|
عرار:
الباحث : نورالدين بن عمر يظّهّر العالم للعين الباصرة صورا متواترة لا تغيب إلا بغياب الضوء، وهي في كليّتها جملة من العناصر التصميمية المؤثرة في العقل والمكسبة إياه للجزء الأكبر من الخبرات التي يستقيها من الحواس. ومن خصائص العقل قدرته على تفكيك و تأليف عناصر التصميم من خطوط و ألوان و أشكال وأحجام وملامس، لتتشكل باستمرار مولّدة لصور بديلة عن تلك الوافدة من انعكاسات الموجودات الماثلة. فالصورة بالنسبة للمُدرك غير ثابتة و هي متحركة و متحولة في تجليات متناسخة و متناسلة ومتغايرة. وبالنظر في تحولات الشيء و صورته من خلال مثوله و تمثله تتألف مسارات إدراكية للموجودات، ولعلّ التمثل المرآوي يقدم الفاعلية الأقرب لمشابهة مفترضة بين الماثل والمتمثل. ومن خلال هذه العلاقة بين الصورة ومصدرها تتجلى عدة إشكاليات تتعلق برؤية الإنسان للعالم. إن التمثل المرآوي نظير للتمثل الشبكي، و قوامه الانعكاس الذي اختلفت حوله التصورات، غير أن مبدأ المماثلة بين العاكس و المعكوس قنّن في الفنون التشكيلية على امتداد عدة قرون اعتمادا على تعيير عقلي يتأسس على عدة خصائص مرتبطة بالمحاكاة، و هو ما اتسم به التصوير اليوناني و تمثلات عصر النهضة، لا سيما في تجلياته المقترنة بعدة مفاهيم تتمثل في المثالية و الكمال و زاوية النظر وخط الأفق و نقاط التلاشي.. أما الصورة في الفترة الحديثة فتجاوزت القوانين الكلاسيكية مقدّمة لعناصر التشكيل خارج حدود اللحظة المطنبة في الإيضاح. فقد تحرر الشكل و اللون في الفن الحديث وانصهرت الأزمنة في تناغم مع قدرات العقل اللامحدودة على تمثل العالم، حتى أن اللحظة الانطباعية قدمت مفارقة المرئي لثبات الرؤية و أعلت الحركة كانوجاد شكلي بديل يتجلى في أثر الفعل الفني على اللوحة. إن التحول من البراديقم الكلاسيكي إلى الحداثة المشبعة بالأساليب التشكيلية المتنوعة فتح آفاقا أرحب للتمثل والتأويل. لكن الصورة في الفن المعاصر تستعيد اللحظة المرآوية و توغل في بلاغة الوضوح والمطابقة و يتماهى ذلك مع تجليات الصورة في جميع الميادين. فبالنظر إلى الحياة المعاصرة في حواضن المدن المغمورة بالوسائط التكنولوجية الحديثة يمكن ملاحظة سيطرة الصورة على الفضاءات الخاصة والعامة، حتى أن العالم المادي الماثل يتراجع في محصلة ما تتلقاه العين من صور على حساب التمثلات المنبثقة من الشاشات الرقمية. ومن سمات هذه السيطرة للصورة الرقمية نزوعها لمحاكاة آلية عمل المرآة. وينطبق هذا على الفن المعاصر الذي يتجلى في عدة ممارسات تعنى بالانعكاس المرآوي سبيلا لتمثل العالم. فماهي تجليات التشكيل المرآوي و وسائطه؟ و كيف يتفاعل المتلقي مع مسارات التمثل المتجلية من الصورة المنعكسة مرآويا؟ ارتبطت الصورة بالتفسير الغير علمي لقرون طويلة و يرتبط ذلك برغبة الإنسان في وسم الظواهر و عدم قدرة الوعي على بلوغ حقاقها الكامنة. وقد اقترنت صورة بعض الأجسام والعناصر الطبيعية بالمرآة في تماه وظيفي عجيب. فقد "ذهب البعض إلى أن القمر إنما يتتبع الأشياء على الأرض و يعكس صورها، فنرى فيه، خاصة حين يكون بدرا كامل الاستدارة، الجبال و الأنهار و البحار. بل إنه ليعكس الأهم من هذا كله، و نقصد به الوجه الإنساني... و