عرار:

 عمان  :- (طَيفُ أميرة) هو الإصدار الثاني للشاعر المبدع سامي أبوبدر، بعد ديوانه الأول (ساعة من ليل)، وقد افتتح ديوانه بقصيدته التي نحن بصدد التوقف والتأمل بها، والتي تحمل عنوان: (أنشودتي الأولى).
مبدئيا؛ عنوان القصيدة يطرح التساؤل التالي: هل هذه القصيدة أول ما كتب من شعر؟ أم التي تحمل الترتيب الأول بين قصائد الديوان؟ أم القصيدة التي تحمل لواعج عشقه الأول؟، ودون البحث عن إجابة لأيٍّ من هذه التساؤلات أو غيرها مما يرتبط بالعنوان، والذي يشكل غالبا مدخلا لذائقتنا ونحن نحاول الولوج لسبر النص وفهم مضامينه وغاياته واستشراف معانيه وجمالياته؛ فالعنوان يُحفّزنا لقراءة النّص، والدخول من الأبواب المشرعة. 
الشِّعرُ لَيْلى/ والهَوَى/ وَطنٌ تَخطَّفَهُ النَّوَى/ وأَنا اْلمُحاصَرُ بالشُّجُونِ عَلى َمشَارفِهِ...
نُلاحظ أن الشاعر عَمدَ إلى تقديم اسم الحبيبة (ليلى) خبرا متوسطا بين المبتدأ (الشعرُ) والاسم المعطوف (الهوى)، وهذا الأسلوب سنلمحه كثيرا في هذا النص، فالنصُّ أساسا: الشعرُ والهوى يا ليلى وطنٌ تخطّفه النّوى.
ونرى أنّ هذا التقديم كانت له دوافع وجدانية محضة في نفس الشاعر، يُريدُ أن يُوضّحَ مدى تعلقه بها ومدى قربها والتصاقها من ذاته الهائمة، إذ يرى أنّ الشعر (الإبداع) (والحب) هما وطنٌ مخطوف بالجفاء والقطيعة والبُعد، ويجدُ نفسه مُحاصرًا بأحزانه على ضفاف ومشارف هذا الوطن. 
في التعبير دلالات عميقة وإشارات جميلة، نسج منها هذه الصورة الجميلة لما يعتمل بدواخله من شجون وهموم، فالشاعر تفصل بينه وبين (الوطن/الحبيبة) مسافات جغرافية عميقة، لم يجد إليه سبيلا سوى البوح من خلال الشعر الذي به يعبّر عن لواعجه.
...وَدَمِعي اليَومَ يفضَحُ حالِيَهْ/ مَنْ سَوفَ يُؤِنسُ وَحشتِي؟/ ...ونَهْرِي غَاضبٌ، فالأرْضُ قاحلَةٌ/ ...وَاُلأْمنِياتُ تناثَرَتْ في أَوَّلِ الليْلِ الكِئيب...
في ظلّ هذه الحالة، لا يجد أمامه سبيلا سوى الدموع التي تشي بما يجول في خاطره، والدّمع يفضح حالة الشخص ويدلّ على ما يؤرق جوانحه.
وعندما يُوقن بأنّ الشعر -فقط- هو الملجأ ليُعبّر من خلاله عمّا يدور في خلده، وأنّ هناك حائلا ومسافات تحول دون التواصل مع المحبوبة، يشعرُ بأسى ووحدة، ولا يجد أنيسا له في غربته التي تحيط به، ثمّ يزيد الصورة عمقا بوصفه لنهره بأنّه غاضب، وغضب النّهر وصل مداه، إلى أقاصي الأرض التي باتت قاحلة لا حياة فيها؛ لعدم وجود ما يبعث بها الحياة، حتى الأمنيات التي كان يتطلعُ إليها قد تناثرت في بداية المشوار.
... وبتُّ ِفي رَيْبٍ يُسَاوِرُ خاِطري/ والخَوفُ منْ َبينِ الأنَامِ دَعَانِيَهْ/ قلْبي تُعانِقُهُ الجِراحُ /فَيْصَطِلي منْ نَارِها شَوْقًا/ يُؤِّرقُ مُهَجتِي/ وَيزِّفُّ لي بشْرَى بأني هالِكٌ...
في ظلّ الوحدة، وما تحمله من قسوة، وليل طويل صامت، يرسمُ لنا صورا عن معاناته الداخلية التي تساوره ويشعر بها، والشاعر كان رائعا في توظيف المفردة دون أن يلجأ لمفردات تملأ السطر الشعري كما هو الحال عند الكثير ممكن يقرضون الشعر أو يكتبون النثر، ذلك أنّ الكثير يلجأ لرصف الكلمات، والحشو الذي يُفقد النص جماله..
يرى أن الشك والخوف قد وصلا إليه وقاما بانتقائه من بين الناس، وهو مثقل بقلب مثخن بالجراح، يصطلي بالشوق والحنين، وهذه المشاعر التي تلاحقه والخوف الذي يسكنه يحمل إليه بشرى بالهلاك، وكيف تكون البشارة بشيء غير مرغوب؟! فالبشارة دائما تكون في الشيء المحبوب، إلا أن الشاعر قد لجأ إلى هذا التعبير من قبيل السخرية والتهكم، مُتيمنًا بالخطاب القرآني في قوله تعالى: (فبشرهم بعذاب أليم)، وهنا نراه يريد رسم صورة أكثر عمقا لما يحيط به وما يسكنه ويعيشه من مشاعر سبق أَنْ أشرنا إليها.
