فاطمة الزغول
تعتبر الفلسفة الجدلية، أو الثنائيات الضدية من أبرز نشاطات الفكر الإنساني؛ فالنفس البشرية تجتمع فيها العديد من المتناقضات والثنائيات المتقابلة، كالحب والكراهية، والإقبال والصدود، والعنف واللين. كما يخضع الإنسان إلى الثنائيات الوجودية التي يسير بها النظام الكوني، و تنعكس على المخلوقات، كالموت والحياة، والليل والنهار، والحق والباطل، والنور والظلمة.
وهذه الثنائيات هي قانون الحياة الجوهري كما اعتبرها الجاحظ، الذي كان من أوائل من التفت إلى قانون الثنائية الضدية، إذ يرى أن العالم بما فيه من الأجسام على ثلاثة محاور: مختلف، ومتفق، ومتضاد، ثم يرد هذه المحاور إلى أساسين هما الحركة والسكون.
عرّف المعجم الفلسفي لجميل صليبا الثنائية بأنها:» القول بزوجية المبادئ المفسرة للكون، كثنائية الأضداد وتعاقبها، أو ثنائية الواحد والمادة، أو ثنائية الواحد وغير المتناهي، أو ثنائية المثل وعالم المحسوسات، وهي مرادفة للإثنينية».
بنى العديد من الشعراء العرب منذ العصر الجاهلي قصائدهم على الثنائيات الضدية، ففي دراسة أعدتها الدكتورة سمر الديوب في كتابها الذي يضم مجموعة دراسات بعنوان: (الثنائيات الضدية، دراسات في الشعر العربي القديم)، تناولت مجموعة من القصائد اليائية القديمة، مثل يائية عبد يغوث، ويائية النابغة الجعدي، ويائية مالك بن الريب، ويائية قيس بن الملوح، وغيرها، مبرزة ما تعج به هذه القصائد من الثنائيات الضدية، معتبرة أن القوافي اليائية من أكثر الشعر ملائمة للتعبير عن هذه المتقابلات.
يسير العديد من الشعراء في العصر الحديث على نهج القصيدة العمودية القديمة بما فيها من ثنائيات ضدية، وجماليات فياللغة والوزن والقافية، والمعاني البلاغية العميقة، ومن القصائد العمودية التي تعج بالثنائيات الضدية، قصيدة للشاعرة الأردنية ردينة آسيا، بعنوان (ثغر القصيد) تقول فيها:
إني غرقتُ أليس ذلك كافيا؟
حتى ثملت فقد سكنت شغافيا
تأتي المشاعر والوصال وغيرتي
بعد الكرامة قبل ذاك عفافيا
بعض الشواهد في الغرام حقيقة
كتناقضي بسكينتي وهتافيا
تلك المشاعر دفقها متتابع
فرفعتُ خُلقاً والسدود تلافيا
كي لا تفيض شقاوتي وتولهي
هلا أبوح وإذ أزور صِحافيا
استهلت الشاعرة قصيدتها اليائية بجملة خبرية استخدمت فيها إن التأكيد،مقرونة بياء المتكلملتقر بما تحمله من مشاعر وصلت حدالغرق والثمالة، متسائلة بعد تأكيد اعترافها، أليس ذلك كافياً؟ ولكنها مع هذا الاعتراف تعود لتناقض دفق هذا الشعور بإعلان الصدود، فالعفاف والكرامة لديها أهم من المشاعر والوصال والغيرة، ثم تعود للاعتراف بما في نفسها من شواهد على هذا التناقض الذي يظهر في حالات السكون التي يعقبها الهتاف والضجيج.
