د. باسم الزعبي
بدءًا من العنوان نحن نتوقع وجود شخصية مركزية اسمها فردوس، ترتبط بها لعنة ما لسبب ما، تلك اللعنة تطال ربما شخصيات الرواية، وهو بالفعل ما ستفصح عنه الرواية بعد الولوج فيها.إضافة إلى لوحة الغلاف التي توحي بدورها بغموض الشخصيات، وإذا ما التفتنا إلى النص على الغلاف الخلفي فسنجده يكشف في سطوره القليلة الموضوع والمنحى العام للرواية: البحث عن الجذور التي تعطي الحياة معناها الحقيقي، وترتبط بها القيم التي يجب علينا أن نعيش من خلالها.والصعوبة في هذا الطريق لا تعني سوى الإصرار والتمسك بالهدف.
وعندما ننظر في الإهداء بكلماته القليلة: إلى الروح التي ودعتني قبل أن نلتقي. هذه الروح التي تنتمي إلى الماضي تؤكد مسار الرواية البحث في الماضي الذي يستند إليه الحاضر ولا يلغيه.

الرواية التي لم تتجاوز صفحاتها المئة والثلاثين صفحة، تطرح أسئلة الوجود والهوية: من أنا، ومن أين أتيت؟وإلى أين أنا ذاهب؟ أو ما هو مصيري، لكن ليس في بعدها الفلسفي، بل في بعدها التاريخي والاجتماعي والنفسي. فشخصيات الرواية التي تدور أحداثها في رقعة جغرافية كانت في مرحلة ما أرضا لدولة واحدة هي الدولة العثمانية، بين الأناضول ودمشق وفلسطين والأردن. تنتمي إلى أصل ألباني، تربطها بكل هذه الأماكن علاقة خاصة، فهي تنتمي للأرض التي تعيش عليها، وتضحي من أجلها، لكنها في الوقت نفسه تعاني من لعنة تطالهم جميعا، وكأن لا أرض تعترف بهم وتحتضنهم. فقبر الشاب إبراهيم يجرّف ويختفي، والخال شكري يدفن في مكان مجهول، والعمة لطيفة تختفي دون أثر، ولا يُعرف بأي ارض ماتت أو بأي أرض سوف تموت.
هل أجابت الرواية على سؤال الهوية؟ من أنا، وما الوطن، من أين أتيت، وإلى أين أذهب؟
« عاد أخي إلى الأرض، عاد من حيث لم يولد» منذ السطر الأول في الرواية يدرك القارئ أن شخصيات الرواية تعاني من الغربة، فهي ولدت في أرض وتموت في أرض أخرى غريبة، لكنها في الوقت نفسه تبقى مخلصة للوطن، الذي نشأت على ترابه:» كان إبراهيم على عجلة من أمره، أتمَّ ما عليه من إخلاص للأرض، للوطن الذي عاش فيه ورحل»، ولعله يتميز بأنه أكثر إخلاصا:» قدّم ما لم يقدمه ابن الأرض، ابن تراب هذا البلد.» ص 7، إذ يفهم أن إبراهيم قتل في سبيل الوطن:» ماذا تعني الوحدة لجثة وُلدت وقُتلت وحيدة غريبة؟» ص 8.وهنا نقف على عتاب على الوطن الذي لا يعترف بتضحية أبنائه له:» منذ طفولتك إلى نهاية رحلة حياتك يا إبراهيم كنت سندًا للجميع، أولهم الوطن وإن لم يعترف بك، لم يسطر التاريخ تضحيتك...» ص 8
وفي مكان وسياق آخر نجد أن الوطن هو العائلة، إذ يتكرر هذا الوصف:» أنت تعي أنك عائلتها بل وطنها التائهة عنه؟» ص 9.
