وكثير منها ما يزال خبيء الطبيعة والحياة بأسرارها وألغازها الكثيرة الغامضة، وتنتظر من يفكّ شيفرتها ومغاليقها.
فليست الحقيقة مُعطىً موضوعياً ناجزاً أو مكتملاً امتلكه العقل البشري مرة واحدة وإلى الأبد. لكنها بالحري مشاريع كشف واستقراء واستنباط ومغامرات فهم وكشف وتأويل وحدوس تتحدى الذهن العارف والعقل الباصر، المجعول منه عنوانا للرشادة الإنسانية في رحلتها من الطفولة إلى النضج والاكتمال، حيث يصير الإنسان إنسانا كاملا كما في التصور الإسلامي، حين يمتلئ باليقين الذي هو صنو الحقيقة.
والحقيقة على محك العقل والنظر الفلسفي، لها مستوياتها ودرجاتها التي تُحرز من خلالها صدقيتها ومعقوليتها وإقناعيتها الحاسمة، وكذا ديمومتها أو موتها وزوالها أمام سيل الحقائق الجديدة التي تظهر للإنسان العارف أو الباحث عن الحقيقة على المدى.
فقانون التبدل والصيرورة الذي يظهر في الطبيعة والأشياء على نحو القانون الأرسطي في الكون والفساد وفق مبدأَيّ القوة والفعل، تجد مصداقه الواقعي والمنطقي في الحقيقة التي تعيش دائما منطقها الخاص بها، إنّه منطق التجاوز إذ لو قُدّر للحقيقة التي يصطنعها العقل الإنساني ويسبرها البحث العلمي أن تثبت على حالها ومنوالها، لما غادرت الإنسانية حالة البدائية وطفولتها القديمة كما تعبد المجتمعات البدائية طواطمها وأصنامها، ولا تُسائل نفسها عن حقيقة هذه العبادة وجدواها.
الفضيلة والحقيقة صنوان لا ينفكّان ولا يتمفصلان، فهما بما هما يُجسدان التاريخ المشترك مع الإنسان، منذ ولادة الأشياء وانكشافها على الوعي لا يَنِيان يشهدان ميلاداً واحداً، ويتعالقان بمصائر واحده، فحيث تنوجد الحقيقة تشهد الفضيلة حقيقة وجودها، وحيث تغيب الفضيلة يخسر الإنسان الحقيقة. عنوانان لمصير واحد، وكلاهما معياريان بالنسبة للأفعال والأحكام الإنسانية، ومن دونهما يفقد البشر ارتباطهم الأخلاقي بعضهم ببعض وبمعنى الحياة التي تعاش.
والإنسان بقدر ما هو صانع لحقائقه وفضائله، يتحقق وجوده الأخلاقي بهذه الحقائق والفضائل. فكأن هذا الإنسان هو مشروع مثلما هو مُلقى على الحقيقة وعبء اكتشاف الأشياء التي من شأنها أن تحسن شروط عيشه وحياته، فهو أيضا ملقى على الفضيلة التي تعطي للحقيقة قوتها، وللحياة معناها وقيمتها التي يجب أن تعاش من أجلها، فمن دون الحقيقة والفضيلة يفقد الإنسان ارتباطه بكل من المعنى والقيمة في الحياة وتتجمد الأشياء، ولا يعود الإنسان إنساناً إلا بالوهم والافتراض.
ليست الحقيقة مجرد قضية يقدمها الإنسان ليسوغ بها مصالحه وأطماعه كما يقرر النفعيون والبراغماتيون، فالحقيقة لا تتساوى مع الذاتية والأنانية، ولا هي وجهة نظر شخصية كما يُسلم بها الشُّكاك على طريقة «بروتاغوراس» الذي يرى أن الأشياء بالنسبة إليك هي كما تبدو إليك، وبالنسبة إلي هي كما تبدو إلي. فالحقيقة تتسم بالموضوعية بالقدر نفسه الذي تتسم به بالكشف والحدسية، لكنها في كل الأحوال لا تنفصل عن طبيعتها البرهانية، فلولا العقل وبراهينه ما امتلكت حقيقة صدقيتها وإقناعيتها وشعبيتها، وما تمسك بها الناس وعدّوها معيارا للحكم على الأشياء والأفعال.
