|
|
||
|
قراءة في الأراجيز المنساغة في علم البلاغة للشاعر النيجيري أحمد تيجانو
د. إنعام زعل القيسي إنَّ مما يبعث على السرور اهتمام عدد كبير من إخواننا العلماء والباحثين والدارسين من الأفارقة بالثقافة العربية الإسلامية عامة، وعلوم اللغة العربية خاصة. ويعد الأستاذ الشاعر أحمد تيجانو من دولة نيجيريا واحداً من أولئك الأساتذة الذين شُغفوا بعلوم البلاغة العربية؛ وذلك في إطار اهتمامه بالعلوم العربية التي تسهم في خدمة القرآن الكريم وتكشف عن إعجازه البلاغي، وتُسهل تعلم طلبة العلم من الأفارقة المسلمين للغة العربية، من خلال إحياء السنن والوسائل التعليمية القديمة التي استخدمها أجدادنا من العلماء العرب والمسلمين، وهي نظم العلوم والمعارف في هيئة أراجيز علميّة، ومن أشهرها ألفية ابن مالك التي ضمت ألف بيت في نظم النحو، وغيرها كثير. إنّ الناظر في هذا المؤلَّف يجد أنَّ الناظم قد سعى فيه إلى الوقوف عند علم البلاغة تعريفًا وتوضيحًا وتفصيلًا إذ وجد –على حدّ قوله- ندرة في دراسة هذا العلم، ورأى في هذا الجهد أثرًا في تسهيل فهم القارئ للبلاغة بفروعها، وقد صرّح بذلك في أرجوزته الأولى التي عنونها بـ «افتتاح»، كما أشار إلى أنّه حذا حذو القدماء في صياغة البلاغة ونظمها في أراجيز مما يسهِّل على الطلبة حفظها، فقد قال: وبعد، فالقصد بذي الصياغهْ لتسهـــلنَّ للطــالب البلاغهْ وأقتدي مجــــرى الذين ســـبقــــوا في نظمها أرجوزة فاستبقوا لقد أدرك الناظم أنّ الأراجيز وسيلة تعليمية مهمة تنمي الثروة المعرفية واللغوية والبلاغية لدى الطلبة، وتفتح أذهانهم على ما استُغلق عليها من المعارف والعلوم ، كما أدرك القدماء هذا الأمر، فسار على نهجهم في أراجيزه، وبدأ كتابه بعتبة عنونها بـ «الشكر والتقدير» شاكرًا الله عز وجل، ثم والديه ومن يليهما من أساتيذه وإخوته وصحبه، ثم تلا الشكر «تقريظ» في قصيدة نظمها أبو حبيبة عبد العزيز أحمد تبرّك، وقد جاد فيها بالثناء والتمجيد للراجز، كما بيّن فيها أهمية هذه الأراجيز لطلبة العلم، ونوّه إلى أسلوب الراجز وألفاظه داعيًا الله تعالى بأن يذيع صيته في البلاغة كما ذاع صيت الجرجاني في الكشف عن إعجاز القرآن الكريم من خلال طرحه نظرية النظم، وتلا التقريظ «المقدمة» إذ جاءت نثريّة بيّن فيها الناظم سبب إقدامه على نظم هذه الأراجيز في هذا العلم تحديدًا، ثم افتتح أراجيزه بأرجوزة سمّاها «الافتتاح»، وتعد كلُّ العناوين السابقة عتبات يلجأ إليها بعض الكتاب لتكون بمثابة فاتحة، أو استهلال أو تصدير، وقد جاءت في هذا العمل العلمي الأصيل بقلم الناظم نفسه باستثناء التقريظ الذي كتبه شيخه (أبو حبيبة) وهو ممن أُشتهر عندهم -أي في نيجيريا- بالعلم، وعلى كثرة تلك العتبات فإنّها مثّلت مداخل مهمة للكتاب ذلك أنّها تضمنت معلومات تساعد المتلقي في عملية فهم طبيعة هذا العمل، وأسبابه ودواعي تأليفه وتحديد موضوعاته، وعلى الرغم من أهمية هذه العتبات فإنَّ لتعددها في بعض الأحيان محاذير مختلفة، إذ يرى جيرار جينيت في كتابه العتبات الذي قدّم فيه تعريفًا وافيًا ومفصّلا للعتبات النصية المختلفة أنَّ العمل الجيد لا يحتاج إلى تقديم، فكيف بما يتبع التقديم ويتم الإكثار منه. ومما يجدر ذكره أنَّ الناظم قد