من نحن:»... أصبحنا عيونًا تدمع وشفاهًا تدعو، أبًا يمارس حياته بكل صلابة، وأمًا تصلّب قلبها من شدة الأسى، وأبناء شاردين هم أولياء أنفسهم، لا أجداد ولا أعمام ولا حتى خالات، من أين لنا ونحن غلطة ارتحال أحدهم؟». ص 22. هنا نقع على اعتراف شخصيات الرواية بسؤال الوجود من نحن ومن أين أتينا:» نحن غلطة ارتحال أحدهم»، وهي غلطة فردوس كما ستفصح الرواية من خلال سياق أحداثها، وهي التي حاولت أن تنجو بحياتها وحياة أبنائها من الموت، لكنها لن تورثهم الحياة، بل لعنة الحياة، إذ سيعيشون غرباء في أرض غريبة، ويموتون غرباء، ويقع اللوم على الأجداد الذين تخلوا عن عائلاتهم:» ليت جدي تحلّى بفطنة الطيور في هجرتها واصطحب عائلته، أو عاد إليهم كما تفعل الطيور، وبقينا بين أهلنا وأبناء جلدتنا...» ص22.
تعاني شخصيات الرواية من وعي انتمائها:» أدركت كل هذا، وأننا لا نشبه التراب الذي ندوس عليه يوميًا، اختلاف اللهجة، أو بعض الكلمات التركية التي كان يحادث شكري ابنة أخته بها، هندام أبي وملامحه الخاصة به، ولهجته العربية المكسرة والقليل من الكلمات الألبانية، عاداتنا وتقاليدنا لا تشبه عادات أهل الحي الذي نسكنه، كان بداخلي حنين لأرواح لا أراها، أسمع أصواتًا ولهجات داخل فراغات جسدي، أشاهد غروبًا على وجهة بعيدة من الكرة الأرضية» ص23.
لكن ما هو مفهوم الانتماء بالنسبة لشخصيات الرواية. يتحدد مفهوم الانتماء بالانتماء للذات وقيمها:» التضحيات لا يلزمها وطن، إننا أوطان أنفسنا أينما حللنا، الصدق يمشي في عروقنا يا ابنة أختي، صِدقُنا للتراب الذي تخطو عليه أقدامنا. أنا هنا اليوم في الأردن أقدّم روحي دون أن أفكر مرتين في سبيله، والبارحة كنت في دمشق وقدم أهلنا أرواحهم وكأنهم ولدوا من ياسمينة دمشقية» جاء على لسان شكري ص 27. وعندما تُرجع مكرم التضحية إلى القدر، يعود ليذكّرها:» بل هذا ما كتبناه نحن بدمائنا، عليك أن تكوني فخورة يا عزيزتي؛ فأنت تحملين عروقًا حرة.»
هنا يتجلى وعي الذات: الصدق في الانتماء للأرض التي يعيشون عليها، والاعتقاد الراسخ بعروق حرة تسري بأجسادهم. وهم يعون أنهم مقاتلون نشأوا نشأة إسلامية عسكرية في سبيل الجهاد وحب الشهادة، كما يقول الخال شكري ص 50. وهم يتنازلون سريعا عن هويتهم، ص 59.
أغلب الشخصيات في الرواية متعلقة بالماضي:» شكري وفاطمة وأمي وأبي والمجهولة يشبهون أفراد العصابة، جميعهم لديهم ذات كلمة السر، الماضي، وجميعهم لا يحبون الحديث عنه»، ص 67.الأمر الذي يدركه سمير أخيرًا، فأفراد العائلة يتسترون على الماضي لأنه يعيق حياتهم، ويمنعهم من التماهي مع الوطن الذي يعيشون فيه، فيقرر دفن الماضي قرب قبور أفراد عائلته.
تتحدد هوية وصفات شخصيات الرواية على لسان الأب حلمي الذي يعترف أنهم من نسل العثمانيين، وهم أذكياء، وفيهم تجري دماء زرقاء، دماء المحاربين الأشداء. ص 70.( وهو أشد ما يعتز به الألبان).
