|
|
||
|
نقد تحكيمي: كهف أفلاطون... بقلم سهيلة حماد
نقد تحكيمي:
كهف أفلاطون
مرهق أنا. مشتت..و متعب. و السبب هو ذلك السجين على يساري. ذلك السجين الغريب، و الذي يزعم أننا السجناء، و أنه وحده الحر الطليق! سأبدأ الحكاية من بدايتها، كي تستطيعوا فهم معاناتي إذن. أنا أعيش في كهف صغير، رطب و مظلم. كهف صغير؟! كلا! بل أنا أعيش في أحلى البقاع، و ألطف الأجواء و أحسنها! هل أبالغ؟ ربما..حسنا سأحاول أن أتجرد من مشاعري الفياضة تجاه هذا المكان الذي أعيش فيه منذ ولدت؛ فأصفه وصف الرائي من بعيد، لا وصف المنتمي المحب. في الحقيقة هو كهف، تحوطه الظلمة في جميع أجزائه، إلا من تلك الكوة التي ينبثق منها بعض من النور في بعض اليوم. في الحقيقة نحن لا نرى الكوة، و إنما نتجه بوجوهنا وأبصارنا نحو حائط رطب يقابل فتحة الكهف هذه..هذا الذي أدعوه "حائط" هو كل حياتنا، و جميع دنيانا. إن أردت أن أترك وصف العين الآن فأتبع وصف الفؤاد لقلت إن ذلك الذي دعوته كهفا، إنما هو العالم بأسره. و ما ظلمته لدي إلا كظلمة الرحم الدفئ يحوطنا وقت أن كنا جنينا، وما رطبته إلا رطبة الدم يغذي فيه لحمه و عظمه. هل أبالغ؟ أنت إذن لم تعش في ذلك الكهف و لذلك لا ألومك. لا تسلني لماذا لا نتجه بوجوهنا إلا تجاه ذلك الحائط. هذا السؤال محرم و مجرّم معا. بل و لضمان عدم الاتفات بعيدا عن الحائط، و الالتفات إلى الوراء مثلا تجاه الكوة التي ينبثق منها ذلك النور، فقد وُضعت حول رقابنا سلاسل، و حول خواصرنا، و معاصمنا، و سيقاننا كذلك. نحن مكبلون. نحن لا نستطيع النظر إلا إلى الحائط. الحائط الرطب. الحائط الرطب الجميل. أراك متشوقا لتعرف ما سر ذلك الحائط إذن؟ سأقول لك سر حبنا له. على هذا الحائط يا سيدي نرى ما يبهر فينا الحواس و يلهب الأفكار. أذكر وقت أن كنت صغيرا كيف وجدت ذلك الشئ الذي يزقزق. وجدته على الحائط بلونه الرمادي، و هو يرفرف كمن يصفق للحياة. كان صوته كالغناء. كما أذكر أول مرة أرى ذلك الشئ الذي و كأنّه يسير على أربع، و كأنّ لديه رأس عليها قرنان. كان جميلا و رشيقا في آن. كما أذكر ذلك الشئ الرمادي و الذي يسير على قدمين مثلنا! كان يشبهنا كثيرا، غير أنه رمادي..كله رمادي..كان يظهر لحظات على حائطنا الجميل، ثم سرعان ما يختفي..كانت لحظات من المتعة، والسعادة و نحن ناظرون إلي حائطنا و تلك الأشياء تتحرك عليه، محدثة تلك الأصوات العجيبة، كالشدو و الغناء تارة، و كالحركة على الأرض أخرى. لست أعرف تحديدا، غير أن لحظاتنا مع ذلك الحائط هي ما علمتنا معنى الحياة. و ظللت هكذا سعيدا، و راضيا بما ألفت في حياتي، إلى أن ظهر ذلك السجين على يساري! لست أعرف له اسما، حتى هيئته و شكله لست متأكدا تماما منهما، غير أني أدعوه في نفسي بالمتمرد، أو الغريب، أو الثائر، غير أن "المتثبت" صديقي على اليمين يدعو ذلك السجين شيطانا! يقول الشيطان ذاك -حسب وصف صديقي- إنه قد تجرأ و أفلت من سلاسله، بل و تجرأ و نظر إلى الكوة التي أتى منها النور، بل و قام على ساقيه، فخرج من الكهف، و رأى عالما من ورائه، ثم عاد إلينا ليحكي ما وجده خلف تلك الكوة. يا للشيطان!! يزعم ذلك المتمرد أن ثمة أرض أخرى وراء تلك الكوة. أرض بلا سلاسل، و لا حوائط! يا إلهي! و هل يعقل أن ثمة عالم بلا حائط! يقول ذلك الشيطان أن السلاسل تلك إنما هي الأغلال التي تكبح فينا الحياة، فتحبطنا عن الخروج من كهفنا، لمعرفة ما يدور هناك. في الخارج! أغلال..