|
|
||
|
الشعر خلاص روحي: قراءة فلسفية في قصيدة “نبض” للطيب عبادلية
الشعر خلاص روحي: قراءة فلسفية في قصيدة “نبض” للطيب عبادلية
الوفاء قيمة إنسانية خالدة تجلت في الشعر منذ العصور القديمة حيث كان رمزًا للحب الصادق والإخلاص العاطفي والتزام الإنسان بمشاعره رغم قسوة الظروف في العصر العباسي برز الوفاء في قصائد الحب العذري والغزل الصوفي كما في أشعار ابن زيدون الذي ظل وفيًا لولّادة رغم الفراق وفي شعر المهجر نجد جبران خليل جبران وإيليا أبو ماضي قدّما رؤية فلسفية للوفاء تتجاوز العلاقات الفردية إلى وفاء الإنسان لمبادئه وأحلامه حيث يقول جبران إن المحبة لا تعرف عمقها إلا ساعة الفراق أما في الشعر الحديث فقد أصبح الوفاء مرتبطًا بالهوية الوجودية والتزام الشاعر بالحقيقة والحرية كما يظهر في أشعار محمود درويش وأدونيس حيث تجلى الوفاء كقيمة وجودية وسط عالم مضطرب في هذا السياق تأتي قصيدة نبض للشاعر الطيب عبادلية حيث يقدم رؤية للحب كحالة تتجاوز العاطفة العابرة إلى التزام روحي وفكري الحب في القصيدة ليس مجرد مشاعر بل هو نبض للحياة ذاتها مما يمنح النص بعدًا فلسفيًا غنيًا
في البعد الوجودي تعكس القصيدة إحساسًا بالغربة والمعاناة حيث يعلن الشاعر انتماءه إلى عصر الأحزان وهو تعبير يعكس رؤية عبثية للحياة مشابهة لرؤية ألبير كامو في أسطورة سيزيف حيث يرى أن الإنسان محكوم بمواجهة عبثية الوجود لكنه يخلق معناه الخاص رغم ذلك الحب في القصيدة ليس مجرد إحساس بل هو فلسفة شخصية يحاول الشاعر من خلالها تجاوز تناقضات الحياة كما يتجلى ذلك في قوله صورتك منقوشة ما بين البؤبؤ والجفون هذا يذكرنا بقول أمل دنقل لا تصالح ولو توَّجوك بتاج الإمارة فالحب هنا ليس مجرد تجربة إنسانية بل هو امتداد للوجود ذاته.
أما في البعد العاطفي فالحب في القصيدة ليس تجربة عابرة بل هو نبض يستحيل على الشاعر الهروب منه في تكراره لعبارة إذا جاءك الواشون نجد أثرًا واضحًا لتجربة العشق العذري حيث يكون العاشق ضحية مجتمع لا يفهم عمق مشاعره هذا يتجلى أيضًا في تجربة نزار قباني الذي كانت قصائده ملأى بالحزن والرغبة في حب مستحيل كما في قوله هل عندك شكٌ أنّك أحلى وأغلى امرأة في الدنيا الشاعر هنا لا يرى في الحب مجرد علاقة بل هو مصير محتوم أشبه بحتمية الموت أو الشمس التي لا تستطيع سوى الشروق في نبض يتردد هذا المصير في إصرار الشاعر على أن حبه لا يشبه أي حب آخر مما يعكس إحساسًا بالعشق كقدر شخصي لا مفر منه
وفي البعد الاجتماعي يتجلى صراع الفرد مع الجماعة حيث يلعب الواشون دورًا في محاولة إفشال العلاقة العاطفية مما يعكس صورة للصراع الدائم بين المشاعر الفردية والقيود المجتمعية هذا المشهد يعيدنا إلى قصائد صلاح عبد الصبور حيث يهاجم الشاعر قيود المجتمع التي تقيد الحب والحرية كما يقول لا تسقني ماء الحياة بذلة بل فاسقني بالعز كأس الحنظل هذا الصراع يعبر عن رغبة الإنسان في التحرر من أحكام الآخرين وهو ما يظهر في القصيدة عندما يناشد الشاعر محبوبته ألا تصدق الأكاذيب التي يروجها الواشون مما يعكس إيمانه بأن الحب الصادق قادر على الصمود رغم التشكيكات الخارجية
أما في البعد الفلسفي فإن القصيدة لا تقتصر على المشاعر بل تحمل بُعدًا فلسفيًا عميقًا حيث يقارن الشاعر حبه بمنطق سقراط ومدينة أفلاطون هذا يضع الحب في إطار فلسفي حيث يصبح تجربة عقلية وروحية تسعى لفهم الحقيقة لا مجرد إحساس عاطفي هذا البعد يذكرنا بقول إيليا أبو ماضي في قصيدته الطلاسم جئتُ لا أعلمُ من أين ولكني أتيتُ فالحب هنا ليس مجرد علاقة بين شخصين بل هو رحلة بحث عن المعنى والجوهر في نبض يستخدم الشاعر مفاهيم فلسفية ليؤكد أن حبه لا يمكن قياسه بالمفاهيم التقليدية بل هو بحث مستمر عن حقيقة غير قابلة للجدل. الرمزية في القصيدة عنصر أساسي يضفي عليها بعدًا تأويليًا غنيًا حيث يستخدم الشاعر مفاهيم مثل الواشون والبؤبؤ والجفون وتراتيل العشق كرموز تعبر عن مشاعر أعمق هذا النهج الرمزي يذكرنا بأسلوب جبران خليل جبران الذي كان يستخدم الصور الشعرية لترجمة المشاعر المجردة إلى لغة بصرية كما يقول إن الحب لا يعطي إلا من ذاته ولا يأخذ إلا من ذاته وهذا ما نراه في نبض حيث يصور الشاعر حبه ككيان مستقل لا يمكن أن يتأثر بالمجتمع أو الواشين الحب هنا ليس شيئًا يمنحه أو يسلبه الآخرون بل هو حقيقة مطلقة داخلية قائمة بذاتها.