تعود الشاعرة في البيتين الرابع والخامس لتضع الحواجز أمام تدفق هذه المشاعرتلافياًلما قد يحدثه البوح والكتابة من فيضان وظهور لوله العشق وشقاوته، فرفعت أمام هذا التدفق في الشعور حواجز الخُلق والسدود تلافياً لتطورات هذه المشاعر، فالأبيات السابقة تدور في فلك الثنائيات الضدية بين وله العشق وتدفق المشاعر، وبين الصدود الناجم عن العفة والخُلق الذي يمنع المرأة من التعاطي مع مشاعرها تجاه من أحبت، وبين حالات السكون التي تظهر بها في بعض الأحيان، وما يعقبها من ضجيج الهتاف وعلوّ صوت المشاعر.
هذي السواقي مِن عيونكَ غايتي
أصبو إليكَ فهل تصيب غرافيا؟
لا ارتوي ولقد نهلتُ معينَكم
وكأنهُ فوق الغمامِ جفافيا!
وإذا جفوتَ فتلك شمسكَ غادرتْ
خلف الجبالِ وها تغيبُ تجافيا
أمسيتُ يمًا إذ تلاطم موجُهُ
مدًا وجزرًا في الوصالِ وجافيا
أو إذ تراني في حضورك تائهًا
أو قد تراني للصبابةِ خافيا
فوضى تشتّتُ سكرتي وتوازني
وكأنني ضِدٌ أريدُ خلافيا!
متبعثرٌ حتى الأناةُ تعجّلٌ
بين النقيضِ وفي النقيضِ كفافيا
تواصل الشاعرة في هذه الأبيات وصف تناقضاتها بين الرغبة والرهبة، وبين العشق والصدود، موظفة الثنائيات الضدية في وصف ما يعتريها من اضطرابات، فهي تعترف للحبيبب أنه غايتها التي تصبو إليها، وبأنها تطمح للارتواء من سواقي عينيه التي تأمل أن تصل إلى غرافها، فهي تحاول الارتواء من نبع ذلك العشق الصافي، ولكنها تشعر كأنه بعيد فوق الغمام، وجاف لا تبلغ منه غاية الارتواء، ومع ذلك لا تريد غيابه وجفاءه الذي شبهته بغياب الشمس خلف الجبال، واصفة ما يصيبها إثر هذا الجفاء من اضطرابات شبهتها بالمد والجزر في يم متلاطم الأمواج ما بين الرغبة بالوصال، وبين فعل النقيض بالتجافي والابتعاد.
تصف الشاعرة في الأبيات المدرجة سابقاً ما يعتريها من تناقضات، واضطرابات ثنائية ضدية، فهي تخاطب ذلك المعشوق واصفة له حالة الذهول التي تنتابها في حضوره محاولة منها إخفاء صبابة العشق التي تظهر في اضطراباتها التي عبرت عنها بالفوضى والتشتت بين سكرة العشق، ومحاولة التوازن لإظهار النقيض مشبهة حالها بحال الضدين المتقابلين، وكل منهما يريد نقيضه،فهي في حالة تبعثر وشتات بين تناقضات العشق والعفاف.
هذي حياتي قد تقطّع دربُها
حتى السطورُ تريد هجرَ غلافيا!
هذي حياتي كم رأيتَ عليلةً؟
أنت الطبيبُ وكان سحرُكَ شافيا
فرَشفْتُ كأسكَ من مدامِ متيّمٍ
حتى أتيتُ مرابعي متعافيا
قل لي بربكَ كيف جئت فدلّني؟
عذبًا فراتًا في المحبة صافيا
وأنا هنا قربَ التلالِ تخالني
متيقّنا شمسَ الشروقِ ونافيا
تتابع الشاعرة في هذه الأبيات وصف مشاعرها لمن تعلقت به، مصورة حالة الشتات والتبعثر التي وصلت إليها، لدرجة هجران السطور التي تخطها للغلاف، فالشاعرة تجسد هذه السطور بكائن يتمرد عليها ويهجر غلاف مخطوطاتها، كما تصور حياتها بكل تفاصيلها بشخصية عليلة لا يشفيها إلا سحر ذلك الحبيب الذي تخاطبه طالبة منه الشفاء، في مشهد يتنافى مع حالة الصدود التي أعلنتها في الأبيات السابقة، فهي تصف ارتشافها من معين غرامه وعودتها إلى مرابعها متعافية، بعد أن ظفرت بغايتها من الوصال، متسائلة عن سر عذوبة وصفاء المحبة التي رواها بها، ولكنها تعود إلى تصوير نفسها واقفة خلف التلال ترقب شروق شمس الحبيب، وفي داخلها صراع بين اليقين برؤية شمس هذا الشروق، وبين نفي حدوثه، فتستمر الشاعرة في رسم الثنائيات الضدية، بين المرض والتعافي، وبين اليقين والنفي.