إحباط..الخروج من الكهف. يبدو لي أن المتمرد ذاك شيطان بالفعل. إنه لا يقوم بانتقاء ألفاظه. يبدو لي أنّه حتى لا يحب حائطنا. إنه حتما متمرد شيطان، و غير شريف. ورغم ما أدركته عن ذلك المتمرد، إلا أنه يظل بداخلي شيئا يحب أن يسمعه..جزء ما في نفسي يريد أن يحاوره. بل و يصدقه. يقول ذلك المتمرد أن ما نراه على حائطنا ليس حقيقة! تصور! يقول إنه مجرد ظلال، و أن الحقيقة خلف تلك الكوة. يقول أن الرمادي الذي نراه ليس لونا حقيقيا، و أن ما نراه يزقزق و يصفق إنما هو مخلوق لطيف، له جناحان، و له ألوان. ألوان؟! يقول الشيطان أن ثمة ألوان عدة..أحمر و أصفر و أخضر..يا للإغواء! يقول إن ذلك الذي يمشي على أربع و له قرنان إنما هو مخلوق لطيف كذلك، لطيف و رشيق، يجول في المراعي، مبتهجا سعيدا بحريته. يقول إن ثمة شئ اسمه زهور..لها ألوان و رائحة..كما يزعم أن أولئك الذين نراهم على حائطنا يسيرون على قدمين هم في الحقيقة كيانات مثلنا، تعيش خلف تلك الكوة و تحت ذلك النور، غير أنهم يمرحون في الحياة دونما سلاسل أو قيود أو حوائط ! الحياة دون حائط؟! تصور! الحياة دونما سلاسل أو قيود؟ تخيل؟! العجيب أن ذلك المتمرد قد عاد إلينا. إن كنت صادقا أيها المتمرد فلم عدت إلينا إذن؟ يزعم أنه قد عاد ليسرد إلينا الحقيقة، فينتشلنا من غيابة الكهف إلى نور الشمس. يا للإغواء..بل يا للشيطان! في رأسي صداع ثقيل، مرهق و متعب. أركن إلى صديقي المتثبت ليزيد في إيماني بالكهف. ينصحني صديقي المتثبت ألا أسمع لحديث المتمرد ذاك..يقول لي إن المتمرد مجنون. لا حياة خارج تلك الكوة. لا حياة بلا حوائط. لا حياة بلا سلاسل أو قيود. الأشياء كلها رمادي. أستمع إليه فأشعر ببعض الراحة. يزيد في إيماني بكهفي، و حبي لحائطي و قيودي. نعم أحب ذلك الكهف الجميل. هو الذي ولدت فيه. أعشق ذلك الحائط فهو كل حياتي. أقبّل تلك السلاسل حول خاصرتي، و معصمي، و ساقاي. و ألعن ذلك المتمرد ألف مرة!
د خالد عجماوي ============== ===========
القراءة:
العتبات : - العنوان : (كهف أفلاطون)، سمعنا و قرأنا عن المدينة الفاضلة! لأفلاطون . و عن أهل الكهف في القرآن، كما رواه الرّحمان، و نقله الحكيم، بعد أن نقله إلى التّخييل. أمّا عن كهف أفلاطون!!.. فهذا جديد.. أيعقل أن يتحوّل كهف و معقل إلى مدينة فاضلة؟! للذّوات هذا ما سنكتشفه بعد أن نكمل قراءة المتن .. لنذهب إلى بقيّة العتبات الاستهلال و الخاتمة . الاستهلال: (مرهق أنا. مشتّت..و متعب. و السّبب هو ذلك السّجين على يساري. ذلك السّجين الغريب، و الذي يزعم أنّنا السّجناء، و أنّه وحده الحرّ الطّليق!) من الاستهلال و من خلال الملفوظ، نشتمّ قلقا.. توتّرا..إرباكا.. شتات.. فوضى.. ذاتا ممزّقة.. بين الواقع و المعرفة المكتسبة، الحاصلة الحقيقة لدى( الأنا) الذّات المتكلّمة، المسلمّ بها ، و التي لا يوجد حقيقة خارجها عنده ، في عالمه، و حدود تصوّره، و بين ما يزعم به آخر، سجين معه (هو )، على أنّه الواقع حقيقة في عينيه( هو)، و ما يشعر به (هو)، و التي لا بدّ أن يسلّم بها الآخر و نقصد ((الأنا) السّارد) ضرورة لأنّها الحقيقة الفعليّة، و المطلقة و لا شيء دونها .. إذا كما نلاحظ فحيرة السّارد، صوت( الأنا ) يحوم حول هذا التّعريف: ( ذلك السّجين الغريب، و الذي يزعم أنّنا السّجناء، و أنّه وحده الحرّ الطّليق!).. فمن وجهة نظر كليهما ال(أنا) و الآخر ال(هو) ... من السّجين و من يقصد بالسّجناء؟ ومن الطّليق ؟ في حقيقة الأمر ؟ يبدو أنّ الاستهلال، زاد العنوان تعقيدا، لنمرّ إلى الخاتمة، علّنا نجد، خبرا يفيدنا و يقودنا إلى مفتاح النّص، ليفكّ هذا الغموض، الذي خيّم على المتوفّر لدينا إلى حدّ الآن .. القفلة : (لا حياة خارج تلك الكوّة. لا حياة بلا حوائط. لا حياة بلا سلاسل أو قيود. الأشياء كلّها رمادي. أستمع إليه فأشعر ببعض الرّاحة.يزيد في إيماني بكهفي، و حبّي لحائطي و قيودي. نعم أحبّ ذلك الكهف الجميل. هو الذي ولدت فيه. أعشق ذلك الحائط فهو كل حياتي. أقبّل تلك السّلاسل حول خاصرتي، و معصمي، و ساقاي. و ألعن ذلك المتمرّد ألف مرة!) نفي لوجود حياة خارج الكوّة، خارج الحوائط، خارج السّلاسل، و القيود وتسليم بأن لا حقيقة خارج معارفه ..و لا لون خارج اللّون الرّمادي. هذا النّفي، زادنا حيرة و قدح فضولنا، للغوص في بحر هذا النّص الوجودي، الذي يذكّرني بالجدار لجون بول سارتر، رغم أنّ السّارد ازداد إيمانا و راحة بال، أمّا نحن فأربكنا، ذلك أنّ ما اعتقدناه حقيقة، توصّل إليها السّارد بنفسه، بدت من خلال الجملة التّالية، أنّها هي أيضا إملاء ..أي أنّه عجز عن البحث بمفرده في ماهيّة الأشياء ..ذات سلبيّة مستهلكة لكلّ إملاء ..شريطة أن تتّفق مع خموله .. (أستمع إليه فأشعر ببعض الرّاحة. يزيد في إيماني بكهفي، و حبّي لحائطي و قيودي.). فمن هذا الصّوت ياترى ؟ .. تنتهي الخاتمة بأن يزداد عشق (الأنا) للحائط، للسّلاسل المحيطة، بخاصرته، بمعصمه وبساقيه ، و بلعنة المارد.. و لكن هل فعلا النّهاية هي رفض للتّغيير للحرّية؟ أم هي رؤية القاصّ، اعتمدها للإثارة، بقصد الإنارة، لقدح عقل المتلقّي، بغرض خلخلة الثّوابت، التي أغلّتنا و شلّت تفكيرنا، بقصد زعزعتها، من أجل بعث جديد، و انبلاج صبح، فمن خلال النّهاية الكاريكاتوريّة، الحزينة،ا الانهزاميّة المستسلمة، التي ختم بها متنه جعلنا ننظر إلى أنفسنا بطريقة مقزّزة، و نأسف لوضعنا، بعد أن اكتفشنا أنفسنا، من خلال الظّلّ المعكوس على( المرآة)، (الجدار)، (القصة)، المعكوسة عليها أنفسنا المغلولة.. قيودنا التي عشقناها ..لأنّنا ألفناها.. و لم نعد نقدر و نتصوّر حدودنا و أبعادنا إلّا من خلالها .. أغلال أفقدتنا خيالنا و تفكيرنا.. طموحنا .. فالفتحة في جدار جون بول سارتر في روايته( الجدار ) كانت تبيّن لبطله زرقة السّماء، فتجعله يتيه و يتجوّل في بقاع الأرض كما يشاء ..حرّا.. طليقا... تعكس الظّلال بعد منتصف النّهار ..أمّا في هذه القصّة القصيرة التي بين أيدينا، نرى السّارد وحّد الألوان في اللّون الرّمادي ..