هذا هو ما أشارت إليه رسوم لوجوه قمرية في بعض المخطوطات العربية و الفارسية القديمة." (1). (صورة رقم 1). وفي تشكلات السحاب الصدفوية المتماثلة مع هيئة أجسام طبيعية أخرى أعتقد في مرآوية الصورة. مثلت هذه الوسائط تجسيدا لرغبة الذوات في إيجاد معادلات بصرية للموجودات وتوظيفها كمعرفة متداولة و متوارثة لعدة قرون. و تقدم الطبيعة أيضا سطوح الماء و الحجارة الملساء كوسائط عاكسة. و لعلّ لوحة نارسيس (صورة رقم 2) المتيم بصورته المنعكسة على ماء بحيرة مثال لتلك العلاقة بين الذات و صورة الجسد الخاص. و منها تتجلى الملاحظات الجوهرية المتعلقة بمسارات التمثل الناشئة من التشكل المرآوي. فأية علاقة بين الرائي وصورته و العالم في أعمال أنيش كابور(2)؟ يستفيد الفنان كابور من مثول المرآة كحامل للصورة ليقدم رؤيته الفنية. فاستنادا إلى الأنا كطرف موجد للمعنى في الوجود ومحاور رئيسي لعناصره المؤثرة والمتأثرة نورد هذه القراءة في علاقة الإدراك بالأثر الفني من زاوية نظر الفرد متلقيا وفي علاقته بالآخرين و العالم ككل. فالأنا كذات مدركة تعتمد على الحواس في اتصالها بالموجودات وفهم مثولها. لكن المقاربة الأكثر قربا من حقيقة المرئي و التي تربك الأنا كفكر له منظومته في تعيير وترييض المحسوس تتجلى في انهيار صرح الوعي في حضرة الأثر الفني. إن المتلقي لأعمال كابور العاكسة يصطدم بحقيقة أولية عن تلك الفكرة المعاشة يوميا والقائمة على صورة نمطية للجسد الخاص تنسجم مع الوعي الجمعي في المجتمعات المدنية. و إذ أستدعي هذه الصورة الغير عامة و المهيمنة، فإنني أعاين تلكم العلاقات بين الإنسان وصورته عن نفسه و بدائل التشكيل الماثلة في الأعمال الفنية في الفضاءات العامة. إن في علاقة الإنسان المعاصر بالمرآة مرمى التساؤل حول صورة الأنا. فمن المعتاد النظر في الملمح الخاص بشكل يومي وهو من السلوكيات الرتيبة التي يستأنف بها الإنسان المعاصر نشاطه اليومي. ومن هذا السلوك تتجلى المفارقة التي يمكن قراءتها في تجربة التلقي. فتلقي صورة الجسد في الفضاء الخاص تتحول إلى إرباك حقيقي للمتلقي لحظة التقائه بالأثر الفني (صورة3). فمن المعتاد تجويد الملمح بمواد وأدوات تجميلية للظفر بإعجاب النفس والآخرين. و من المستحب النزوع إلى تجميل الجسد و خلق معادلة شكلية و لونية في ما يحمله من لباس و أغراض. لكن نمطية التجمّل تشعر المتجمل بأن الحقيقة تكمن في المظهر و بقدر ما يكون متطلعا إلى الكمال. فالأنا الرائية للجمال في جسدها المنعكس على المرآة تلتقي بحقائق عيانية دخيلة عن نمطية الصورة. إن مشكل المثول و التمثل والانعكاس يقدم رؤية حول علاقة الإنسان بجسده و مسارها. لكن الفن يخلق مسارات تكرس التحاور بين ضرورات المعيش وممكناته. إن تجربة المرآة ملغزة و كثيفة الدلالات لكونها لصيقة بالسلوك اليومي للإنسان وغامضة في نفس الوقت. فثمة جدلية تنشأ بين الأنا و الآخر في حضرة المرآة. الأنا المتمثل في الذات و الآخر المتجلي في الذات المنعكسة، و هي علاقة تلازمية تكشف عن درجات للوعي بالهوية الثابتة و المتحولة. و تعتبر هذه الجدلية جامعة للفكر الخاص ووساطة المرآة كمحفز للتساؤل عن الوجود. فالتجلي لصورة الجسد على السطوح المرآوية ارتبط