بنى أول أرجوزة في الفصاحة والبلاغة مفهومًا وشروطًا، ثم تناول في بقية أراجيزه البديع والبيان والمعاني، وحتى يعي القارئ ما تضمّنه المؤلَّف لا بدَّ من الوقوف عند الأرجوزة، والسبب الذي يكمن وراء اختيار بحر الرجز للغايات التعليمة. إنّ الرجز فنٌّ شعريٌّ قديمٌ، إذ إنَّه أول الشعر العربي، وكان في البداية عبارة عن مقطّعات بسيطة تجري على ألسنة الناس في كل جوانب الحياة، ثم تطوّر إلى أن أصبح أرجوزة، والأرجوزة هي قصيدة من بحر الرجز، وهو شعر يسهل في السمع ويقع في النفس لخفته، ويسمى ناظم الرجز راجزًا، والرجز من بحور الشعر يأتي تاما على ست تفعيلات، مستفعلن، ويأتي مجزوءًا على أربع تفعيلات، ومشطورًا على ثلاث تفعيلات، ومنهوكًا على تفعيلتين. والراجز في كتاب «الأراجيز المنساغة في علم البلاغة» جعل كل أراجيزه العلميّة على بحر الرجز التام، كما اعتمد فيها على التصريع بنوعيه (الاستهلالي والداخلي)، ولعله في ذلك أراد جذب انتباه المتلقي ليجعله يتعلّق بالنص، فيسهل عليه فهمه وحفظه، وقد تراوحت عدد أبيات الأراجيز من بيت إلى سبعة وعشرين بيتًا، تناول فيها علوم البلاغة الثلاثة: المعاني والبيان والبديع، وقدّم لها بأرجوزة عن الفصاحة والبلاغة وذكر الفارق بينهما إذ قال في معنى الفصاحة: مفهومـــــها في لـــــــغــــة بيـــــــان تقول مثلا: أفصح اللسان وفي اصطلاح ظُهرة الكلام من الخطيب وإلى الأنام لقد وضح الراجز المعنى رجزًا كما أورده البلاغيون نثرًا؛ فالفصاحة هي: الإبانة والظهور، وأردف موضحًا شروطها، وهي: تنافر الكلمات الذي يتضمّن كثرة التكرار، وضعف التأليف الذي يتضمّن مخالفة الكلام لقواعد النحو والتعقيد بنوعيه المعنوي بما فيه من غرابة المعنى، واللفظي بسوء ترتيب الكلمات، كما وضّح معنى البلاغة في أرجوزته، لغة واصطلاحًا، إذ قال: أمّــــــا بيــــــــان لـــفــظــــة البلاغه فاسمع هُديت دونما الرّياغه بلاغــــــــــــــــة الشــــــــيء لمــنتـــــهاه فـــي لــــغـــــة كـــقــــول يا مـــولاه لمن يكون في الشّجي والحزن بـلــغـــــة الــحــزن بدون الأمن وفي اصطلاح فسحة الـــمقال في مقتضى الحال فلا تبال وتعدّ هذه الأرجوزة عتبة لعلوم البلاغة في هذا الكتاب إذ انطلق منها إلى أراجيزه، معتمدا -كما أسلفتُ- على وحدة التصريع فيها كلّها، إذ لم يأت بيت يشذُّ في عروضه وضربه عن هذه القاعدة. ويتابع الناظم في هذه الأراجيز تعريف علم المعاني فهو «القواعد تبدو بها الحالة والمقاصد»، وهو يضمن التعريف الذي أورده الهاشمي في كتابه «جواهر البلاغة»، والذي جاء نصّه بـ «علم المعاني أصول وقواعد، يُعرف بها أحوال الكلام العربي التي يكون بها مطابقًا لمقتضى الحال، وفق الغرض الذي سيق إليه»، أي المقاصد، ويذكر مؤلفه عبد القاهر الجرجاني المتوفى سنة 471، كما يشير إلى نفعه/ فائدته: «البُرعة في القرآن» وبراعة التركيب، كما أشار إلى ركني الجملة فيه: أيهما في القدم والتعقيب واعلم له ركنان في التركيب ويذكر الركنين في أبيات ثلاثة تالية، إذ يشير إلى المسند أو المحكوم به، والمسند إليه أو المحكوم عليه، ويصف كلًا منهما، ثم ينتقل إلى أراجيز متعددة ومتفاوتة في الطول يتحدث فيها عن أقسام الكلام من خبر وإنشاء، في مقطوعات عُنونت