بنّ رحاها وهيّأها لتكيّف مزاجه...أتكيّف حياته أيضا؟"
تركت الفنجان من يدها لتضعه على حافة الشرفة، وتوجّهت لغرفتها لتمسك بقلمها ودفترها المعهودين، وأخذت تخط من الكلمات والرسوم ما يساعدها عادة على الانسجام مع شخصية أو شخصيات قصة جديدة.
وقبل أن تقرر صياغة الجمل، شاءت سماح أن تؤثث من صفحات دفترها بخطوط لولبية، فعيون صغيرة تحميها حواجب شديدة السواد، وأخرى كبيرة ومتباعدة...فنجان مزخرف...طائر...هيئة حيوان لم تُحسن رسمه، وجه مبتسم وآخر مبعثر الشعر والملامح...
باغتها شقيقها بسؤاله وهي التي لم تنبه لدخوله الغرفة:" ما محور قصتك هذه المرّة، أهو فنجان القهوة، أو من أوحوا لك أن خطوط الحياة يمكن أن تتقاطع فيه دون أن نتمكن فعلا من قراءتها أو ...ربما أن سمُّوحة تبحث عما جعلها تلجأ لفهم تلك الخطوط لشعور غربة يرافقها ولا يتخلى عنها إلا حين تُغلق دفترها وتعلن عن نهاية قصة جديدة، سأدعك لكتابتك وما يمكن أن تجود به قريحتك، آمل أن لا تنجرّي لخرافات لا تشبهك في شيء."
فقد اعتاد أهل البيت على انزواء سماح حين يتعلق الأمر بقصة جديدة ومزاج جديد ومختلف باختلاف محور ما ستمليه عليها قريحتها، فترات تتقمص فيها ملامح وجهها بمن لا قدرة على أحدهم أن يتعرف عليها...ولا حتى من هي...كثيرا ما كان يتساءل شقيقها:" أهي كاتبة أم ممثلة، غريبة هي سماحنا، وكأنها في حالاتها تلك تنفصل عن عالمنا وتقطع في عديد من الأحيان حتى صلة الدم التي نشترك فيها حين يتعرف علينا من خلاله غريب يصادفنا...بعدها تنجح سماح باستعادة موقعها واسترداد جلدها لترتمي في حضن من تحسن إراحتها من تلك الرحلة المضنية...
 

نجاة البكري وتقنية النسف أو الإلغاء
قراءة في قصة "هي...تقرأ الفنجان " .بقلم الشاعر والناقد المغربي خالد الصلعي 

تعتبر القصة من الفنون العربية الحديثة الأقدر على اجتياز الحدود التعبيرية ، الى ترجمة تفاصيل الحياة الإنسانية من خلال وعي اجتماعي حاد ، رغم كونها لا تزال في العالم العربي تخضع لرهان التجريب مما يجعلها منفتحة على شتى القراءات المخصبة ، كتوسيع للممكن ،وكالتزام بمبدأ الحرية التي لا تلتزم إلا بالإطار العام للبناء الفني . داخل هذا الإطار وهذا التحديد المنفتح اشتغلت نجاة البكري في قصة "هي....تقرأ الفنجان " ،كمحاولة فنية لقراءة نمط من السلوك العربي ، الذي تنخره الخرافات والتقاليد البالية في عصر التقنية الدقيقة والصراع حول السيطرة على العالم انطلاقا من العلم . فيغدو الغيب عند العرب والتشبث بالخرافة مبدأ خلاص وحلا أولويا لمختلف مشاكل الواقع المتراكمة .وقد استطاعت القاصة أن توفق في اختيار موضوعة أو تيمة "قراءة الفنجان " ، كرمز لجميع الظواهر والمظاهر المرتبطة بجلب الحظ وقراءة المستقبل المأمول ، وشحن الذات بالوهم المؤجل . لأن كل أفعال الدجل والشعوذة والخرافة ترتبط ،غالبا ، بالمستقبل ، وهو ما صاغته "نجاة البكري " في سؤال استهزائي حين همست في أذن أختها :" أيمكن حقا لبشر أن يقرأ مستقبل أحدهم من رسوم فنجان قهوة مبهمة ، كما تفعل جارتنا اللبنانية أم أحمد ؟" ،هذا السؤال تتفرع عنه أسئلة أخرى مضمرة ، لماذا القهوة وليس الشاي ،أو الأنسون ،أو المشروبات الكحولية حتى ؟ ما دام أنه لم يثبت علميا أن للقهوة خاصية نبوئية ، وإنما هو عرف تداولته الشعوب في لحظة انحسار عقلي ، فتحول إلى طقس للبحث عن الخلاص ، ثم يتناسل سؤال آخر من صلب سؤال السرد ،اذ أن الفن عموما هو عملية تكثيف للوجود وترميز للواقع ، والسؤال، هل يصنع المستقبل ويبنى من خلال آليات واعية ومعطيات مادية، أم تمطره سماء الغيب ؟ . لكي تجيب القاصة أو الساردة على هذا السؤال اعتمدت ما أسميته ب "تقنية النسف "أو " تقنية الإلغاء" ، وهي تقنية تعتمد صياغة أسلوبية تحاصر داخل السرد أو المتن القصصي أطروحة ما لتنسفها وتلغيها داخل لعبة السرد نفسه .وللتمثيل على هذه التقنية فان النص القصصي يعمد  إلى تبئير طرح ما، أو التركيز على موضوعة ما ،وتشريح مكوناتها الداخلية ، ومحاصرتها بأسئلة دقيقة تخرج من صلبها ،داخل جدلية الأطروحة والنقيض ،ثم التركيب ، كمعادلة منطقية ، تعتمد مساءلة الغياب بالحضور ، لإثبات الواقع كمعطى لا نعيره كثير اهتمام ، ونتعامل معه كمجاز .  ان عبارة " رسوم..... مبهمة " مثلا ، كافية لإتلاف خلايا السؤال التعبيرية ، وتجيب من داخل السؤال عن جوهر القضية ، إذ لا يمكن بأي حال من الأحوال تأسيس مصير الإنسان على خطوط أو رسوم مبهمة وغامضة ، وبذلك تبذر الساردة بذرة الشك والنفي داخل بنية السؤال نفسه ،لتصبح متعة القراءة مضاعفة ، قراءة القصدية الثاوية في تضاعيف العملية السردية وقراءة تقنية السرد ، ما دمنا أمام فن يعتمد اللغة بحديه الأدنى والأقصى ،وهو فن القصة القصيرة . وإذا كانت الساردة قد اعتمدت تقنية النسف أو الإلغاء من داخل العبارة والسياق ، وليس كطرح بديل ، كما رأينا من قبل ، وكما نلاحظ في بداية القصة عند الاستهلال ،حيث نقرأ "..إلا أنها سبحت في تلك الخطوط المرسومة التي خطتها حثالة البن والقاع " ، إذ تحيل لفظة "حثالة" على حقل من الدلالة لا يجد بعده إلا في ما هو سلبي وغير مرغوب فيه ، فقد كان بالإمكان اعتماد لفظة ترسبات ،أو قاع الفنجان ، كدلالة على أحد رموز الطقس الدجلي في قراءة الفنجان ، لكنها عمدت إلى إثبات لفظة "حثالة " لنسف العبارة من داخلها بديناميت التركيب الداخلي ، وهي تقنية دقيقة تدل على مدى امتلاك القاصة وتمكنها من أدواتها التعبيرية والسردية . وبما أن لكل غياب حضور ، ولكل بعد ثنائيته ، فان القاصة لم تكتف بتقنية النسف الباطني أو الداخلي ، بل عضدته بتقنية النسف الخارجي أو البراني ،حين حاولت قراءة الفنجان في الردهة ؛ إذ لم يسعفها " خفوت خيوط النور التي لم تعد تساعدها على استيضاح تلك الخطوط المبهمة " على استكمال قراءة الفنجان ، وبذلك تصبح قراءة المستقبل المأمول من خلال "حثالة البن" مستحيلة ، وان بطرق الشعوذة والدجل التي تدعي القدرة على القراءة . وبذلك أثبتت القاصة قدرتها على اختيار الصياغة واللفظة لمناسبة المناخ العام الذي اطر كتابة القصة ، وهو وعي فني يتوسل كل الإمكانيات الفنية والتقنية الكفيلة بإبلاغ الرسالة التي اعتمدتها في قصتها . ومن خلال الاشتغال الواعي على مجمل العناصر الفنية ، ومن خلال امتلاك الأدوات التقنية ، يتأتى للمهتم بالعمل القصصي