الذي أضاع رونق الألوان و أعدم الاختلاف و حجب زرقة السّماء.. هي رؤية للاستبصار، و دعوة لحلحلة الأوضاع المزريّة لسجن الحياة الذي تقبع فيها ذواتنا السّجينة، التي عمّقتها ثورات "الرّبيع الرّمادي " التي سجنتنا، و كرهنا من خلالها، كلّ تغيير، لأنّ التّغيير الذي حصل كان صادما، ذلك أنّه زاد الأوضاع سوءًا، و عمّق الأزمة و هوّة غربتنا ، لأنّه تغيير غير مسبوق بفكر، و بفلسفة حياة، تتقن قراءة الألوان، كما هي في الحقيقة في الصّباح و في المساء منارة بالشمس، و بالقمر، و بمصابيح الحياة، لتكون كما يجب أن تكون حياتنا ملوّنة زاهيّة مشرقة متفائلة تسعى من أجل تأصيل كيان الإنسان في كلّ مكان ..كما نستطيع أن نحرّك رؤوسنا في كلّ الاتجاهات.. قادرون أن نفكر بعقولنا و نُعمل العقل في كلّ ما بلغنا و قرأناه .. نمضغ و نبلع بمفردنا من دون رقيب يختار لنا أكلنا و مشربنا و شاشاتنا .. === الأسلوب: رشيق، ممتع، مميّز، جاء في لغة بسيطة، بليغة، عميقة، فصيحة، رصينة. أثار صاحبه عدّة تساؤلات، كشفت عن ذات مستبصرة، مفكّرة لها رؤية. السّارد تكلّم بلغة ال(أنا )السّجين الإنسان المهجّن المستنسخ الببّغاء المستسلم للسّائد الرّافض لكلّ تغيير، القابل لحقيقة لم يعرف غيرها، منذ ولادته يرفض التّفكير في كل شيئ لا يشبه حقيقته ...(أنا) حائرة من المفروض "منسّقة " بدت في حقيقة الأمر خاضعة، واقعة بين (أنا مثالي) مستبدّ، يمثّل السّلطة المتسلّطة النّمطيّة، السّائدة و النّظام الذي لا نظام خارج دائرته(في صورة الضّمير يتحدّث إليه، يصادقه و يستشيره، و يجيبه، هو شيء في كيانه، له صوت يحتمي به يناجيه ) وال(هو) المتمرّد الشّيطان، المتنطّع، المخالف لشريعة الأنظمة، الرّافض للنّمطي مكسّر الأغلال، و القيود مهدّم الجدران الثّائر، الذي لا يعترف بالحدود، الحرّ الطّليق، المتحرّر، في الفكر، القابع على اليسار، يشبه اليسار، في ثورته و تحرّره...
=== السّرد: عرضت الأحداث في سلاسة، و إسهاب، و تمطيط موظّف، رصين، انتقى القاصّ بعناية ألفاظه، و تدرّج بأسئلته، مستعملا الإيحاء، من أجل تحفيزنا، و إيقاظ الذّاكرة، فتعالقت مع دويستوفسكي، في تكراره لكلمة في الحقيقة و تأكيده على الفكرة، بمزيد التّوضيح في كلّ مرّة تدرّج بالفكرة .. فحاك لنا قصّة شغبتنا، و شغلتنا، و عمّقت حيرتنا الوجوديّة، أمتعتنا حملتنا، على التّفكير، كالسّابح فوق ماء البحر مستلقيا على ظهره، ينظر إلى السّماء يبحث عن سرّ الوجود، و حقيقة الأمر المعلّق، بين السّماء، بين ما خفي، و ما يرى، و بين قاع الأرض، و الماء الذي يستلقي فوقه، المحكوم بقانون الجاذيّة. فلا يسعه إلّا أن يسبّح بحمد الخالق و عظمته ... نصّ يماهي النّصوص العالمية، حرفيّة رشاقة، أناقة، تشويقا، حبكة مع خاتمة مربكة صادمة، قادحة، مع المحافظة على الحكي، و الحكائيّة بطريقة ساخرة تذكّرنا بالمدارس الوجوديّة، و التّحليل النّفسي و غيرها ..التي تنتمي لها مدارس الحداثة ... نصّ سكب القاصّ على نفسه الطّويل، من روحه، فبثّ فيه الحياة، و أنار، درب الحكائيّة بالأدب العالمي، و جعلنا نتفاعل معه بطريقة ممتعة ...
سهيلة بن حسين حرم حمّاد سوسة في 06/12/2019
-----------------------------------------------------
==
--------------- نقد تحكيمي، في مسابقة القصّة القصيرة دورة 11 للسّنة الثّالثة لاختيار قصّة العام لسنة 2019 بإدارة الأستاذ عبدالعال الشربيني مدير فن القصّة القصيرة (مصر ) الكاتب: هيئة التحرير بتاريخ: الجمعة 27-08-2021 11:06 مساء الزوار: 254 التعليقات: 0
|
|