بــ (الكلام الخبري، أغراض إلقاء الخبر، أضرب الخبر، الإنشاء، الإنشاء الطلبي، الأمر، النهي، الاستفهام، النداء، التمني، الإنشاء غير الطلبي، القصر، طرق القصر، تقسيم القصر، الفصل والوصل، مواضع الفصل، مواضع الوصل، المساواة، الايجاز، الإطناب، وأنواع الإطناب). ثم انطلق في أراجيزه إلى علم البيان، وافتتحه بأرجوزة من ثلاثة أبيات جاء فيها: إنَّ البيـــان لـــغــــــة إيضـــــــــاح تقول بان الفجر والإصباح وفـــي اصطلاح فهو القواعد بها يراد المعنى والمقاصد بـــمــــــودة مــــنــــوالــــــــها منــــــــوّع حتى يرى في نظمه المبرّع ويبدأ بتعريف التشبيه ويذكر أركانه الأربعة (طرفيه ووجه الشبه وآداة الباني)، وقد تكون الآداة حرفًا أو فعلًا أو اسمًا أو وصفَا، كما ذكر في أرجوزة تالية أقسام التشبيه من (مفصّل ومجمل ومؤكد ومرسل وبليغ وتمثيلي، وضمني، ومقلوب) عارضًا الحال التي يأتي عليها كل قسم، ولم يغفل عن ذكر أغراض التشبيه في أرجوزة بلغت أربعة أبيات، ثمّ يأتي بعدها بأرجوزة عن الحقيقة والمجاز معرفًا ومفصلًا علاقات المجاز، ثم تناول الاستعارة وصنّفها بابًا من أبواب المجاز، إذ يقول: من المجاز اللغوي استعاره وهي بمعنى القرض في استطاره بُنيانها: التشبيه قـــد حذفـــتَ مــن طــــرفــــيـــــه واحــــــدًا نســــخـــــــــــتَ وخصّص أرجوزة لقسميها (مفردة: تصريحية ومكنية، ومركبة: تمثيلية)، وحدّد نوع الاستعارة من حيث اللفظ (أصلية وتبعية)، وعزّز النوعين بأمثلة من أمثال العرب، مثل: «عضّ بهم زمان بنابه» و «قد لبستُ ثوب اللهو»، كما ذكر أنواع الاستعارة باعتبار الملائم (مرشّحة ومجرّدة ومطلقة)، وبيّن سبب تسمية كل نوع منها، وانتقل في الثلث الأخير من الأرجوزة إلى الاستعارة التمثيلية، موضحًا المفهوم، مدلِّلًا بأمثال العرب، إذ يقول: مثالها: قــد قطعت جهيـــزه قول الخطيب كونها عزيزه أو قولـهم تملأ في الكنائن قبل الرّماء يا أخا المـقارن أو أنــت ترقمّنّ يـا كمــــالي على المياه دونـــــــما الـــرمال وفصّل حديثه في أرجوزة تالية عن المجاز المرسل وعلاقاته (السببية، والمسببية والجزئية والكلية واللازمية والملزومية والآلية واعتبار ما سيكون واعتبار ما قد كان والحالية والمحلية والمبدلية والبدلية) مُدلّلًا على هذه العلاقات بأمثلة توضيحية جيء بها كما جاءت على ألسنة أصحابها، أو نثرها من القرآن الكريم، أو الشعر، وأمثلة ذلك: «له عليّ أيدٍ» في العلاقة السببية، و»ينزّل الإله من السماء الرزق» في العلاقة المسببية، و «ارسل لي عينًا» في العلاقة الجزئية، ويندرج هذا الأمر على بقية العلاقات، ثم أضاف أرجوزة عن المجاز العقلي موضحًا فيها التعريف، وسبب التسمية وعلاقاته وأنواع الإسناد فيه من حيث إسناده للزمان أو المكان أو الفعل أو الفاعل أو المفعول أو المصدر، مستندًا في ذلك إلى أمثلة لا تقل عن أمثلة المجاز المرسل في النوع والقيمة، ثم يسترسل في علوم البيان في أرجوزة عن الكناية وأنواعها: كناية المعنى عن صفة، وكناية عن موصوف، وكناية عن نسبة، وأورد أمثلة لكل نوع وفسّرها، وكناية الوسائط وأنواعها الأربعة: التلويح والرمز والإيماء والتعريض مبينًا سبب مجيء كل نوع. وانتقل بعد ذلك إلى علم البديع في أرجوزة، فعرفه