بالوعي لدى الإنسان المعاصر الذي يختلف في نظرته لنفسه عن الإنسان البدائي. تبدو الفروقات بين الوعيين مرتبطة بالتطور الفكري ونماء العقل، لكنها في الحقيقة مثيرة للشكوك حول علاقة الإنسان بذاته و إدراكه لنفسه كموجود مادي و روحي. فقد كتب "السير جيمس فريزر (1854-1941) في مؤلفه "الغصن الذهبي" عدة صفحات عن الروح بوصفها ظلا أو انعكاسا (خيالا) "réflexion " مشيرا بذلك إلى الاعتقاد عند بعض الشعوب البدائية مؤاده أن روح الإنسان موجودة خارجه متجلية هناك في ظله و الممتد على سطح الأرض وخياله المنعكس على سطح الماء. تلك المرآة الطبيعية التي لم تتدخل فيها يد الإنسان."(3). فالإنسان البدائي يرى نفسه في المرآة و لا يدرك على الغالب ذاته كموضوع مادي فكري يتطلب الدراسة والاستجلاء. فوعيه مرتبط بالطبيعة و ضرورات البقاء على قيد الحياة، و لا يمثل له الجسد الخاص محور اهتمام مستقل عن العالم. لكن الإنسان المعاصر يطنب في التواصل مع المرآة التي تقدم له الأنا كهوية خاصة، و من هذه العلاقة التلازمية تنشأ الهوية كأنا نرجسية تنحد بسطح المرآة الدافعة للصورة المنعكسة نحو الوعي والهوية الغيرية المتجلية في الأنا الخاص القابل للمسائلة. ويرتبط هذا الديالكتيك المزدوج بين الأنا والآخر بوصفه أنا قابلا للدراسة بضرورات الحياة و نسق المعيش اليومي. فالإنسان المعاصر دون تعميم المعنى يبالغ عند النظر في المرآة في تجويد صورته، أي الاعتناء بمظهره الخارجي. ورغم أن هذا الاهتمام مستحب لدى أناس آخرين فإن الأنا تكسب صورتها ضوابط يمكن أن تحيد بالوعي عن جوهر الوجود وممكنات التجلي التي يمكن أن يراها الإنسان في نفسه. تعد مسألة الهوية مركز العلاقة بين الأنا و المرآة، لكونها تشترك في تحديد هوية صورة الجسد ومدى وعي الإنسان به، و بمعنى أدق الجسد الخاص بين الانغلاق و الانفتاح. ويمكن ملاحظة مرآوية الصورة في الزمن الراهن في عدة و سائل اتصالية أخرى كالهواتف الذكية و شاشات التلفاز والواجهات الإشهارية الإلكترونية. فمن المتعارف عليه أن الإشهار يقدم صورا عن الأنا ينشد من خلالها خلق منظومة مجتمعية تبعد الإنسان عن ذاته و تكرس له صورة متحكم فيها من قبل المنظرين و الفاعلين في منظومة الدعاية. إذ "يتوسل الإشهار بالصورة البصرية أكثر من أي شيء آخر على شكل وصلة تلفزيونية أو إعلان صحفي أو ملصق مصوّر، و الجامع بينهما هو الثورة الآلية." (4). تلك الصورة التي تتجلى في المرآة كتجربة يومية للأنا الخاضعة لنمطية الصورة. فقد سعى الإنسان المعاصر إلى مضاهاة المرآة في قدرتها على استضافة الصورة و عكسها على شبكية العين. فالتكنولوجيا تسعى دوما إلى بلوغ كمال المرئي وإيهام الناس بأن الكمال المتجلي على محاملها ذي قيمة يجب أن يشترك فيها الجميع. فمن ضرورات الظهور على شاشات التلفزيون التجمل بوسائط تجميلية والاهتمام بإضاءة فضاء التصوير وتأثيرية ألوانه. و في ذلك دعوة للأنا لكي تنسجم مع السياق العام الذي يحتفي بصورة الجسد، أو قشرة مادته. و من خلال هذه المقاربة تتجلى العلاقة بين المعنى و أفوله في علاقة الأنا بصورة الجسد الخاص. "إذ لا يقول الإشهار شيئا ذي معنى، فهو بمثابة مهرجان أو سرك، قوامه المبالغة و عماده اللعب على حبال العبث واللامعنى، و أساسه الفراغ..."