الطريق.. _ من الشعر إلى النقد _ حسن بن عبدالله / تونس
القصيدة : _ أزرق في سماء اللغة ولي في انحدار ي مع الكلمات الى ضفة في الغروب وما بين طرح السؤال علي وكيف أجيب نظرت الى الوقت في جهة البحر وجدت استوائي وقد مد لي قبضة الاحتواء وأسقطت من فوق رأس الغمام رسالة نشري وكيف أكون مع الشعر فتحا علي لكي أبلغ الامتلاء تمام التمام ولما امتلأت انتقلت الى غبطتي في ضرورة " حسمُ الكلام " _ من الشعر ، إلى النقد .. هي تلك العلاقة المؤجلة .. قد تتقدم ، وقد تتأخر .. وقد لا يتم تنفيذها فالشاعر الملهم الذي اكتسب صفته من خلال ممارسة الكتابة ممارسة مستمرة ودائمة ملما بالعروض والقافية ، مكتسبا من اللغة للبناء على أسس علمية واثقة ، ومنخرطا في العبور من الأفكار إلى مسارات متعددة ومن الأسفار إلى الأسفار ، ومعتبرا لكافة الاحتمالات والاختراقات ، ومعتنقا قيم القراءات والاستقراءات ، ومن أين يأخذ حتى ينتشر مع الوجود ، وكيف يتمكن من الاستلهام من الوجود إلى البريد اليومي الذي يتعهده بأمانة التبليغ والشاعر ، هو الكائن الساكن في الطبيعة لا يفارق علاقته بها من خلال السير والنظر والانفتاح على اياتها المبثوثة _ وهو المسموح له من رب العالمين للخوض في هذا الغمار وقد صنف علما في النص القرآني في قوله تعالى " " وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ " وهو الناقل من الوجود إلى العدم وما بعد الفناء _ وكان قد صنف في الكلام " الشاعر واجب الوجود " _ وهو كذلك قولا وفعلا وهو الساكن بروحه في الطبيعة ، فتراه مع الكثافة والعراء ، وبين الجدب والخصب ، ومع الرياح والعواصف والسكون ، وهو الذي يتماهى مع تفاعلات الكون كلها رقيبا بذهنه بين الأرض والسماء ، من المطلق إلى الضيق إلى العبور كأنه الاتصال والتواصل بين الوسائل والرسائل والأسباب _ يقولها كلها في قصيدة أو في ديوان فليس الأمر بالكثافة بل بالقيمة بين السطور كيف يدفع منه بالحكمة وكيف يطور بالفلسفة ويكتشف من التناص ومن الانسجام والالتزام وهو الذي يستدرج الخطوات إليه فتأتيه مهتدية تنقله من واقعه إلى واقع الناس والشاعر رسول الفتح على المواعيد ومن الاختراق إلى الخوارق كيف يصطادها ويطوعها لكي تكون أسيرة في ملكه ، قابلة للتأجيج في الخضم وفي الامتلاء والشاعر عندما يكتمل فيه كل هذا الزخم وتصل القراءة فيه إلى مكتوب خالص يحتوي العشق ، والشوق ، والحرية ، والبلاغة ، والبكاء يكون قد أسس لشاعريته موطنا استثنائيا يحتويه ويلوذ إليه وفي داخله يحيا ويتنفس فيمكنه عندئذ أن يتلمس أثره ، وأن يتعقب منجزه وقد اكتملت فيه كل شروط الذهاب لكي يتجرأ ولكي يقفز ويتأرجح ، ولكي ينساق مع الرغبة والغبطة لتحقيق مسار آخر لا يقل أهمية وهذا يجر ذاك وبالتالي يصبح للنقد ضرورة أن يتبناه الشاعر وقد اكتسب القدرة على الاندماج والتمكين هذا من ذاك ، وقد اكتسب اليقين حصيفا في الأخذ بالنواصي ومدركا تماما كيف يقرأ وكيف يستطيع الفتح من الكلام على الكلام ولا بد أيضا أن يكون ذكره مطابقا لما جاء في النقل عنه عبر الحقب والعصور ومنها هذه العينة التي اخترتها دعامة لتحقيق التعريف الدقيق لحاجة النقد لناقد حصيف وصريح وحقيقي يفتح من الحقيقة ويبني من ذات البناء فلا يرتكب الهدم أبدا ولا يساهم في الاقصاء والأحباط وأيضا هو المطالب أن يكون صارما _ خارج المجاملات والأخذ من المصالح الشخصية والعلاقات وبالتالي وبعبارة واضحة أن يلتزم الأمانة فما بالك عندما يكون شاعرا فيعبر منه إلى النقد .. ولا بأس من تحقيق هذا من ذاك عبر هذا المفهوم فالناقد على العموم يجب أن يكون ذا حظ كبير من العقل، وحظ كبير من الذوق. ويتجادل الباحثون في أنه هل لا بد للناقد من معرفة آداب أخرى حتى يمهر في نقد لغة أو ليس بضروري. وعلى كل حال فاطلاعه على الآداب الأخرى يوسع أفقه ويزيد في تجاربه والنقد الأدبي يخضع لقواعد خاصة كما يخضع كل علم، وكما تخضع الفلسفة، وهذه القواعد مأخوذ بعضها من الفلسفة، وبعضها من علم النفس، وبعضها من الأخلاق، وبعضها من علم الجمال والنقد الأدبي ككل علم ناشئ عن ملكات خاصة تنمو بالتربية والتمرين، فلو سُئِلتُ عن ناشئ يريد أن يعد نفسه ليكون ناقدًا أي طريق يسلك؟ أقول: إنه يجب عليه أولًا أن يكثر من قراءة الأدب ويتفهمه ويحاكي جيده، كالذي رُوي أن ناشئًا عربيًّا سأل أستاذه كيف يشدو في الأدب؟ فنصحه أن يحفظ ديوان الحماسة ثم يجتهد أن يجعل شعره نثرًا بليغًا. فلما فرغ من ذلك طلب منه الإعادة، ثم أمره أن ينساها، والظاهر أن الشيخ نصح بذلك لأن الناشئ إذا نسيها نسي مادتها وبقيت أنماطها في ذهنه يستمد منها عند حضور ما يناسبها. ثم يجب أن يسائل نفسه بعد هذا، هل منهج النقد الأدبي منهج تفسيري أو حكمي؟ أعني أن واجب الناقد أن يفسر القطعة الأدبية فقط، ويكتفي بذلك ويترك الحكم لها وعليها للقارئ بحسب ذوقه، أو وظيفته أيضًا الحكم عليها بالحسن أو القبح. قال بهذا قوم، وبذاك قوم، وسيأتي توضيح ذلك. ثم يسائل نفسه: هل قوانين الأدب مقررة ثابتة أو خاضعة للتغير بتغير الزمان؟ ماذا يجب على الناقد أن يكون غرضه من نقده؟ والنقد له اتصال وثيق بالفلسفة. وقد أبان «كانت» في فلسفته العلاقة الوثيقة بين الفلسفة والنقد، فيجب على الناقد أن يقرأ آراء «كانت» الفلسفية في هذا الموضوع والنقد ترقى كثيرًا بكثرة المران وزيادة الخلف عما فعله السلف، فقد كان أوائل النقاد يلقون النقد على عواهنه من غير تعليل. وكان ارتكاز النقد الأدبي فيما بعد على علم النفس وعلم الاجتماع سببًا كبيرًا في رقيه، فقد بحث علماء النفس مثلًا فيما عند الأديب من غريزة حب الاستطلاع، وحب نفسه، وبما عنده من عجب أو إعجاب إلى آخره وقد بحث علماء الاجتماع مثلًا في أن الأديب هل ينبغي أن يوجه أدبه إلى خير مجتمعه أو هو غير مقيد بقيد، بل يترك نفسه تتجه كما تشاء من غير قيد ولا شرط وهو ما يعبرون عنه بـ (الفن للفن) وإذا كان النقد الأدبي فنًّا وجب أن يخضع لكل قوانين الفن، فهناك قواعد أصلية تشترك فيها كل الفنون ومنها الأدب، وهذه القواعد منها ما هو مستمد من علم النفس، ومنها ما هو مستمد من علم الجمال وغير ذلك. وكلما تقدم الناس في فهم علم الجمال زاد تقدمهم في فهم قواعد الفن، وتبع ذلك تقدمهم في التطبيق على النقد الأدبي. والناقدون والأدباء تناولوا دراسة تاريخ الأدب من نواح مختلفة، فبعضهم تناوله من الناحية التاريخية، فهم مثلًا يدرسون العصر الجاهلي ثم العصر الإسلامي، ثم العصر العباسي وهكذا. وحجتهم في ذلك أن الأدب ظل للحياة الاجتماعية وممثل لها، ولا يمكن فهم الأدب حق الفهم إلا إذا فهمت البيئة التي أنتجته. فمثلًا لا يمكننا أن نفهم قصيدة طرفة إلا إذا فهمنا حالة البيئة التي كان يعيش فيها طرفة من أصدقاء يصادقهم، ويلهو معهم ويعاقر معهم الخمر وينفق عليهم وعلى نفسه ماله. ولا تفهم شعر المتنبي إلا إذا فهمنا الأوساط التي جال فيها وقال فيها قصائده، ففهمنا حال حلب إذ ذاك وما كان فيها من حروب صليبية ونحو ذلك، وفهمنا حال مصر وما كان له فيها من أحداث، والدواعي التي دعته إلى قول الشعر فيها، وفهمنا حال العراق وما قاله فيه ونحو ذلك، وهي أمور لا بد منها لفهم شعر المتنبي. ولا نفهم أبا نواس حتى نفهم العصر العباسي على حقيقته وهو الذي نبغ فيه أبو نواس، وكيف كانت حالته الاجتماعية. والنقد الأدبي في كثير من الأحيان يعتمد على هذه الدراسة التاريخية، فلسنا نستطيع أن ننقد جريرًا والفرزدق والأخطل، ونقدر شعرهم تقديرًا صحيحًا إلا إذا علمنا قبيلة كل منهم ومنزلة الشاعر من قبيلته، ومنزلة قبيلته من القبائل، والحالة الاجتماعية والسياسية إذ ذاك، والدواعي التي دعت إلى التهاجي بينهم وعلى نفس السياق نصل إلى هنا والان في خصوص العلاقة بين الشعر والنقد ، وبين شاعر وناقد في جدلية الوجود