وذكر اسم واضعه ابن المعتز، وذكر نوعيه مجمِلًا إذ يقول: أمـــــّا البــديـــــع لــــــــغــــة مـــــخــــتـــــرع أو منشأ أو مُوجَد موضّع وفي اصطلاح القول علم تدري به المزايا في الكلام الندر والرّونق الموضوع في المــــقـــــال والحسن والبهجة بالجمال ثمَّ بعد ذلك فصّل الأنواع في أراجيز متعددة، وقد أشار إلى تعريف النوع الأول: المحسنات اللفظية في أرجوزة من بيتين، ثم بدأ بتوضيح كلّ نوع في أرجوزة منفصلة ذاكرًا كلّ أساليب المحسنات اللفظية: (الجناس، الازدواج، السجع، الموازنة، الترصيع، التشريع، لزوم مالا يلزم، الانعكاس، التسميط، الاكتفاء، السرقات الشعرية وأنواعها الثلاثة من (نسخ ومسخ وخلس وما يتبعها من اقتباس من القرآن أو الحديث، والتضمين في الأشعار، والعقد أي نظم النثر، وحلّ النظم نثرًا، والتلميح، والشرح الذي قصد به كشف المعنى، والتخلص في القول، وحسن انتهاء))، ثم عرّف النوع الثاني وهو المحسنات المعنوية وربطها بالمعاني وفهمها، وذكر أساليبها في أراجيز كثيرة، وأفرد كل أسلوب في أرجوزة تراوحت في عدد أبياتها من بيتٍ إلى ستة أبيات، وجاءت الأساليب مرتبة على النحو الآتي: (التورية، الاستطراد، الافتتان، الطباق، المقابلة، حسن التعليل، الطي، النشر، الجمع، تأكيد المدح بما يشبه الذم، تأكيد الذم بما يشبه المدح، أسلوب الحكيم، التهكم، الالتفات، تشابه الأطراف، تجاهل العارف). ويبدو للقارئ أنّ الراجز قد عرّف كلّ أسلوب ووضح معناه على نحو بسيط، فعلى سبيل المثال لا الحصر ما جاء في أرجوزة الطباق: أمّا الطباق في البديع ما أتى بلفظة وضدها صنْ يا فتى وهو على قسمين في الكلام سلبًا مع الإيجاب باستسلام موضِّحًا بعد ذلك نوعي الطباق، موردًا أمثلة تدعم قوله، مثل: «يعيش ويموت المرء، ويختفي ويستبين الضوء». ومما يلفت الانتباه –أيضًا- أن الراجز قد جعل خاتمة عمله أرجوزة على خلاف المقدمة النثرية التي ابتدأ بها، وقد جاء في خاتمته على خلاصة ما قدمه في الكتاب مؤكدًا الهدف الذي يسعى إلى تحقيقه من وراء هذا العمل وهو تسهيل البلاغة على دارسيها ونفعهم، منوِّهًا أنّ الكمال في كلّ شيء لله داعيًا لأساتيذه الذين نفعوه بعلمهم بخير الجزاء. ومما يجدر ذكره أن الراجز أحمد تيجانو قد استقى مادته العلمية في أراجيزه من أربعة كتب: مصدرين ومرجعين، وهي مرتبة على النحو الآتي: كتاب الصناعتين لأبي هلال العسكري، ونهاية الإيجاز في دراية الإعجاز للشيخ فخر الدين الرازي، والبلاغة الواضحة لعلي الجارم ومصطفى أمين، وجواهر البلاغة للسيد أحمد الهاشمي. وصفوة القول، إنَّ الأستاذ الشاعر أحمد تيجانو قد نجح في عمله هذا في تقديم علوم البلاغة بشكل مموسق وأسبغ عليها متعة القراءة؛ ليُسهِّل على الطلبة والدارسين فهمها وحفظها، كما أنَّ العمل يكشف عن جهدٍ علميٍ كبيرٍ، بذله تيجانو ابتغاء مرضاة الله وخدمة علوم اللغة العربية التي يرى فيها وسيلة مهمة لفهم كتاب الله -عز وجل- وإدراك جوانب من إعجازه البلاغي؛ وأحسبه في ذلك من الذين قال الله عز وجل عنهم «أُولَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ». جريدة الدستور الاردنية
الكاتب: سكرتاريا التحرير والنشر بتاريخ: السبت 14-06-2025 01:33 صباحا الزوار: 52 التعليقات: 0
|
|