كمنتج لفعل تخييلي يفكك مختلف الظواهر الاجتماعية عبر طرائق فنية ، وبذلك يغدو الحقل الدلالي منفتحا على الآفاق الواقعية ، يترصد ظواهرها وأبعادها السلبية ،كإمكانية لتشريح الداء والأمراض الاجتماعية ، من خلال رصد فني دقيق يستند إلى تقنية التركيب التي تمنح الناقد/القارئ إمكانية اعتماد أدوات التفكيك والتأويل الكفيلة بإلقاء الضوء على العمل الفني ، لرصد زوايا الرؤية التي اعتمدها السارد في بناء عمله التخييلي . وقد تمكنت القاصة نجاة البكري من حشر موضوعة قراءة الفنجان في زاوية مغلقة بعد تلغيمها من الداخل لنسفها وإلغائها، حيث اعتمدت اوالية التبئير ، وحاصرتها بأسئلة طرحت على ثلاث مستويات من الخطاب ، فجاءت على لسان البطلة ،ثم على لسان أختها ،ُثم على لسان أخيها ، دون أن نغفل تقنية النسف الداخلي ، فمثلا حين سألتها أختها بسخرية وهي تضحك " كانت شقيقتها وهي تكتم ضحكتها وتدعي الاهتمام حتى تعرف ما يدور في رأس سماح " ،فان عبارة "..وهي تكتم ضحكتها وتدعي الاهتمام " كافية للوقوف على رأي أختها ، لكن سؤالا وجوديا يجعلنا ننتقل من مستوى رصد التقنيات الفنية إلى قراءة الأبعاد الفلسفية لحقيقة الإنسان ومصيره :" أللمرء أن يرى الحقيقة ، أم أنه يرى ما يريده ؟ أيمكن لأحدنا أن يضع مسار حياته رهن خطوط رحاها وهيأها لتكيف مزاجه....أتكيف حياته أيضا ؟" ، انه سؤال الحقيقة والوهم ،سؤال الإنسان القديم الحديث في بحثه الدائم عن الخلاص ، ليس عن الخلاص من الخطيئة الأولى ، بل للخلاص من واقع صار يطبق عليه من كل جانب ، يدمره وينسفه ويلغيه ككائن له كل إمكانيات الوجود الفعلي ، لكنه يعيش في مجاز الحياة على هامش الوجود . فهل يمكن فعلا العثور في حثالة البن عن سؤال الغد ، وعن مصير الإنسان ؟ انه سؤال محرج للذهنية العربية ، التي تقاطرت وتكاثرت على الغيب بكل تمظهراته وتجلياته إلى درجة أن الإنسان العربي أصبح يُمَلك تجار الدين مصير أمة بكاملها . في حين أن الغرب يتنافس من أجل امتلاك المستقبل علميا ، نجدنا نحن نتنافس من أجل البحث عن مكان في الحاضر عن طريق الغيب والتواكل، فهل بعد عصر العلم والتقنية الدقيقة جدا ، على الإنسان أن يلجأ إلى الخرافة والأسطورة ، خاصة وان الأمر يتعلق في قصة نجاة بكري بمجال وهمي عبثي، لا علاقة له بالحقائق والمعطيات والبراهين . إن قارئ نص نجاة البكري ، سيجد نفسه أمام ساردة استطاعت أن تؤسس تجربتها في هذه القصة على اختيارات فنية دقيقة ، فالقصة ترفل في ثوب من الكثافة الشفافة التي تمنح القارئ حرية الانثيال والسباحة في أعماق المضمون وفي متاهات المساحات المضاعفة التي أتقنت القاصة نسجها من خلال عمل سردي استطاعت أن تفتحه بتقنية عالية على البطلة وعلى أختها وعلى أخيها ،وعلى تيمات فنية وفكرية ، كي تطبق على موضوعة ،قراءة الفنجان ، وتسيجها من خلال أسئلة استنكارية لنفي ظاهرة الشعوذة ، ولعل انتقال البطلة إلى الكتابة ، وبالتحديد كتابة القصة ، وتلك الأحوال المختلفة التي تتملكها أثناء الكتابة كتحولات كيميائية للماهية الإنسانية المرتبطة بعالم الكتابة ،كما جاء على لسان أخيها ، رسالة أخرى كطرح فني للرهان على عالم العلم.