تحاول فردوس التي يتهمها سمير بأنها سبب اللعنة التي أصابت العائلة أن تقدم نظرتها الخاصة للصراع بين الحقيقة والقدر والواقع، فتقول:» علينا يا سمير تقبل القدر، وتقبل سبب وجودنا هنا» ص 71،»مستقبلك على أرض هذا الوطن هو الحقيقة الوحيدة بين يديك، أما الماضي فيمكنك وصفه بالحلم، أو ربما حياة انتهت عند من غادرها»، ص 71. إذا فالصراع لدى شخصية الرواية الرئيسية- صراع الهوية يبقى قائما بين تقبل الواقع- القدر المكتوب، وبين البحث عن الجذور في الماضي. وهو يقول في مكان آخر:» لعلّ والدي يتفهّم كلّ ما يدور في نفسي، لكنّه يطلب مني الاستسلام للوضع الراهن، وألّا أفتّش عن خيوط أشخاص تحلو بهم حياتُنا الجافّة». ص 71. لكن سمير لا يبحث في الماضي ليعيش فيه، أو ليحترق الماضي فيه، بل ليستمد منه قاعدة انطلاق إلى المستقبل، وهو مقتنع أن انتماؤه للأرض التي يعيش عليها:» لن أمَلَّ من السّعي بقوّة الله، لن يوقفني شيءٌ عن الاستمرار والثبات على هذه الأرض، سأكون رمزَ أجيالٍ من بعدي، لن أدعَ أولادي حبيسِي الماضي» ص 72.
تنتمي شخصيات الرواية لعائلة واحدة تقريبا: الأب حلمي، والأم مكرم، والأبناء إبراهيم وسمير والأخت، والخال شكري، والعمة لطيفة، وفردوس.
الراويفي الرواية هو سمير، الشاب ذو السابعة عشرة، وعلى لسانه تطرح أسئلة الوجود.وهو يعتقد أن اللعنة التي أصابت أهله سببها قرار فردوس الطائش بهروبها من زوجها:» الجميع تعيس، الجميع يدفع ثمن قرار طائش لم تفكري بنتائجه على أجيال من بعدك» ص 105. اللعنة المتمثلة في أنهم يعانون وهم:» يبحثون عن وجوه تشبههم، وهم يموتون ويدفنون بلا حسب ولا نسب». ص 106. وعلى لسانه يتحدد مفهوم الوطن يقولص78:» كلما خرجت من المنزل لا يخطر على بالي سوى التوجه إلى أعلى جبل القلعة، أشعر بحرية تنفر من أطرافي وأن كل هذا الوطن ملكي، كل الجبال حولي تعترف بوجودي، تلك التراكيب العجيبة من البيوت القديمة المرصوصة فوق بعضها لي مكانة فيها، وكأني فرد من عائلتها، رغم أنه لا يربطني بهذا المكان انتماء ورثته عن أجدادي أو حب للأرض سرى في دمائهم، لكن أنا من هو بحاجة إلى حب هذه الأرض، وبحاجة إلى أمان الوطن، هذه الأرض عقيدتي، مستقبل أولادي، هنا سيخلقون وهنا سيدفنون، سيعيشون أحرارًا كتلك العصافير المحلّقة فوق الجبال، لن يعرفوا موطنًا غير هذا الوطن، سيملؤهم الفخر والفرح، سيحظون بحياة كوهج الشمس، آمالهم وأحلامهم غيوم تهطل بالخير على ترابه».