(5). إن الإنسان المعاصر الخاضع لمنظومة الإشهار والمستضيف لنمطية الصورة الإشهارية ولغتها، كالإنسان الخاضع لنمطية الرؤية في المرآة و ضوابطها المعتادة. تعكس هذه الأفكار اللحظة الفارقة في عملية التواصل بين مرايا كابور والمرايا الخاصة. أتطرق للملاحظات السابقة في البحث نظرا لأهميتها في تجربة التلقي لأعمال كابور. فالعلاقة بين الأنا كوعي والآخر كوعي بالأنا المتجلي على السطوح المرآوية تكشف عن رهانات الفنان في تحطيم هالة الهوية التي اكتسبها الإنسان المعاصر في ذاته. فصورة الجسد تتحول إلى آخر بالقوة على مرايا الفنان. وهي دعوة صريحة للتساؤل عن مدى معرفة الذات بذاتها. فعبر الصورة تتبدى العديد من التساؤلات عند المتلقي مفادها النظر في الهوية الخاصة كتحول مستمر. فالعالم ليس ثابتا ثبات اللحظة المرآوية التي يسعى الأنا إلى بلوغها، فلكل لحظة من لحظات الالتقاء بالجسد الخاص تمثل إرباكا حقيقيا تتجلى آثاره على سيكولوجيا المتلقي و وعيه بصورته الجديدة على العمل الفني. و رغم أن ممكنات التجلي المتاحة في آثار كابور واردة على الأغراض الصناعية المتواجدة بكثافة في الحياة المدنية المعاصرة إلا أنها لا تمثل أهمية للناس في حياتهم اليومية، فالمرايا و الفولاذ و البلور العاكس مواد متوافرة في المعمار، لكن الفن يحول تجربة المرآة من كونها رتيبة و عادية إلى لحظة وعي فارقة ومحرجة لسواكن الفكر. و لمزيد النظر في الأنا كمتلقية للفن نولي اهتماما باللحظات الأولى للتلقي الذي يمكن أن يفعل العوامل السيكولوجية المتمثلة في الدهشة و الاستغراب و الإعجاب و النفور وهي مشاعر حينية متزامنة مع لحظة اكتشاف صورة الجسد الخاص. و من خلال هذه الانفعالات أقرأ بداية تساؤل الذات عن كينونتها المادية، فاللحظة الحسية البصرية تفعل المثيرات المرتبطة بحركات لاواعية تفصح عن اكتشاف جديد لآخر متجلي في الأنا. و في هذا السياق يورد موريس مورلوبنتي في كتابه العين والعقل بأن : "اللغز ينحصر في أن جسمي هو في الوقت ذاته راء و مرئي. إن هذا الجسم الذي ينظر للأشياء كلها، يمكنه أن ينظر إلى نفسه، و أن يتعرف فيم يرى عندئذ على "الجانب الآخر" من قدرته الرائية. إنه يرى نفسه رائيا، و يلمس نفسه لامسا، فهو مرئي ومحسوس بالنسبة إلى نفسه. إنه ذات، لا عن طريق الشفافية مثل الفكر، الذي لا يفكر في شيء أيا كان دون أن يتمثله و أن يشيده و أن يحوله إلى فكرة – و إنما ذات بواسطة الاختلاط والنرجسية و ملازمة من يرى لمن يراه، ومن يلمس لما يلمسه. و من يحس للمحسوس – ذات إذن واقعة بين الأشياء، لها وجه وظهر، لها ماض و مستقبل."(6). إن تجربة التلقي هذه إنشائية بامتياز وشراكة فعلية للمتلقي في بناء العمل الفني تتجلى في الشكل. فما هي تحولات الشكل و علاقتها بالأنا؟ إن النظر في المرآة الخاصة يستدعي إيلاء الأهمية لجودتها و خلوها من الشوائب التي يمكن أن تشوه الصورة، إذ يكون الشكل خاضعا لمعادلات رياضية كالتناظر و التناسق والتناغم والتوازن اللوني. وهي ليست إلا معادلات و ظوابط حددها الرائي وفق ثقافة عامة مرتبطة بالمجتمع. لكن الشكل في الفن المرآوي يستحيل تهاو للخطوط و سيلان للأشكال فقدان الألوان سطوعها و فويرقاتها. إن الشكل على هذا المستوى مغاير للشكل الذي خضع لقرون طويلة من تاريخ التصوير إلى قيمة جمالية مرتبطة بالمثالية. فـ"أن يكون الجميل قد تمأسس كقيمة بامتياز فإن ذلك يعود إلى تصوره كشكل صرف، مثال وجود متعقل و لا متجسد. يعني الشكل في اللاتينية "formusus" الجميل، يختزل إذن هذا التحديد في الأثر الفني، بالمناسبة في المواد و في حاو يتأتى معناه من عالم بعيد متعال. و حتى إذا كان الشكل الجميل قد التقط بالنظر فإن هذا الأخير لم يعتبر إلا كنافذة للنفس، لقد أخفى، نوعا ما كل البعد الحسي، للأثر الفني، و تم تجنبه."(7). و الأمر شبيه بعمل المرآة الخاصة، تلك التي تحاكي الجماليات المثالية للجسد في تجليه. لكن الصورة مختلفة تماما في مرايا كابور. فالشكل لا يخضع للتنظير المثالي للجميل لكنه يفارقه إلى منظومة ذات منطق خاص يقوم على الغرابة و اللامتوقع وهي من شروط الإبداع. إن صورة الأنا لحظة التلقي مرتبطة بالحركة الدائمة التي تنسجم مع طبيعة الوجود الغير ثابت، و هذا ذاته مثار تسآل الأنا عن هويتها التي تنحد بسلطة اللحظة المرآوية. فالأنا الناظرة في مثالية جمالها و المتطلعة إلى تثبيت ضوابطها في الشكل بعد لحظة الرؤية، تجد نفسها أمام هوية تعتمل فيها عوامل الجدة و التحول. إن هذه التحولات في الشكل ليست مبتدعة من قبل كابور لكنها فريدة في أعماله و تكتسب فرادتها من المواد المستعملة في إنشاء أعماله. فقد سبق و أن تهاوى الشكل في أعمال السريالية في مطلع القرن العشرين لينبثق من خبايا اللاوعي الذي تذوب فيه المدركات الحسية لتسكب على سطوح اللوحات و كتل المنحوتات على هيآت مغايرة للمواضيع. إن الشكل السريالي المتخم بالتناقضات والمثيرات العاطفية حمال للمعنى الوارد من اللاوعي. ففي صرح الخيال تتحطم أسس التوازن الشكلي وتفقد الصلابة صلابتها والبرودة برودتها و الضوء سطوعه... تتحول هوية الأشياء و تتبدل من خلال أشكالها لعوالم بديلة. ولقد شظى التكعيبيون المنظور محللين صورة الجسد انطلاقا من تعديد زوايا النظر ليلتقي المتلقي بصورة مستحدثة مع الجسد تحفز على قراءة مغايرة لما يعرفه عن جسده الخاص وعن علاقة الأجساد ببعضها البعض. و قدم ايف كلاين صورا لنساء يطبعن أجسادهم على محامل ثنائية الأبعاد فبدت الصور مغرقة في البدائية تقتنص من كلية الجسد أجزاء... و في هذا السياق تندرج علاقة الأنا بالآخر الأنا. تلك العلاقة التي يتحول فيها معنى وجود الجسد الخاص باستمرار نحو عوالم بديلة. تبتعث تجربة التلقي عوالم بديلة للذات تنتشلها من الرتابة و في هذا العطاء المفتوح تنشأ معاني جديدة عن وجود الذات، تلك الذات الرائية لسيلان المادة و هروب الزمن. فلا معنى للزمن الحاضر و الماضي و المستقبل في لحظة التلقي، تلك اللحظة التي تتكسر على ضفافها الخطوط و تنحني و تتميع فيها الألوان. إنها لحظة مكاشفة الذات لحظة شبيهة بالخروج من كهف أفلاطون حيث تتوارى حقيقة الظلال ليسطع نور الحقائق. فكل الزمن يجتمع عند تزامن الماثل و المتمثل. و هذا التداخل في الأزمنة يتمثل في استحضار الماضي و التوثب نحو المستقبل لاكتشاف المزيد من الصور. تستحيل الأنا آخرا في عملية التلقي للأثر الفني التفاعلي العاكس، و هي نتيجة