الحقيقة لا تغيب، لكنها تُحجَب عن الناس لأنها تخضع للتلاعبات والهيمنة والمصالح والسلطة والنفوذ من قبل الفاعلين الاجتماعيين والتاريخيين. وقد تُحتَجب الحقيقة كنوع من العصيان على العقول والبصائر فيصبح الإنسان حائرا فيها ومعها، لكنه لا يفقد الأمل في العثور عليها، فهو في طبيعته دائم البحث عنها لتسكن نفسه ويشعر بالطمأنينة.
تبقى الحقيقة موجودة، حتى وإن كان عقلنا لا يدركها دائما بشكل صحيح وكامل، وهنا لا بد من التمييز بين حدّين فاصلين للمعرفة: الأول؛ وجود الحقيقة خارج عقل الإنسان على مستوى الفرد والجماعة. والثاني؛ مدى وحدود إدراك الإنسان لها. فإذا كانت الحقيقة في الخارج مطلقة، فإن إدراك الإنسان لها لا يمكن إلا أن يكون نسبيا، بما أن هذا الإدراك يبقى محكوما بخلفية الإنسان الثقافية والفكرية والعلمية، ولا بد أن يؤثر ذلك في تصوره لهذه الحقيقة ووعيه لها.
حتى العلم الوضعي التجريبي المعتمد على القوانين والنظريات، لا يتكامل إلا من خلال الكشف التجريبي عن هذه الحقائق الموضوعية. وهو يرتكب أخطاء كثيرة في رحلة البحث عنها، ولهذا السبب نجد أن العلماء يغيرون فرضياتهم بصورة مستمرة كلما تعرضوا لمشاكل من أجل إدراك المعارف المطلوبة على اليقين لا على الشك أو الظن.
ثمة ثلاثة أنماط من الحقيقة تفرض هيبتها على الإنسان، وتشكل سلطانا كبيرا عليه في حياته، وبالتالي فلا بدّ له من أن يتعايش أو يتساكن معها. النمط الأول يتمثل بالحقيقة العلمية (الأبستمولوجية) التي صادفت نجاحاتها واجتازت فروضها بالملاحظة والتجربة والتحقق العلمي، وهي أساس العلم الوضعي الذي عليه مناط التقدم والتأخر والمفاضلة بين الأمم، فمنذ بزوغ الفجر العلمي الجديد لا ينفكّ العلم يفرض حقائقه على العالم والإنسان، فهو اليوم مناط التمدن والحضارة والقوة والثروة والسلطان، ولم تكن الحقيقة العلمية أي شيء آخر سوى مثابرة العقل الإنساني في مغامرة البحث عن الأسرار المعقود عليها رفاء الإنسانية، وليس العقل الإنساني إلاّ عقل واحد بين البشر، فهو أعدل الأشياء قسمة بين الناس، لكن الأمم والأفراد تتفاضل في الحقيقة بطريقة استخدامها لعقولها، وطريقة فهمها لقوانين هذه العقول قبل أن تبدأ رحلة البحث عن القوانين الطبيعية وظواهرها وتسخيرها لصالحها.
النمط الثاني من أنماط الحقيقة هو الحقيقة الاجتماعية أو السسيولوجية، التي تزدهر وتفرض صدقيتها بقوة الإيمان الشعبي بها بصرف النظر عن مدى نجاحها وصدقيتها الموضوعية أو البرهانية، إذ يكفي أن تعتنقها الأغلبية التي تمتلك سلطة معرفية ما، كي تفرض هيبتها على الإنسان الذي عليه أن يتعايش معها كما لو كانت حقيقة علمية، لا يمكن زحزحتها أو التشكيك فيها.