توظيف الأسلوب في تعزيز المعنى: كيف خدمت اللغة والإيقاع والصور الشعرية رسالة القصيدة؟" في قصيدة "نبض" للشاعر الطيب عبادلية، يلعب الأسلوب دورًا محوريًا في تعميق المعنى وإيصال الرسالة العاطفية والفلسفية للقصيدة. الأسلوب هنا ليس مجرد أداة للتعبير، بل هو جزء لا يتجزأ من بنية النص، حيث يعكس حالة الشاعر النفسية والفكرية، ويعزز الإحساس بالعشق الوجودي الذي يتحدث عنه. دعونا نستعرض كيف خدم الأسلوب المعنى في القصيدة: اللغة الشعرية الراقية: اللغة في القصيدة تتميز برقّتها وعمقها، حيث تستخدم كلمات مثل "تراتيل" و"منطق سقراط" و"مدينة أفلاطون"، مما يعكس ثقافة الشاعر ورؤيته الفلسفية. هذه اللغة لا تعبر فقط عن الحب، بل ترفعه إلى مستوى فلسفي، حيث يصبح الحب وسيلة لفهم العالم وإيجاد المعنى يقول الشاعر أنا يا سيدتي من عصر الأحزان أتيت"وعن حبنا الذي لا يشبه أي حب""أقرأ عليهم تراتيل عشقك" لغة شعرية راقية الإيقاع المتوازن: الإيقاع في القصيدة يعكس حالة التأمل والتفكير العميق. التكرار في عبارة "إذا جاءك الواشون" يعطي القصيدة إيقاعًا موسيقيًا يجذب القارئ، ويعكس حالة الشاعر الذي يواجه التشكيكات الخارجية بثقة وإصرار. هذا الإيقاع المتوازن يعزز الشعور بالحزن والتفلسف في آن واحد يقول الشاعر وما اجمله من قول إذا جاءك الواشون .. عني إليك يتحدثون"* صدقيهم.. وصدقي ما يقولون" "أنا ما كنت .. ولن أكون"
الصور الشعرية المؤثرة الصور الشعرية في القصيدة تعكس عمق المشاعر وتجعل القصيدة أكثر تأثيرًا. صورة "صورتك منقوشة ما بين البؤبؤ والجفون" تعكس التعلق الشديد بالمحبوب، حيث تصبح المحبوبة جزءًا لا يتجزأ من رؤية الشاعر للعالم. هذه الصور تعمق الإحساس بالعشق وتجعل القارئ يشعر بحالة الشاعر النفسية يقول الشاعر صورتك منقوشة ما بين البؤبؤ والجفون"* أفتش عن عيونك في كل العيون" أقرأ عليهم تراتيل عشقك" وكأن القراءة تحاكي المناجاة في عيون المحبوب "التكرار والتركيز:" التكرار في القصيدة يعكس حالة الشاعر النفسية، حيث يواجه التشكيكات الخارجية بثقة وإصرار. هذا التكرار يعزز الشعور بالحزن والتفلسف في آن واحد، ويجعل القارئ يشعر بحالة الشاعر النفسية عندما يقول إذا جاءك الواشون .. عني إليك يتحدثون"* فلا تصدقيهم وما يقولون" جمال وأخيرا يمكن القول إن الأسلوب في قصيدة "نبض" خدم المعنى بشكل كبير، حيث تعمقت اللغة الشعرية والإيقاع والصور الشعرية في إيصال الرسالة العاطفية والفلسفية للقصية لكي لا يصبح الأسلوب أداة للتعبير، بل جزء لا يتجزأ من بنية النص فيعكس حالة الشاعر النفسية والفكرية، ويعزز الإحساس بالعشق الوجودي الذي يتحدث عنه فالحب هنا ليس مجرد علاقة بل هو رؤية للعالم وطريقة للنجاة من العدمية والفراغ الشعراء العظام مثل أمل دنقل وصلاح عبد الصبور ونزار قباني لم يجدوا في الحب ملاذًا فقط بل وجدوا فيه طريقة لمقاومة الألم والخذلان ربما يكون الشعر هو الخلاص الأخير للشاعر وربما يكون مجرد صدى لوجعه الداخلي لكن المؤكد أن الحب في نبض ليس مجرد إحساس بل هو قدر يفرض نفسه على الوجود ويبقى صامدًا رغم كل شيءوإن قصيدة "نبض" للشاعر الطيب عبادلية غنية بالأبعاد الفنية والفلسفية تعكس حالة عشق وجودية تتجاوز الحب العادي إلى حب فلسفي عميق تعبر عن رؤية للعشق من جهة وجودية، حيث يصبح الحب وسيلة لفهم العالم وإيجاد المعنى له ولعل لإيقاع المتوازن، تجعل القصيدة نصًا يستحق القراءة المتأنية والتحليل العميق ولكن في النهاية هل يمكن أن ينقذ الشعر صاحبه؟
المصادر: 1. ألبير كامو - أسطورة سيزيف 2. إيليا أبو ماضي - الطلاسم 3. أمل دنقل - لا تصالح 4. نزار قباني - هل عندك شك 5. جبران خليل جبران - النبي 6. صلاح عبد الصبور - لا تسقني ماء الحياة الكاتب: هيئة التحرير بتاريخ: الجمعة 21-03-2025 04:11 مساء الزوار: 80 التعليقات: 0
|
|