أما فردوس فهي الشخصية الغائبة في الموت ، الحاضرة في الذاكرة، فهي ترتبط بشخصية الراوي بـ» حبلٍ سري» ص 25، ومهمتها» ملء فراغات روحه التي تبحث عن أرض تصدق بوجوده وتؤمن به.» ص 25. تظهر لسمير على شكل طيف، وتقدم له الإجابات على أسئلته الوجودية، ويدخل معها في حوارات وجدالات، وصراعات طويلة.وهي المرأة التي هربت من زوجها وهي تحمل أولادها من بلاد الأناضول إلى دمشق، ومنذ ذلك اليوم:» كُتبَت لها بداية اللعنة، اللعنة التي اعتقدَتْ أنها زرعتها في قلب زوجها حينما هربت بولديها بعيدًا عنه وعن وطنهم» ص 38. وقد صبرت كثيرا على حياة القهر والظلم والقسوة، إذ أراد أهله تزويجه بأخرى لتنجب له الصبيان( ص106). وهي تمثل الماضي: أنا الماضي، ألم تبحث في نومك عن الماضي؟ ص 45. وفردوس لها أيضا مفهومها الخاص عن الوطن:» هذا الوطن كله بيتي، أي بقعة تدوس عليها أقدامنا هو سكننا، نحن من ننتمي إلى الأرض، وبصدق نوايانا نرفع رايتها، وبقلوبنا تجري دماء أوطان الأجداد» ص48.
يلتقي سمير وفردوس» المجهولة» بتشابه التجارب والمشاعر المشتركة، ويتنافران بصراع الذاكرة، فهي تتعبه بثقل الذاكرة، يقول:» وغادرت العالم أسابق مخاوفي إلى مكان أدفنها به( فردوس) وأعود إلى هنا نقيًّا صفر الذاكرة وكأني ولدت اليوم» ص 94.
تتضح علاقة الوطن بالتراب، والغربة بالوطن والتراب من خلال فكرة شراء أرض لتكون مقبرة للعائلة:»ارتباط الجسد بالأرض يهدئ من حنين الروح فتستسلم لوجودها هنا، لن يكون هناك مزيد من الحسرات، لن يبحث الأحفاد عن أجداد وهم مزروعون تحت التراب، سينبت السلام عوضًا عن الشتات» ص 108. رغم أن الفكرة أقنعت سمير، فقد وجد فيها بعض الأمل، الأمل مع الموت ص 109، لكن الفكرة تتحقق بصورة مقلوبة، إذ نجد قبورا بلا موتى، وأرواحا ما زالت تحلم بوطن يضم رفاتها، وإن لم يعترف بها. ص 124.
بدأت الرواية بموت إبراهيم لتنتهي بموته لتأكيد مفهوم الوطن:» ابراهيم مات في سبيل فكرة( لا نعرف ما هي على وجه التحديد، وربما كان مثقفا، أو كاتبا أو معارضا سياسيا)، حبه للوطن وأنه ابن هذا البلد وإن لم يولد على أرضه لم يمنعه من التنحي جانبا كعابر سبيل، بل كان شغوفا متيما بسمائه وهوائه وترابه، جاهد إلى جانب أهله كأنه وُلد هنا مئة مرة، إبراهيم أثبت أن الوطن ورث للجميع، لجميع من يحتمي به، قالها مرة : الأردن لم يفرق بيني ويبن من ولد أجداده هنا» ص 125.
تمثل العمة لطيفة نموذجا آخر للمعاناة المزدوجة التي تعيشها هذه الفئة من الناس، إذ في ظل غياب السند الاجتماعي يتعرض الفرد إلى الظلم، فالعمة لطيفة المتزوجة في فلسطين، تتعرض لطلم زوجها القاسي والبخيل، لكنها كبقية شخصيات الرواية تؤثر الحرية على الصبر على الظلم، يقول سمير:» هذه القصص تشبه بعضها، وكأنني أعبر نفقًا لا ينتهي من الظلم، كل هذه القصص الحزينة هل هي مصادفات أم أنه قدر كتب على أحدهم ونحن من يسدد الثمن؟ الحياة والموت، المجهولة وأمي وجهان لقصة واحدة» ص77.
ويلاحظ أن النساء في الرواية يعانين ظلما مزدوجا، ظلم الغربة والقدر والوحدة وظلم الرجل، لكنهن نساء قويات... والدتك امرأة قوية كوالدتها وجدتها اللتين لم تعرفا الاستسلام قط. ص 103. 

جريدة الدستور الاردنية