تلك القدرة الكامنة في المادة على تواريها خلف تمثلات الجسد. إنها علاقة الداخل بالخارج في حوارية نشطة بين مادة الأثر ومادة الجسد. و تتوسع دائرة هذا الحوار ليصبح حسا مشتركا بين الأجساد. يتواجد الناس في الفضاءات العامة و المغلقة و يتحاورون في ما بينهم بلغة الجسد إضافة إلى لغة الكلام. لكن التفاعل بينهم يتخذ منحى مختلفا عندما يتعلق بتلقي أعمال كابور. و يمكن أن نتفحص مسارات التواصل بين الأجساد من خلال تدقيق النظر في التحولات الطارئة على بنيته و ما به تكون الصورة مثيرة للانتباه. فانطلاقا من المفاهيم الأساسية التي يتأسس عليها بحثنا نتعقب تلك التحولات الصورية و ندرسها بالتحليل والتأليف. تمثل الأجساد أمام الأعمال العاكسة في وجود مادي و حركة فاعلة في المكان والزمان. و تتشابه وضعيات المثول و تختلف بين الأشخاص. لكن كل شخص يحتل موقعا معينا مقابل الأثر، و زاوية نظر لا تتشارك فيها بقية الأجساد معه. و يعد تموقع الأجساد مهما نظرا لكونه يثير الإدراك الحسي لدى كل شخص على نحو مختلف من الآخرين. إن زوايا النظر لكل متلق تخصه بصور لا يمكن للآخرين أن يروها، و تعتبر هذه الخاصية في أعمال كابور رئيسية عندما تتعلق تجربة التلقي بالحوار بين المتلقين والتفاعل بين صورهم. نلاحظ هذا التفاعل في حضرة منحوتة "بوابة السحاب"(صورة 4). تكشف الصورة عن لحظة تواجد عدد من الأجساد حول كتلة فولاذية عاكسة ، وتبين مثول هذه الأجساد وتمثلاتها على سطح العمل. فالملاحظ أن التغيرات بين المثول والتمثل عديدة. و يمكن النظر إليها على أنها غير محدودة ففرضيات التحول في صورة الجسد تبلغ اللانهائي. وتشترك عدة عوامل تجعل من احتمالات التحول في صورة الجسد غير حصرية. يستحيل الفضاء المحيط بالأثر صورة لفضاء هلامي رخو تذوب فيه التفاصيل وتتحول الأبعاد من تماسكها القائم على بديهيات الرؤية للفضاء وعناصره الإنشائية إلى فضاء منعكس مفارق لأبعاده. لكن الفضاء التمثيلي المنوجد على العمل التشكيلي يحافظ على الإيهام بالبعد الثالث. فالفولاذ المقاوم للصدأ يؤمن تلك الخاصية بإبانته للعمق. و من عوامل تحقق هذه الصورة تشكلها على سطوح منحنية. وبالنظر في تواجد الأجساد على العمل نتبين حدوث تغيرات في الأبعاد تتراوح بين الاختزال و التضخيم. فثمة أجساد فقدت طولها وأصبحت أقرب إلى كتلة مضغوطة تتجه نحو تجل مختزل في نقطة، و أجساد أخرى تزداد طولا في تمدد ملفت. إن هذه التحويرات على صورة الجسد ترتبط بزاوية النظر، فكل راء للعمل يرى أجساد الآخرين بشكل مختلف وهو ما ينطبق على مدركاته الوجدانية أيضا. يقترح أنيش كابور أعمالا تعيد للجسد اعتبارا في ظل الحياة المعاصرة المفعمة بالحركة ضده. ويتجلى ذلك في تفجير الطاقات الكامنة في علاقة الجسد بالنفس. فكابور يقدم أعمالا تكسر النظرة التقليدية للجسد في الفضاءات العامة في المدن المعاصرة (صورة5). ولعل انشغال الإنسان بنسق الحياة اليومية ومتطلباتها من ملبس و مأكل و عمل جعلت الجسد أشبه بآلة تتحكم فيها عوامل خارجية. حتى أن الحوار بين الأجساد يكاد ينحصر في مراقبة التشابهات بين أصحابها. فالناس يتشابهون كثيرا في رؤيتهم للجسد، و يرتبط ذلك بالعوامل الثقافية المخطط لها من قبل الإعلام و