هذا النمط من الحقيقة يعتاش على الأيديولوجيا والعقائد الفكرية المصممة لكي تنجز أهدافها المرحلية أو الإستراتيجية، وتبرز نفسها أمام المجتمع كما لو أنها نظرية علمية أو قوانين حتمية. ومن خلالها تنقاد الشعوب إلى كل أنواع الخطاب الديماغوجي التضليلي المتلاعب بالحقيقة لأجل تحقيق مكاسب ومصالح لا تخدم بالضرورة وظيفة اجتماعية سامية.
أما النمط الثالث من أنماط الحقيقة، فتمثله الحقيقة الدينية التي تعّد من أخطر الحقائق وأكثرها تأثيرا في الناس، لارتباطها الشديد بحياتهم ومصائرهم، وتأثيرها الحاسم في نسيج علاقاتهم ورسم تصوراتهم ورؤيتهم للحياة والكون، ولكونها جزءاً مهماً من رسالتهم الروحية في العالم. وهي تمثل خزّاناً للشعور النفسي ومستودعا للأشواق الإنسانية، وتطلعها نحو الله المتعالي الذي يفرض حقيقته على الكون. وفيها تُمتحن الطمأنينة التي يوفرها الإيمان وترتكز على المقّدس الذي يفرض النمط التسليمي للبدهيات الإيمانية التي يوفرها النص أو الوحي. ولا تشترط دائما الطرق والوسائل المعروفة في البحث عن المعرفة والحقيقة. فحسبها أنها تطلب من الإنسان التسليم بها بوصفها أعلى درجات اليقين، وإذا كان للبرهان العقلي من دور فيها فلا يتعدى كونه دوراً مؤيداً ومسوّغاً، لأن أساسها تصديقي محض.
ثمة أشكال من العلاقات التي تنشأ بين الحقيقة والقيم والمفاهيم ذات الصلة الوثيقة بهذه الحقيقة، ومن قبيل الحقيقة والسلطة، الحقيقة والاختلاف، الحقيقة والمعرفة، الحقيقة والتعصب والتسامح.
فلو نظرنا مثلا لطبيعة العلاقة بين الحقيقة وكلٍّ من التعصب والتسامح، لوجدنا أن الاختلاف الإنساني -وهو حقيقة تاريخية لا سبيل إلى إنكارها- يراوح بين سلوكين للإنسان، هما التعصيب والتسامح.
إن التعصب هو وليد التمسك بحقائق معينة ذات طابع نسبي، أو بسبب التقدير المضخم لحقيقة الذات التي تجعل الجماعة يؤمنون بتفوق قيمهم وآرائهم وعقائدهم بالذات بإزاء قيم وآراء غيرهم، لمجرد أنهم يتصورون أن ما يعتقدون يمثل الحقيقة وليس أي شيء آخر، وهذا يبرر لهم رفض أي حقيقة نسبية خارج تصورهم الخاص للحقيقة، وعندئذ يصبح التعصب بموازاة الحقيقة يسير في اتجاهين؛ اتجاه ينطوي على رفض الآخر لمجرد أنه يؤمن بأفكار تنم عن حقيقة مختلفة عمّا نؤمن به نحن من حقائق، واتجاه ثانٍ يتجه إلى الذات التي يحلو لها أن تنغلق على حقائقها وتزعم بصدقيتها على المدى.
من غير المتصور لنا أن نكون في وضعية فهم عقلاني لفضيلة التسامح بإزاء وضعيات كهذه للحقيقة. فالتسامح في أبسط تعريف له هو حالة يكون عليها الشخص أو الفرد أو الجماعة على استعداد للاعتراف بالآخر أو القبول به كائنا من كان، كما هو بوصفه آخر قد يختلف عني أو يكون مشاركا لي في الرأي والاعتقاد وفي تصّور معين للحقيقة أو لا يكون. وبعبارة أخرى، يعني التسامح أن أقبل الآخر بوصفه شريكا لي في الحقيقة المطلقة، حتى إن كان لا يشاركني في حقائقي النسبية التي أؤمن بها. وهذا الأمر ينسحب على عالم الأفكار والمعتقدات، فبما أن الحقيقة لا يمكن فهمها إلا بكونها حقائق عديدة، فإنه يلزم أنها ملك للجميع دون استثناء.

المصدر : الرأي