فرأيتُ قلبَك بكرةً وعشيةً
طفلاً بريئًا في المهادِ وغافيا
ولأنّ خُلقَك لا شبيه لوصفهِ
فلكًا تهادتْ إذ تزور ضفافيا
ولأنّ وجهك بلسمٌ وبهاؤهُ
يبري العليلَ وإذ يزيد تشافيا
قد جئتُ أقطفُ مِن وصوفكَ زهرةً
فجنيتُ من ثغر القصيدِ قطافيا
قبّلتُ حرفي والقريضَ تشوّقاً
لمّا رسمتكَ في السطورِ قوافيا
تصف الشاعرة في الأبيات الأخيرة من قصيدتها اليائية مناقب المحبوب، فهي ترى صفاء قلبه مشبهة له بالطفل البريء في مهده، كما ترى صفاته وأخلاقه التي لا شبيه لها في الحسن تنير شواطئ قلبها عندما يزورها، كما تصف وجهه بالبلسم الشافي لشدة بهائه، ثم تجسد هذه الصفات في زهرة مغروسة في ثغر قصيدة تقطفها، مجسدة هذه الصفات في قصائد الشعر التي تنظمها، وعند اكتمال القصيدة تقبل حروفها المنظومة شعراً تشوّقاً منها لهذه الصفات المتجسدة في أبيات القصيدة وقوافيها .
نظمت الشاعرة ردينة قصيدتها اليائية على بحر البسيط، وهو من البحور الشعرية الطويلة التي شاع استخدامها في الشعر العربي القديم، ما أتاح لها إمكانية إيصال المعاني الواسعة والأحاسيس المتناقضة، منتهجة في قصيدتها نهج الشعر القديم بأصالته، مع المحافظة على الوحدة الموضوعية التي تناولتها القصيدة في وصف مشاعرها المتناقضة، بين الوقوع في العشق مبرزة مناقب المعشوق، وبين الحواجز التي تحول بينها وبين وصاله من الخُلق والعفاف، موظفة المتقابلات المعبرة عن هذه المشاعر، والثنائيات الضدية، كالوصال والعفاف، والسكينة والهتاف، والارتواء والجفاف، والمد والجزر، والشروق والغروب، والأناة والتعجل، والسكرة والتوازن، والعلة والشفاء واليقين والنفي، فالقصيدة تعج بهذه الثنائيات التي نسجت منها الشاعرة قصيدتها، لتخرج بحلتها الجميلة المتكاملة.
وظفت الشاعرة عناصر البلاغة من تشبيهات ومجاز واستعارات، لتضفي على قصيدتها مزيداً من الجمال وروعة التعبير؛ فالمشاعر تتدفق كالنهر المتتابع الجريان الذي تخشى فيضانه، وعيون المحبوب كالسواقي التي تتمنى أن تغرف من معينها وترتوي، وهو أيضاً شمس تشرق حيناً، وتغرب حيناً خلف الجبال، كما شبهت مشاعرها المتناقضة بالبحر المتلاطم يعتريه المد والجزر، وجسدت القصيدة بكائن يفتح ثغره لتخرج منه الزهور الجميلة التي تقطفها، وتقبل ثغر هذه القصيدة التي احتوت في أبياتها خصال المحبوب ومناقبه . 

المصدر: جريدة الدستور الاردنية