شركات الموضة والتجميل. لكن عبر الفن تقدم البدائل نحو تعامل مغاير مع الجسد الخاص و جسد الآخر. فالفن قادر على إعادة الاعتبار للجسد وتفعيل مدركاته الحسية و الوجدانية و تقديم بدائل صورية لهيئته، و هو ما نتبينه في أعمال كابور. إن مرايا الفنان تعيد تشكيل خارطة المحسوس وتقلب موازين المعادلة النظرية حول خبرات الناس بالجسد وتحقق عالما بديلا مثيرا و داع للتفاعل. فعبر الفن يكون الجسد الخاص على موعد مع جسد الآخر، ينشد إلى صورته الهلامية، متمعنا في التحولات اللاحصرية التي تطرأ عليه. تعد إشكالية التجلي هذه فريدة لكونها تقدم للإنسان عالما فريدا تتكسر فيه حدود الزمن والمكان. فالمتلقي يسافر عبر صورة الانعكاس المباشر إلى عالم الخيال حيث لا معنى للحدود. إنه الانفتاح على عوالم افتراضية ممكنة، و لقاء مع مثيرات حسية تفرض نفسها بفعل فرادتها و جدتها. إنها العودة إلى الجسد و المعنى. معنى أن يكون للإنسان منظور مختلف على التمثلات التي أسست بخبراته حول الجسد في الفضاء المعيش. إنه الجسد البديل الذي يقترح من خلال آليات التمثل التي يقدمها كابور. تتعلق هذه الخصائص بتلك العلاقة بين الجسد والنفس و تثير ذلك البراديقم الكلاسيكي حول أفضلية العقل على الجسد. فالعقل يعقل الصورة ويحدد ظوابطها عندما يكون في علاقة مباشرة مع الحواس. وترتبط خبرة العقل ارتباطا وثيقا بالإدراك الحسي. لكن هذا الإدراك مظلل للعقل في كثير من الأحيان لأنه يعقل حدود التجربة بحدود الحواس. فتجليات الوجود لا سيما الجسد والجسد الخاص غير محدودة عندما تعتمل تمثلات الخيال. و إن لم يتسنى لجميع الأشخاص تمثل بدائل صورية للجسد خارج سياق الخبرات الحسية، فإن كابور يموضع مواد قادرة على تحفيز الخيال اعتمادا على فيزياء المادة. فالصورة تتحول من المدرك الحسي المتعارف عليه إلى مدرك حسي مستحدث يحاكي آليات الخيال في تحوير الصورة والحياد بها عن قدرات العين. تبدو الوسائل المعتمدة من قبل الفنان بسيطة و مقتبسة من أغراض نتعامل معها يوميا، لكن قدرتهما على تحويل المرآة إلى موطن لتشكلات الخيال يحدث الفرق بين الغرض الاستهلاكي العادي و الغرض الفني و يكرس علائقية بديلة بين الماثل و المتمثل و مسارات الانعكاس المراجع : (1) محمود رجب، فلسفة المرآة، دار المعارف، الطبعة الأولى 1994، ص16 ص17. (2) أنيش كابور، فنان تشكيلي معاصر، بريطاني من أصل هندي ولد سنة 1954. عرف الفنان بمنحوتاته الكبيرة الحجم و المنشأة بمادة الفولاذ المقاوم للصدأ مرآوي السطوح... (3) محمود رجب، فلسفة المرآة، دار المعارف، القاهر، الطبعة الأولى،1994، ص193. (4) عبد العالي معزوز، فلسفة الصورة، الصورة بين الفن و التواصل، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، 2014، ص161. (5) المرجع السابق، ص193. (6) موريس مورلوبنتي، تقديم و ترجمة دكتور حبيب الشاروني، منشأة المعارف بالاسكندرية، صفحة 19. (7) رشيدة التريكي، الجماليات و سؤال المعنى، ترجمة و تقديم إبراهيم العميري، الدار المتوسطية للنشر، بيروت تونس، الطبعة الأولى 2009. الدراسة كاملة مع الصورمن الرابط التالي الكاتب:
اسرة التحرير بتاريخ: الثلاثاء 11-09-2018 11:57 صباحا
الزوار: 1758 التعليقات: 0
|