فَصَرَخْتُ: يَااااا لَيلَى/ أَغِيثِينِي بِرَبِّكِ مِنْ عَذَاباتِ الجوَى/ إِنِّي أُحِبُّكِ فَاعْلَمِي/ وإِلَيكِ يا تَرْنِيمَةَ العِشْقِ الْمُباحِ/ شَدَدتُ فِي جُنْحِ الظَّلامِ رِحَالِيَهْ
بعد البشرى نراه يصرخ، والصراخ يملأ المكان، صرخ مناديا المحبوبة ليلى، وليس بالضرورة أن تكون (ليلى) اسم ملهمته وحبيبته، فلكل شاعر ليلاه، هنا لا بدّ أن نشير إلى أن الشاعر يخاطب في النص الشعري المحبوبة (الوطن) والمحبوبة الأنثى، بأسلوب رمزي جميل، يناشدها أن تُلبّي النداء، وحرف النداء في (فصرختُ يا ليلى) هو للقريب وللبعيد، وقد لجأ إلى توظيفه في القصيدة، لأنه يراها قريبة جدا من وجدانه، وبعيدة جدا من حيث الجغرافيا والمسافة، تعالي يا ليلى وخلصّيني من تعبي ووجعي، ويشفع لي في ندائي إياكِ أنني أحبّك فاعلمي حقيقة حبي لكِ، ولأنّك معزوفة عشقٍ وحب صادق نقي، فإنني قررت أن أشدّ الرحالَ إليكِ .
هذِي خُطَايَ الآن قَد تَعِبَتْ/ وأنْهَكَنِي اغْتِرابٌ فِي مَتاهاتِ السنينَ/ وعَبْرَ آهَاتٍ/ تَمُرُّ مِنَ الوَريدِ إلَى الوَريد...
هنا يتحدث عن البُعد والغربة التي أنهكت قواه منذ سنوات، غربة تمرُّ أوجاعها في نفسه، وتتغلغل داخله.
ولا تُغادِرُ أَحْرُفِي/ فتَزيدُنِي ألَمًا عَلَى أَلَمِي/ وتَهْمِي أَضلُعِي/ حُزنًا علَى غَدِيَ الْمُسَجَّى/ تَحتَ أنْقاضِ انْهِزامِي/ والفُؤَادُ يَئِنُ مِنْ أَثقَالِيَهْ/ مَا بَينَ أَسفَارِي وزَادِي الْمُرِّ/ والذِّكرَى وهَذا البُؤْسِ/ والدَّربِ الْمُرَوِّعِ والحنين  إليكِ...
هذه الآهات التي تمرُّ في كوامن نفسه وتسري من الوريد إلى الوريد، ها هي مرسومة في حروفه التي غلّفها الحزن والوجع والألم.
ونجد سامي أبوبدر في خضمّ هذه المشاعر يقدم لنا صورة بيانية جميلة، حين شبّه الضلوع بالعيون التي تبكي (تهمي) وحذف المشبه به وأبقى شيئا من لوازمه على سبيل الاستعارة المكنية، وذلك في قوله: 
وتَهْمِي أَضلُعِي حُزنًا علَى غَدِيَ الْمُسَجَّى...
جميل تصويره لما يعتريه ويسكنه من أحاسيس ومشاعر بسبب غربته، وبُعده عن محبوبته وما ألقى هذا البُعد من ظلال على رُوحه الهائمة .
...جِئتُكِ دُونَ هَادٍ/ عَلَّنِي أَلْقَى جِوَارَكِ ذَاتِيَهْ/ لَمْ يَبْقَ إلا أنتِ يا أُنشُودَتِي الأولَى/ وفِي عَيْنَيْكِ رَاحَ الفَجرُ يَضْحَكُ/ والصَّباحُ بَدَا لِيَهْ/ لِمَ لا وأنتِ طُفُولَتِي وبَراءَتِي؟/ ولَدَيْكِ تَبْدُو الأمْنِياتُ الخضْرُ/ تَنثُرُها يَداكِ علَى رُبَانا/ والرَّبيعُ أَطَلَّ مِنْ شُرفَاتِنا/ وتَراقَصَتْ حَولَ الجدَاولِ ذِكرَياتٌ/ سَطَّرَتها لحظة الفَرَحِ الْمُغَامرِ/ فَوقَ أجْنِحةِ الْمَدَى/ لا أُفْقَ بَعدَ الأفْقِ لا/ لا مُنْتَهَى/ لا شَيْءَ بَعدَكِ يا انْتِصَارَ الحلُمِ يَشْغَلُ بَالِيَهْ.
ورغم المعاناة، والحالة النفسية التي مرّ بها ولا يزال يمرّ، إلا أنه عندما يستحضر طيفها تجده حالمًا تحلق روحه في فضاء حبها، فهي رغم كل ما يحاصر نفسه من آلام بسبب البعد والاغتراب تبقى أنشودتَه الأولى، يلامسُ وجدانَه طيفُها.
سامي أبوبدر، شاعر يكتب القصيدة بحسٍّ مرهف، يترك رُوحه تحلق على سجيّتها، يكتب القصيدة بأسلوب سلس يلامس وجدان المتلقي على اختلاف التكوين والتشكيل الثقافي، فيبتعد عن الغريب من الألفاظ، وينتقي مفرداته بطريقة بسيطة دون تعقيد أو وعورة، لذا تجد في الخطاب الشعري عند سامي أبوبدر ما يجذب الذائقة. 
وهنا حاولنا الولوج إلى هذه القصيدة، وقفنا عند محطات ومفاصل دون إغراق في جميع تفاصيلها من حيث البناء والأسلوبية وتوظيف الزمان والمكان وغير ذلك من مداخل ومحطات، ربما نتطرق إليها في سياق تقديم قراءة أكثر شمولية لديوانه الجميل (طَيفُ أميرَة).